حنا مينه: إلياس أبو شبكة وسعيد عقل.. وذاكرتي!
يا رفاقي بكيت فيكم شبابي
كل عيش بعد الشباب فضول
أقول لأهلي إنني, بعد الثمانين, ألعب في الوقت الضائع, أو في الوقت المستقطع, حسب تعبير الحكام في كرة القدم, وكل ما أخربشه على الورق, بعد الآن, للتسلية أو للعند, لأن الأطباء وكلهم أعزاء أجمعوا مرة ومرة ومرات أنني مرهق, وأن علي ان استريح راحة كاملة, في اضراب حتى عن الكلام, بعد أن رفضت عمري كله هذه النغمة النشاز, التي اسمها (الإضراب عن الطعام).
إنني أفهم الدافع المرير, الأليم, الذي يلجأ إليه السجناء وثوباً على الأذى أو دفعاً له, في السجون التي, ظلماً وعدواناً, يحشرون فيها, وفي سجون اسرائيل الباغية خصوصاً, لكنني في السجون التي عرفتها وهي كثيرة إنما غير طويلة أيام الاستعمار الفرنسي, والاقطاع, وحكم المشير عامر, في الإقليم الشمالي طيب الذكر, وسنوات مكافحة الشيوعية المريرة, على الطالع والنازل وكلما دق الكوز بالجرة, كما يقول المثل, في هذه السجون كنت مرتاحاً نوعاً ما!
لقد كنت في شبابي واستواء رجولتي, خريج سجون, وصرت الآن خريج مشاف, لكنني لا أموت, ولا أفسح مجالاً للذين يؤاتيهم حظ الموت, أي إنني أسد الطريق على هؤلاء وعلى كتاب الرواية التي في استقراء ما هو عندنا, وعند غيرنا أيضاً, تنبأت, كما هو مثبت في كتاب أحاديث وحوارات معي, ألفه الناقد اللبناني محمد دكروب, قلت إن الرواية ستكون ديوان العرب في القرن الواحد والعشرين, فصارت ديوان العرب في القرن العشرين, وقامت علي الدنيا ولم تقعد, لأنني أسأت الأدب في هذه النبوءة, وأنزلت تاج الشعر عن صلته هذا أو ذاك ممن دفعتهم الغيرة, أو الحماسة الفردية ما دمنا في العصر الزراعي بعد, الى شتمي, ثم دار دولاب الزمن, والرحمة على والدي الذي أورثني هذه المقولة: (الدهر دولاب, لا عمك ولا خالك!) وتسابق الجميع الى رشقي بعطر الياسمين الدمشقي لأن البنوءة تأكدت صحتها وصارت هذه المقولة (مهوى قلوب العذارى) فتحول الكتبة ذكوراً وإناثاً الى كتابة الرواية هذه التي دربتها بشكل واسع حمداً لله, نستطيع في رحابته, أن نمشي أو نرقص أيضاً كلنا ورحمة الله على تحية كريوكا, فقد أخذنا عنها هذا الفن أي الرقص الشرقي, والرحمة أيضاً على سامية جمال, التي جاءت بعدها ولم تكن أقل منها شهرة وتحية لأحد الدخلاء من إخوتنا الكتاب في مصر, لأنه بعد قرنين اكتشف أن أحد كتاب بحر النيل, هو الذي كان صاحب مقولة (الرواية ديوان العرب) في القرن التاسع عشر لا حنا مينه, الذي رجم بالحجارة وهو يتعاطى كتابة الرواية في دمشق!
(اللت والعجن) ليسا مهنتي فلا آخذ ولا أعطي ومقولة الرواية (ديوان العرب) سرقتها كما سرقت أشياء كثيرة غيرها وهذا هو السبب في دخولي السجن وليس الاستعمار الفرنسي أو جناب المرحوم المشير عامر, والي الإقليم الشمالي.
إن الحلاق الذي كنته, في حي القلعة في اللاذقية لقط من مهنته الحلاقة جوهرها وهو (طق الحنك) كما يقولون في جزر القمر إحدى دولنا العربية, المشهورة, وإثباتاً لهذه الصفة الذميمة عند الحلاقين طق الداعي حكنه, وهو يتكلم عن شاعر اسمه الياس أبو شبكة في لبنان ومن ذوق مكايل في بيروت, توأم دمشق, وقد ابتعت من كتب ودواوين هذا الشاعر عدداً لا بأس به, وزعتها على الصحب في اللاذقية, والشام مدينة الطريق المستقيم والمسألة ان الياس أبو شبكة مات بداء السرطان وهو في السادسة والأربعين من عمره, ولم يزره سعيد عقل, وكلما كنت في بيروت, أيام زمنها الجميل الغارب, زرت سعيداً وأثرت حفيظته بقولي:
- أخطأت لأنك لم تزر الياس أبو شبكة وهو في المستشفى!
