اسرائيل كما هي لا مستقبل لها
إسرائيل كما هي لا مستقبل لها. قناعة أصبحت أكثر ترسخا في أذهان الكثيرين ممن اعتقدوا بإمكانية بناء مستقبل مشترك معها.
والسؤال المطروح هو إلى أي حد يتحمل الذين وعدتهم الأيديولوجية الصهيونية والتيارات الدينية اليهودية المتطرفة بدولة من طراز خاص، دفع فاتورة ما يشنه جيش هذا الكيان من حروب وما يسببه لجيرانه من دمار؟
أليست مسؤوليتهم جسيمة في القبول بهذه السياسات وعدم رفض هذه العدوانية اللامحدودة التي ترتكب باسمهم؟
هل يمكن أن تبقى إسرائيل مزروعة بين جنبات بلدان المنطقة وتتصرف كالوحش الضاري، متحللة من كل الضوابط، ومعللة ذلك بحربها على الإرهابيين لحماية أمنها؟
ها هي مجزرة قانا الثانية، التي راح ضحيتها 57 قتيلا معظمهم من الأطفال، تجري بعد عشر سنوات من اقتراف الجيش الإسرائيلي لمجزرته الأولى في هذه البلدة الجنوبية الصامدة. وكأن اسمها وحده، وما له من رمزية وعلاقة مع السيد المسيح قبل ألفي عام، كاف لأن توجه إسرائيل آلة التدمير لأبنائها العزل، القابعين في منازلهم بعد أن تقطعت بهم الطرقات للنجاة بأنفسهم من هذا الجحيم.
وكأن التاريخ يعيد نفسه، في ظل غياب حلول ناجعة تضع حداً لمثل هذه الأهوال والسياسات التي ترمي إلى تفتيت بلدان المنطقة.
قبل قانا وعلى مدى 19 يوما حصلت مجازر عديدة أخرى في عدة بلدات ومدن لبنانية، استعملت فيها الأسلحة المحرمة دوليا واختبرت أسلحة جديدة على أجساد البشر.
لم يبق من وسيلة تدميرية إلا واعتمدت، بما فيها القنابل العنقودية والانشطارية واللولبية، في سياسة قتل منهجي للشعب اللبناني راح ضحيتها حتى الساعة 750 قتيلا.
وبغض النظر عن خسارة إسرائيل العسكرية التي لم تعترف بها، حيث فرضت قيودا شديدة على الإعلام في أراضيها واستهدفت بالقصف فرق المراسلين خارجها، فإن الخسارة الأولى التي منيت بها هي الخسارة الأخلاقية لمن كان ما زال محتفظا بأوهامه حولها.
لقد استهدف هذا الكيان لبنان في ماضيه وحاضره ومستقبله، في إنسانه وأرضه ومائه، بجرائم يمكن تصنيفها جرائم حرب، حسب اتفاقيات جنيف والبروتوكولين الملحقين بها وميثاق روما للمحكمة الجنائية الدولية.
هذه الوحشية، التي شبهها البعض بما يوازي محرقة اليهود على يد النازية، تطرح السؤال حول استقرار المعاناة في اللاوعي الجمعي.
هذا اللاوعي المرضي الذي ينتقل عبر الأجيال ويفرغ شحناته العنفية على الآخر المختلف، ذاهبا إلى حد تحميله مسؤولية ما يفعله به.
لكن إسرائيل التي تنتقم اليوم من لبنان وفلسطين، بشكل لا تقوى حتى العين على احتمال أهواله، لم تعد مقبولة لدى شرائح واسعة ممن كانوا يعتقدون بالتطبيع والسلام معها.
في الوقت نفسه، للأسف ما زال المتربعون على سدة الحكم في بلدان عربية عديدة يحصون الأموات والخسائر دون أن يحركوا ساكنا.
