«جنود الله» للروائيّ السوريّ فوّاز حدّاد
تستأثر مآسي العراق المتشعّبة ، قبل الاحتلال وبعده ، باهتمام الكثير من الأدباء ، ذلك أنّ العراق يشتمل على تجارب فريدة ، تفوق ـ في سحرها القاهر ، وغرائبيّتها الوحشيّة ـ أيّة مقدرة تخيّليّة ، فتكون الواقعيّة المُستعرضة ، أنفذ تأثيراً ، وأكثر إيغالاً وتفصيلاً من أيّة محاولة أخرى بديلة. ينفتح ، بذلك ، الباب أمام تصاعد رواية الحرب العراقيّة الأهليّة والخارجيّة ، وتطورها ، والتي لا تلوح ، في الأفق ، أيّة نهاية وشيكة لفصولها الدمويّة المتناسلة بفظاعة وقسوة.
يختار الروائيّ السوريّ فوّاز حدّاد العراقَ مَسرحاً لأحداث روايته "جنود الله" ، (صدرت عن دار رياض الريّس ، بيروت ، 2010). يروي روايته على لسان ساردْ يبوح بما لديه حول تجربته المريرة في تتبّع ولده الذي يغادر إلى العراق ، عقب الاحتلال ، في محاولة منه لاستعادة ابنه سامر. وبناء على تكليف من قوّات الأمن السوريّة والاستخبارات الأميركيّة: لأنّ ابنه ينضمّ إلى تنظيم القاعدة ، ويتبوّأ مركزاً قياديّاً فيه ، يتسلّم إمارة بلاد الشام ، ويغدو حلقة الوصل بين عدد من التنظيمات والفروع ، ويجنّد المتطوّعين والمجاهدين ، ويدفعهم إلى تنفيذ عمليات انتحاريّة.
تبتدئ الرواية بمناجَيَات الأب العائد من رحلته الفاشلة لاسترداد ابنه من براثن القاعدة. يكتشف نفسه محمولاً على محفة ، في المشفى ، يُطالَب بالتفصيل في الاعتراف بما شاهده ومرّ به ، لكنّه يرفض التذكّر ، ويصرّ على نعمة النسيان: لأنّ كارثيّة الواقع تجبره على ذلك. لكنّه ـ برغم تصريحه الاستهلاليّ ـ بعدم رغبته في الرؤية ، ولا التذكّر: لأنّ ما أصاب البصيرة أشدّ من العمى. وفي ذروة الألم يتجرّأ ويروي كيف اضطرّته ظروف قاهرة ، للسفر إلى العراق ، الذي انتقل من الجوع والحصار ، إلى الاحتلال والمهانة: العراق الذي لا مكان فيه للعقل أو العدالة أو الرحمة ، بل للخيانة والوشاية والخطف والذبح والقتل على الدين والطائفة والهويّة والاسم. يشاء حظّه أن يعود متظاهراً بفقدان الذاكرة ، والنسيان الرحيم: لأنّ الواقع الذي اصطدم به ، كان قاسياً ، ولم يستثنً أحداً من قسوته وإجرامه ، لذلك فإنّه يعطّل ذاكرته ، يفضّل أن يبقى رهين ذاكرة سوداء ، على أن يبوح بما خبره ورآه وعاناه: لأنّ ذاكرته ـ حينذاك ـ ستطلق شياطينها وكوابيسها الواقعيّة. نجا ، لكنّه لم يستوعب عودته إلى الحياة إلاّ على أنّها عودة إلى الرعب. لم تهمّه معرفة القصّة التي دارت في الخلفيّة عن اختطافه وإنقاذه ، بل همّه أن يتناساها بتذكّرها بتفاصيلها: بكتابتها وتوثيقها.
يُظهر الكاتب كيف أنّ كلّ فريق يزعم الأحقّيّة والمصداقيّة. يكون التمثيل بالجثث مقابل التمثيل بالجثث. يتمّ اللجوء إلى استعمال الأساليب نفسها ، حيث التهاون يعني الضعف وعدم القدرة على الردّ ، كما أنّه يتّخذ من شخصيّة واقعيّة أحيطت بالكثير من الألغاز والأسرار والأساطير شخصيّةً روائيّة ، وهي شخصيّة المسؤول في تنظيم القاعدة: أبو مصعب الزرقاويّ ، الذي يلتقي به السارد في رحلته ، ويدور بينهما جدال عقيم ، فيدافع كلّ منهما عن قناعاته. يستكمل ذلك السجال مع ابنه من دون أيّة نتيجة. وبالحديث عن الزرقاويّ ، وجعله شخصيّة روائيّة ، يُدخل فوّاز حدّاد روايته في معمعة الواقع ، فيبدو كأنّه يدوّن يوميّات العراق ، عبر رسائله العديدة. يضفي أبعاداً واقعيّة تأريخيّة على الرواية التي تنتابها التقريريّة في بعض المقاطع.
