حنا مينه: عشت في الخطأ وسأموت في الخطأ
نتطلع إلى حنا مينه على انه الكاتب الأقدر على التعبير عن عذابه من بين غالبية الكتاب العرب، فهو المعذب النموذجي الذي وجد في آن معا أعمق مستوى من العذاب ووسيلة مهنية للتسامي بالمعنى الحرفي. انه يتعذب بصفته إنسانا، ويحول عذابه إلى فن بصفته كاتبا. انه الكاتب الذي يكتشف العذاب في تدبير الفن، تماما كما اكتشف القديسون فائدة العذاب وضرورته في تدبير الخلاص. ميزات مينه الأساسية بوصفه روائيا، هي الرهافة، والاختصار، والتحكم، والبساطة والعمق في آن معا، ويعزى ذلك إلى ان مواضيع أعماله تعمق إحساسنا بالواقع وتملك قدرة سحرية على إقناع القارئ. هذا الحوار معه، وهو في السادسة والثمانين مراجعة لمسيرته ولما قالته له الحياة، وهو اكثر من ممتع بالمعنى الادبي كما بالمعنى الانساني العميق.
■ إلى ماذا يحن حنا مينه اليوم إلى "المستنقع" ام إلى عمله في الميناء كحمال ام إلى البحار المغامر، ام انه بعد كل هذه السنوات استرخى إلى لقب كاتب؟
- حنا مينه اشتغل صانعاً واشتغل بحاراً على المراكب الشراعية وعمل حلاقاً وحمالاً في الميناء، وعاش الحياة مغامرة، وقد كان ومازال حتى الآن، وفي هذا العمر المتقدم على موعد مع المغامرة. لقد عاش الحياة لأنها جديرة بأن تعاش، عاش مغامراً ولايزال. لم يكن حتى الأربعين من عمره يخطر على باله أنه سيكون كاتباً بهذه الشهرة. المغامرة جوهرةُ الحياة، تماماً كالمرأة التي هي جوهرة العيش، وقد قال الشاعر التركي ناظم حكمت "العيش جميلاً كان وسيبقى يا صديقي"، وعلى مدى هذا العمر المتقدم لم أسترخ ولا تزال في قلبي هذه المهنة الحزينة مهنة الكتابة، التي هي مهنة جميلة ورذيلة ولا انفكاك منها إلا بالموت.
■ في شبابك لم تأنس إلى إقامة محددة، لقد عشقت الترحال، بيروت، الإسكندرية وصولاً إلى الصين. ماذا تقول لك أسفارك الآن، أم أن الترحال وطن ؟
- حنا مينه كما هو معروف عاش في الخطأ، وكتب في الخطأ، وربما سيموت أيضاً في الخطأ. وله أمنية واحدة أن يموت في البحر أو على مقربة منه. عرفت الحياة بأربع جهاتها. تغديت في الوقت المناسب في معامل " تويوتا " التي تعاني الآن من مشاكل، وبعد سنة أو سنتين كان لي حظ العشاء في المكسيك. أما أميركا فإنني لم ادخلها. وصلت إلى نيويورك وخضعت كعربي (والعرب متهمون بالإرهاب) إلى تفتيش دقيق في ثيابي وفي جسدي. فأدرت ظهري لنيويورك وأميركا كلها وعدت سالماً سعيداً، لأني اكتفيت من هذه المغامرة بالاياب.
حنا مينه هو البحر، والبحر هو حنا مينه، وكلاهما وفيّ لصاحبه. إلا أن تقدم العمر جعلني أودع البحر قبل عشر سنين. وعن هذا الوداع كتبت روايتي "الرحيل عند الغروب". الوطن هو الحب الأول والعشق الأول والوفاء الأول، وأنا نبتة في هذا الوطن، وإذا قُلِعتُ من تربته متُّ كما هو شأن كل نبتةٍ تقتلع من ترابها.