صحيح أن الشعوب العربية لم تكن تعول عليهم يوما، لكنها لم تفترض أن عريهم وصل لهذا الحد الفاضح. وهي تتساءل إن لم تكن محاكمة صدام حسين، رغم الدرك الذي وصلت له في إفراغها من مضمونها، درسا يمكن أن يتعظون به؟
لقد نعى الشارع العربي بغالبه هؤلاء الحكام وممثليهم في جامعة الدول العربية التي ليست بدورها أكثر من شاهد زور على مآسي الوطن العربي.
أما إذا ما رصدنا مناخ جمعيات المجتمع المدني، فنجد أن الكثيرين ممن انضووا تحت لواء هيئة الأمم المتحدة يبدون اليوم كمن دفنوا أوهامهم، بعدما بان وبوضوح لا لبس فيه أن هذه الهيئة، التي يقع في صلب مهمتها حفظ السلم ووقف الصراعات المسلحة، باتت بمثابة ورقة التوت التي تحمي عورات سيد العالم الأميركي وتابعه أوروبا.
لقد تيقنوا أن مصالح الدول العظمى ما زالت أكثر أهمية من احترام القوانين والأعراف الدولية والقواعد الأخلاقية التي نصت عليها معاهداتها التي حاولت تجسيد القيم البشرية النبيلة في التعامل بين البشر.
بارقة أمل تأتي أخيرا من المسؤولين اللبنانيين الذين وقفوا اليوم صفا واحدا متضامنا مع المقاومة اللبنانية، كما رفضوا لقاء وزيرة خارجية "الويلات الأميركية" بعد استقبالهم لها قبل أيام حين صرحت بأن الوقت لم يحن لوقف القتال، مانحة بذلك المزيد من الأيام لإسرائيل لتنفيذ خططها.
فهل هناك من ذرة حياء وضمير عند من لم تتعرف يوما على بسمة طفل وهي ترى أطفال لبنان يتناثرون أشلاء في كل مكان، وهل تستأهل أن تمتد اليد لمصافحتها؟
بارقة أمل أيضا تأتي من الشارع العربي الذي كانت له وقفة تضامنية رغم المنع والهري وخراطيم المياه والمهانة التي يتعرض لها للتعبير عن تضامنه مع أخيه العربي في العراق وفلسطين وفي لبنان.
لكن هل هذا كاف وهل بأقل من العصيان المدني يستطيع للإنسان العربي أن يسطر لغد مختلف، غد يعتمد على العلاقة الجدلية بين المقاومة والنهضة؟
لقد ساهمت عولمة وسائل الاتصال في تسييس الإنسان العربي وتنامي الوعي بحقوقه، كما ترك بصماته في روحه وعقله ما تعرض له من ظلم داخلي وجور خارجي، بحيث أن مشيعي الأطروحات الانهزامية والتطبيعية باتوا اليوم في وضع صعب. وأصبح بالمقابل من يقول بأن الحق لا يعطى وإنما ينتزع أكثر قبولا.
هؤلاء يعتقدون بضرورة الانتقال من موقع الدفاع عن النفس إلى الهجوم، واتخاذ المبادرة وابتكار أساليب جديدة في التعامل مع المعطيات والمستجدات.
لقد انطلقت ردود الأفعال على الظلم وانعدام العدالة بأشكال متعددة، لأنها طوقت وحوربت باسم الحرب على الإرهاب، وكأن إرهاب الدول ليس أشد فتكا من عنف الأفراد، في حين أن من العنف ما ليس إلا دفاع عن النفس.
وقد عملت الصهيونية العالمية طويلا على تحريك مشاعر عقدة الذنب عند الآخر الغربي واستفادت منها لأبعد الحدود، بحيث نشهد تباطؤا في الحراك الشعبي ضد جرائم إسرائيل ومواقف إعلامية لا تتوخى الحياد، إن لم نقل البحث عن تأييد الحق والعدل والتمسك بالموضوعية في تغطية الحدث.