فيرد علي سعيد عقل, بصوته المتهدج, وعنجهيته المحبوبة:
- الياس يا حنا ادعى أنه عبقري وأنت تعرف والعالم كله يعرف ان في لبنان عبقرياً واحداً اسمه سعيد عقل.. لا تنكرزني ولا تكن ثقيل الظل, مثل حكامنا, (ولك شو هالبضاعة)؟!..
- أضاف:
- لو كان الأمر بيدي, كنت جعلت لبنان غنياً ببيع الماء وحده, ينابيع لبنان ومغاراته المشهورة وأرز الرب الذي استعان سليمان الحكيم بخشبه لبناء الهيكل في القدس, هذه وغيرها تكفي.. وعلى (فوقه) أي على فكرة تعرف أن لامارتين الشاعر الفرنسي الشهير في القرن التاسع عشر زار لبنان..
قاطعته:
- زار سورية أنت الصادق, وقبلها زار بلغاريا وله منزل فيها, وعن بحيرتها إذا لم تخن الذاكرة كتب قصيدته المشهورة (البحيرة) التي ترجمت شعراً الى اللغة العربية.
- ومن الذي ترجمها؟! أنا أعرف كل هذا لكن الذاكرة لم تعد قوية كما كانت في الشباب.
- ترجمها اللبناني الدكتور نقولا فياض! هل تريد سماع بعض الأبيات من ترجمتها الى العربية..
- فوقني (ذكرّني)
- أنشدته هذه الأبيات التي علقت بالذهن:
أهكذا تنقضي دوماً أمانينا
نطوي الحياة وليل الموت يطوينا
تمضي بنا سفن الأعمار ماخرة
بحر الوجود, ولا نلغي مراسينا
بحيرة الحب, حياك الحيا
فكم كانت مياهك بالنجوى تحيينا
قد كنت أرجو ختام العالم يجمعنا
واليوم, للدهر لا يرجى تلاقينا
أضفت:
أنشدت هذه الأبيات لابن اللاذقية الكبير, البار, عالم الآثار جبرائيل سعادة فقال لي هذه الكلمات بالحرف:
(أنا أكتب باللغة الفرنسية كما تعرف, لكن اللغة العربية أجمل)
صاح سعيد عقل:
يحرس دينك يا حنا, أنا أوافق المرحوم جبرائيل سعادة الذي أعرفه تماماً وكان يزورني كلما جاء الى بيروت نعم أوافقه: اللغة العربية أجمل.. أجمل لماذا؟ لأن سعيد عقل يحبها وهي تحبه.. أم لك رأي آخر..
لا ليس لي رأي آخر, لكن اللغة العربية تحبني أنا أيضاً, وربما أكثر منك!
صاح سعيد وهو يخبط بكفه على ركبتي:
-لا يا حنا لا!! هذه نكرزة حتى لا أقول «تفشير».. أنت تنشد الشعر بشكل جيد, هل درست التجويد؟
- لا! لم أدرس التجويد.. كنت وأنا طفل في فقر أسود.. أما الآن فأنا في فقر أبيض, أي مستورة كما تقول ابنتي أمل..
زارني سعيد عقل وقال:
-فقر أسود, وفقر أبيض, أحسنت والله.. هذه لم تخطر على بالي!!
لو كنت لبنانياً يا حنا, كنت منحتك جائزتي..
- أنا, باختصار شديد, سوري, وأعتز لأنني سوري, ومن نبت أرضها الطيبة..
- مفهوم! مفهوم.. سورية ولبنان توأم, لكن اعتزازك هذا يعجبني, هل سمعت بشآمياتي.. شعر سعيد عقل وغناء فيروز باقيان على الدهر.. وأنت يا بني غير قليل.. زرني كلما زرت بيروت.. ولم أزره, لأنني لم أزر بيروت منذ عقد من الزمن!
حنا مينه
إضافة تعليق جديد