■ عملت في الصخب الحزبي لفترة من شبابك، ثم غادرت دروب النضال الوعرة، تاركاً الإيديولوجيات لغيرك. لماذا هذا التخلي عن الانتماء، مع العلم أنك في كتاباتك من أكثر الكتاب العرب المنحازين إلى الطبقة العاملة إذا جاز التعبير؟
- مارست السياسة، أو فَرَضَ عليّ الزمان أن أعمل في السياسة ولم أبلغ السابعةً عشر من عمري. وكافحتُ دفاعاً طويلاً وشاقاً في سبيل العدالة الاجتماعية، إذا ما تركنا كلمة الاشتراكية جانباً لأنني كنت في الصين وأدركت حكمة الصينيين التي تتجلى الآن في العودة إلى المرحلة الرأسمالية حتى لا يكون قفز عليها بل انهار بسببها كما حدث في "الاتحاد السوفياتي". أما أنني من أكثر الكتاب انحيازاً إلى الطبقة العاملة فهذا قول صحيح، لكن لا فضل لي فيه لإنني وأنا فقير بالغ الفقر في حياتي كان لا بد لي من السير في هذا الطريق الذي مشيت فيه حافياً في حقل من المسامير تاركاً في كل موطئ قدم نقطة من دمي.
■ وماذا عن "المستنقع" أم أن الحياة كفيلة بمحو العاتم في الطفولة والشاحب في الأمكنة؟
- حياة الأمة العربية الآن مع الأسف في ما يشبه المستنقع إنها في جزر وإذا أتى المد المنتظر بعد مئة عام نكون من المحظوظين في حدود رأيي.
■ لقد خبرت الأشياء الأليفة في المكان والزمان، كيف تقارب هذه الصداقة المفروضة عليك... المنزل، السرير، النافذة، وغير ذلك من الأشياء والوجوه التي تدور حولك؟
- نعم خبرت المكان والزمان بحكم حبي للحياة ومغامراتي المتواصلة فيها، المغامرة التي فُرضت علي ولم تزل. لكنني لست أليفا مع المنزل والسرير والنافذة، وهذه الألفة في رأيي هي المألوف في الحياة. وأنا أدعو إلى اختراق هذا المألوف، وإلى قتل العادية بغير رحمة. وإلى التخلي عن آفة العقل التي هي من مفاخر رجال السياسة عندنا. وسبب ما نحن فيه من وضع لا نحسد عليه هو هذا العقل، وقد كان عندنا زعيم واحد مجنون، فتعقل الآن. وليته لم يتعقل. فالعقل الذي اعتبره أبو العلاء المعري إماماً هو بليّة الوطن العربي. فنحن في الوطن العربي الكبير كلنا عقلاء، ونفاخر بأننا عقلاء، وهذه هي البليّة. فليت المسؤولين العرب يميلون إلى الجنون قليلاً، أو يتبعونني على الطريق غير المستقيم. الطريق الذي أقول عنه أنا "نصف مجنون، نصف عاقل" وأفضل نصفي المجنون على نصفي العاقل. وهذا الجنون مع الحظ هو مصدر شهرتي الكبيرة. أعرف تماماً أنني بدأت الكتابة في الأربعين من عمري، ولكنني لا أعرف كيف جاءتني هذه الشهرة العالمية التي أنا على يقين أن الحظ لعب دورا فيها.
■ لنتحدث قليلاً عن "المصابيح الزرق" عن الزوارق ورحلات الصيادين وشباكهم الفارغة، عن بحر اللاذقية الأليف والغريب في آن. ماذا عن تلك المرحلة ؟ وكيف تصف لنا الآن من معتزلك إذا جاز التعبير شباب البحر وأمواجه؟
- تودون الحديث عن المصابيح الزرق، هذه التي هي المبتدأ والخبر في حياتي. أما الزوارق ورحلات الصيادين وشباكهم الفارغة، وبحر اللاذقية الأليف والغريب في أن هذه الأمور قد جرى الكلام عليها كثيراً وطويلاً ولا ضرورة للكلام عنها لأنها حبي الأول والأخير. وليس الأول لأنني وأنا حلاق كتبت مسرحية غيّرتُ فيها العالم في ستة أيام، وفي اليوم السابع استرحت. فقد ضاعت الآن وأنا غير نادم عليها.