إذا الكثيرون في العالم العربي باتوا متأكدين من أن الانتظار لم يعد يجدي نفعا وأن عليهم التصدي لجبروت القوة بكل الأشكال الممكنة، فذلك عائد إلى أعداد الضحايا التي تتساقط في كل يوم في العراق وفلسطين ومنذ مدة في لبنان.
لقد كادت أجساد الضحايا تصبح مجرد أرقام مع تلبد الأذهان والاعتياد على المهانة والقبول بدور المفعول به بدل الفاعل في مصيره.
فعقدة النقص التي تفضي للقناعة بأن القدرات الذاتية غير كافية للمواجهة تتأتى من التربية القائمة على القمع والتطويع وقتل الطاقات الخلاقة، من عدم إيلاء المرء وهو ما زال طفلا الثقة بالنفس والاعتماد على الذات، وتعويده على الطاعة والإذعان لمن يملك السلطة، أية سلطة، ولو كان ناقص العقل أو معتوها.
لكن يخطئ من يعتقد أن الرأي العام شيء يصعب التأثير عليه. من المؤكد أن الطريق الأمثل لتحويل الأقلية أغلبية هو الإيمان بعدالة القضية التي يدافع المناضلون عنها، وانتزاع حقوق شعوبهم بيدهم، والمثابرة على قناعاتهم، وطول النفس في العمل المقاوم، مهما كلف ذلك من تضحيات جسام.
ولتغيير السلوك لا بد أيضا من قدر من الوعي بالحقوق ومن الاقتداء بنماذج جديرة بأن تحتذى.
قلة من يعتقدون بأن الذين يمتلكون زمام مصائر شعوبهم هم جديرون بهم ويستحقون مكانتهم. وهناك من يطالب بوجوب إحالتهم إلى محاكمات على خلفية ما اقترفوه من عسف وجرائم بحق شعوبهم.
إن ما يحصل في العراق وفلسطين ولبنان من مواجهات وتصد للظالم ودفاع عن الحرية والكرامة يفتح، رغم الثمن الباهظ، فسحة أمل وتفاؤل، خاصة أن شعوب المنطقة العربية تجد نفسها اليوم على مفترق طرق يرسم منزلها ضمن ما يسمى شرق أوسط جديد.
لكن ما يبقى بالمرصاد لإجهاض حالة الوعي هذه هو محاولات تحريك الفتن الطائفية والتلاعب بالضمائر وتسميم المشاعر ودس الشائعات لتفريق الصفوف وجر الشعوب إلى موقع الناقم أو المحبط أو المتفرج.
هناك حروب إعلامية ونفسية تشن جنبا إلى جنب مع الحروب الكلاسيكية العسكرية. وفي وضع كهذا، مسؤوليتنا في الوطن والعروبة والإنسانية جسيمة. فالحرائق المشتعلة ستطال آثارها العالم بأسره.
لبنان، هذا البلد الصغير بحجمه الكبير بفعله لا يمكن أن يصبح المعبر الذي تمر منه الدبابة الأميركية لبناء شرق أوسط جديد تفصله على مقياس مصالحها.
وبالتالي، الكل معني بتضميد جراح شعبه وبورشة إعماره على أسس سليمة.
فليكن العمل من أجل مجتمع المواطن وليس مجتمع الطوائف، ولتكن الانطلاقة على قواعد جديدة للتحرر من شوائب الماضي الكثيرة.
عملية ترميم الحجر والبشر قد تكون طويلة، وعسى أن يستحق شعب لبنان وطنه وأن يكون جنده، بأن لا يدير له ظهره عند كل استحقاق ويتعامل معه كفندق أو ممر عبور.
أطفال لبنان الذين عاشوا أهوال هذا العدوان سيكبرون قبل الأوان بعدما فقدوا براءة الطفولة.
ونتساءل إلى أي مدى سيكون ترداد ما عاشوه من أهوال على بناء شخصيتهم، حتى ولو لم يطلهم أي أذى جسدي، خاصة وأنهم أخذوا على حين غرة، ولم يكن أي شيء يحضرهم لتوقع هذه المآسي.
لكن قد تندمل جراحهم ويستعيدون بسمتهم لو عرفنا كيف نتعامل معهم ونتيح لهم ترجمة هواجسهم ومشاعر الغيظ مما لحق بهم من حيف وظلم.
ليس بالإمكان افتراض أن آليات النسيان تحل المشكلة، حيث أن ما يبقى في مخزونات اللاوعي مؤهل لأن يخرج للسطح في كل مناسبة تستحضر الحدث.
ومن لم يعش الحوادث مباشرة، ستترك آثارها بصماتها على بنائه عبر ما خبره المحيط المباشر له، هذا الوعاء الحاضن له والمكلف بتأمين الحماية الضرورية له.
إن في حزن الأهل والأقارب وعدم تماسك الخلية الأسرية بسبب الأهوال التي تعيشها ما ينقل له ترداد الصدمات التي ستترك آثارها على مستقبله.
إضافة لهذا، يتلقى الطفل هذه الصدمات حسب شخصيته وسنه ونضجه وإدراكه للمحيط ومناخه، كما أنه يمر بمرحلة عمرية تصبح فيها إشكالية الموت مسألة هامة، فيطرح على أهله أسئلة كثيرة بصددها. فكيف لو خبرها على أرض الواقع بخسارة عزيز عليه؟
كذلك يتنامى لديه الشعور بالذنب فيما لو أصاب مكروه أحد أقاربه.
ومن نزحوا أو هاجروا سيعيشون حالة الانسلاخ المفاجئ هذه عن محيطهم بشكل لا يمكن تحمله، خاصة عندما تستحضر في الذاكرة تجارب وخبرات سابقة، بما فيها مرحلة الانفصال عن الوالدين في عمر مبكر.
هذه الصدمات تؤثر أيضا على الذاكرة، بما يفهم منه حماية الذات ولو أن الآليات الفاعلة هي غير مدركة أحيانا كثيرة.
ردود الفعل العنفية هي نتيجة منطقية لما يوجه للطفل من عنف جسدي أو نفسي، والأشكال التي تتخذها مختلفة، وتعبر عن نفسها خاصة من خلال الجسد وأعراضه المتعددة.
فالطفل غير قادر بعد على التعبير عنها عن طريق الفكر كالكبار، وإن كان هناك منهم من سيكون شكل التعبير عن معاناتهم بإعمال العنف ضد غيرهم وبعدوانية قد تتخطى الحدود المقبولة اجتماعيا.
الصمت إزاء الصدمات، اعتقادا بأن الطفل سينسى ما عاشه من أهوال لو لم يتم تذكيره بها، ليس الحل الأفضل، بل العكس هو الصحيح، أي وجوب إيجاد المراكز أو على الأقل العناية من قبل الأهل والتوجيه وتسهيل إمكانيات التعبير عما يعتمل في صدره.
وحيث أن الكلام ليس الوسيلة الأسهل للطفل خاصة إن كان صغير السن، يبقى الرسم أو اللعب، حسب الفئة العمرية، الوسيلة الأمثل لتفريغ الشحنات العنفية والتعبير عما يختلج في النفس.
هذا جزء من واجبي كلبنانية مغتربة أؤديه لأطفال لبنان بالتنبيه إلى المخاطر المحدقة بهم والتي لا توجه لها الأنظار غالبا.
أما من رحلوا إلى الآخرة دون جرم اقترفوه سوى أنهم مروا من هناك، من أمام الآلة الحربية الإسرائيلية، فألقي عليهم وعلى أهاليهم شهداء الحرية، تحية إجلال وإكبار.
لقد رحلوا ليبقى لبنان، فهل سنخلد ذكراهم بما يرتقي إلى مستوى خسارتهم؟
فيوليت داغر
المصدر: الجزيرة
إضافة تعليق جديد