■ لنتوقف قليلاً عند " حكاية بحار" ما الذي ترغب أن تضيفه على هذه الرواية اليوم؟
- حكاية بحار هي أحب حكاياتي، وقد تُرجمت إلى اللغة الروسية، وأجمل ما فيها ليس الحدث أو المعالجة الناجمة، كما هو الرأي السائد بل أغنية "يا ماريا يا مسوْسحه القبطان والبحرية" التي كتبت عنها أكثر من خمسين صفحة في المدخل إلى عالم البحر وحكاياته.
■ من يقرأ لك يشعر أنك تعيش مشدوداً إلى العذاب، أو كأنك تنام على سرير من الشوك. ألم تسعفك الكتابة؟ ألم تكن ملاذاً، إذا لم نقل خلاصاً؟
- لست مجنوناً للعذاب ولا مغرماً به، رغم أنني عانيت عقدة "تعذيب النفس" طويلاً حتى انتصرت عليها أو أكاد. أنا مع الفرح، إلا أن فرحنا في هذا الشرق قصير جداً، وحزننا طويل جداً، وحتى إذا ضحكنا، نخاف ونقول "إن شاء الله يكون هذا الضحك على خير".
■ دائماً كنت تتحدث عن إقامتك في الحياة كضيف ثقيل، إلى درجة أنك كنت تردد ما معناه "أهلا بالموت" هل نلمح في هذه الأقوال فعل الشهادة، أم رغبة في الانتحار؟
- نعم أنا ضيف في هذه الحياة، وكلنا ضيوف في هذه الحياة، وقد قلت إنني لا أسكن إلا في بيت أبي، وليس لأبي بيت لا في البحر ولا في البر. أبي كان غريباً عجيباً رحمه الله، كان رخواً أمام العرق والمرأة. فلم يحصل على الاثنين، لكنه كان حليماً لا يمل الترحال. كأنما هناك شيء خفي يناديه إلى الرحيل، ولا أذكر أنه عاد من رحلاته إلا فارغ اليدين خائباً، لكنه وهذا ما أرجحه، قد أفاد من هذا الترحال الدائم، وعندما كنت يافعاً قال لي هذه الكلمة: "الدهر دولاب، لا عمّك ولا خالك" وليت الذين يريحون أقفيتهم على الأرائك، ورفاهية المناصب يدركون أن الدهر دولاب، وأن عليهم أن يكونوا مع الذين يؤمنون أن الشعب هو المصدر أولاً وأخيراً وأن "للظالم يوما وللمظلوم يومين".
■ ماذا عن الأصدقاء يا حنا، من تذكر منهم اليوم؟
- ماذا عن الأصدقاء يا حنا ؟ وجوابي لماذا أفتح الجراح من جديد؟
أم كلثوم في قصيدة الأطلال للدكتور إبراهيم ناجي تغني هذين البيتين:
كلما التأم جرحٌ/ جد للتذكار جرحُ
فتعلّم كيف تنسى/ وتعلم كيف تمحو
والداعي في الصف الأول من مدرسة النسيان. وليس لي حكمة التنجيم، فالمنجمون كاذبون ولو صدقوا كما يقول الحديث الشريف. ولو أعددت أحبائي الذين سبقوني إلى الرحيل في عربة الموت لكان عليّ أن أبدأ ولا أنتهي، وأنا أشقى لأنني لا أستطيع البكاء عليهم واحداً واحداً وأكتفي بالحديث النبوي "أذكروا محاسن موتاكم".
وكما قال الشاعر بدوي الجبل:
نام عند الثرى أحباء قلبي/ فالثرى وحده الحبيب الخليل
يا رفاقي بكيت فيكم شبابي/ كل عيش بعد شبابٍ فضول
■ كتبت كثيراً عن الفقراء والمحرومين والمهانين، هل كنت تود أن تقول أنك منحاز إلى هذه الفئة من الناس؟
- لقد كتبت كثيراً عن الفقراء والمحرومين، وفي جوابي أقول انا كتبت بذلك عن نفسي، وهل أحرم من الحديث عن نفسي؟ أنا الفقير بإذنه تعالى، والمحروم الأكبر بإذنه أيضاً، لكنني غير مهان كما في السؤال، حنا مينه له هذه المقولة. "ولدت كريماً وزكرتاً وسأموت كريماً وزكرتاً" وأسأل الله أن يساعدني على بقاء هامتي مرفوعة كما كان حالها على مدى عمري.
■ هل يعني هذا الكلام أن حنا مينه ملتزم سياسياً أم أن الايديولوجيا والأفكار الجاهزة لا تعنيه؟
- وتسألونني هل حنا مينه ملتزم سياسياً وهذا السؤال غريب، لن أجيب عنه. فبعد كل هذا العمر وكل هذه المغامرات، لم يعرف الناس عني أنني ملتزم سياسياً؟ سياسياً لا حزبياً، الأحزاب لها تكتيكها، أما الكاتب فإنه لن يكون من أزلام أي سلطة في العالم وإلا مات وكان قلمه من الأقلام غير الشريفة كما هي حال اقلام المنافقين المتكاثرين أو الكثيرين هذه الأيام الرديئة، ذلك أن الرداءة والنفاق صار لهما ثقافة في حياتنا مع الأسف.
■ لنعد إلى "الشراع والعاصفة"، وبعد ذلك إلى "الياطر" التي أصبحت من اشهر رواياتك، لماذا لم تكمل الجزء الثاني منهما كما وعدت؟
- الشراع والعاصفة. هذه الرواية هي التي عمدتني روائياً، والعماد لم يكن في نهر الأردن المبارك. بل في سهر الليالي على فوانيس فقيرة ناحلة كفقري ونحولي. أنا الذي ولدت نحيلا إلى درجة لم يصدق أحد أني سأعيش وأنني سأجن هذا الجنون المشهور به.
■ في ختام الحوار ما الذي ترغب في إضافته؟
- أرغب في أن تتكرموا وتنقلوا تحياتي إلى الجاليات العربية في موسكو، التي أنتم رسلها الكرام إلي، لقد صار بيننا ماء وحديث وقهوة، وأرغب صادقاً أن يكون بيننا خبز وملح وعرق في الوقت الذي تريدون.
■ ما الذي قالته لك الحياة، أي وصية تتركها لأجيالك ولم تكتبها؟
- قالت لي الحياة: لا تخف الحياة، وبذلك تجعل الحياة تخاف منك.
■ وماذا عن الحب يا حنا؟
- المعروف أنني محروم من شيئين هما ملذات الدنيا، السُكر والحب، فأنا لم أسكر عمري كلها، ولم أحب عمري كلها، حتى كثر الحديث عني وعن الحب وصاح الكثير من قرائي هذه الصيحة: "حب وخلصنا من هذه المشكلة".
بطاقة
حنا مينه (1924) ولد في مدينة اللاذقية في سوريا، لعائلة فقيرة، وعاش طفولته في حي المستنقع في احدى قرى لواء اسكندرون. احترف العمل بداية في الميناء كحمّال ثم احترف البحر كبحار على المراكب. اشتغل في مهن كثيرة، من اجير مصلّح دراجات، الى مربي اطفال في بيت سيد غني، الى عامل في صيدلية، الى حلاق، الى صحفي، الى كاتب مسلسلات اذاعية باللغة العامية، الى موظف في الحكومة، الى روائي، نوهنا المحطة قبل الاخيرة، اولى رواياته التي كتبتها كانت "المصابيح الزرق".
كتب اكثر من 30 رواية، منها ثمان خصصها للبحر الذي عشقه.
من روايته الشهيرة "النجوم تحاكم القمر" و"القمر في المحاق" و"نهاية رجل شجاع" و"بقايا صور"... ومنها ما تحول الى اعمال تلفزيونية. يعتبر من اكثر الادباء انتشارا في العالم العربي بعد نجيب محفوظ والشاعر نزار قباني.
حسين نصر الله
المصدر: الكفاح العربي
إضافة تعليق جديد