يقدّم الكاتب شخصيّاته العديدة ، يحرص على أنّ يكون لكلّ منها معادلاً موضوعيّاً: مقابلاً أو ندّاً ، منها: جوناثان ، ميللر ، فاضل ، حسّان ، أبو مصعب الزرقاويّ ، أبو الحارث ، أو حذيفة ، جيمي ، القسيس باركلي ، سلمان ، هاري ، سناء ، نهى ، هند.. نجد أنّ السارد ، والد سامر ، رجل علمانيّ ، يساريّ سابق ، يهتمّ في قضايا الإرهاب ، يكتب أبحاثه في نشوء الجماعات الإسلاميّة وتطورها ، لكنّه يفشل في حياته الأسريّة. يترك ابنه فريسة لمن يستغلّونه ، ويكون سامر صورة معدّلة مُمرآة ، للقسيس توماس باركلي ذي الماضي السيّئ ، في التطرّف الدينيّ ، ففي حين يؤكّد سامر ، الذي يلقّب بالأمير عبدالله السوريّ ، أنّ معركة الإيمان والكفر دائرة ، ويقول ـ في معرض إقناعه نفْسَه ورفاقَه ، وردّاً على والده ـ إنّهم جنود الله: يخوضون معارك الله على الأرض: معارك الحقّ والإيمان ، وإذا كانوا يضحّون بأرواحهم ، فلأنّ أمرها يعود إليه ، هو خلقها وإليه مرجعها وعليه حسابها. نجد أنّ باركلي يؤكّد أنّ هذه الحرب الدائرة هي حرب مقدّسة ، صليبيّة ، ويدعو إلى إنقاذ جنود الربّ والتطوّع لمحاربة جيوش الشيطان. كذلك يكون الضابط الأميركيّ ميللر معادلاً لوالد سامر ، كلاهما يُفجَع بالواقع. ميللر ، الذي ينتهي نهاية مأسويّة ، يواجه ـ في الخلفيّة ـ حكومته ورؤساءه ومرؤوسيه وأعداءه. يكون التصريح الأكثر مرارة من قبل جوناثان: "لسنا موضع ترحيب ، كلّ ما أقنعونا به ، كان خُطباً كاذبة عن أسلحة التدمير الشامل ، والديمقراطيّة والحرّيّة. إنّها حرب من أجل الحصول على نفط رخيص." وهو بذلك يتقاطع مع الكثير من الآراء التي يطلقها السارد حول الخداع الذي لازم الحرب ، ويستنكر الهمجيّة التي تصًمها.
يتحدّث السارد عن طرائق الانتحاريّين ، عن تفاصيل حياتهم ، عن تفكيرهم ، قناعاتهم ، تبريراتهم لما يُقْدمون عليه ، يستحضر استعراض القسوة والهمجيّة والفجيعة والوحشيّة غير المحدودة ، حيث التشويه يمارس للترويع وبثّ الذعر في قلوب الأعداء ، كما يغدو مجالاً للتفنّن في الانتقام ، دورات العنف لا تتوقّف: والقتل معمّم. لا يقع السارد في إدانة طرف بعينه ، بل يدين الجميع: يدين الجرائم المفجعة المتبادلة بين الأطراف كلّها: يصوّر بعض الجوانب المشرقة والمظلمة عند مختلف الأطراف ، يقدّم نماذج طيّبة وأخرى شرّيرة ، ويؤكّد إمكانيّة العثور على بعض الضوء في قلب العتمة ، مع التركيز على كارثيّة ما يُمارَس من قتل واقتتال وإرهاب وجنون وفداحة ذلك كله.
يعرض الكاتب الكثير من مجريات الحرب الفضائحيّة ، حيث الحاضر يعيد كتابة الماضي ويثأر منه. تترك الأحياء مَسْرحاً لزعران الشريعة. لم يعِ البطل سوى أنّ العراق بلد أعمى ، يتلمّس طريقه بالنار والسكّين ، وأنّ السياسة تضلّل الدين وتقوده إلى العار في حياة أصبحت موعودة بالهلاك. صفحة بلد بكاملها تُطوى بموت مديد وبشع ، حيث فًرَق الموت تستبيح البلد ، تشاركها ميليشيات مسلّحة يرتدي عناصرها لباس مغاوير الداخليّة ، ويرتكبون جرائمهم بالزيّ الرسميّ حرصاً على الشرعيّة ، بينما الميليشيات الإسلاميّة الأصوليّة تنقّب عن ضحايا جدد ، ولا يخلو ذلك من شبّان يسعون إلى الانتقام ، أو الترويع ، أو تصفية حسابات قديمة.
برغم محاولات التناسي كلّها ، لا يفلح السارد في إبعاد الجثث عن خيالاته ، تظلّ تأتيه ، حيث بغداد تتحوّل إلى ميدان مفتوح للقتل: جثث مشوّهة ملقاة هنا وهناك.. يصحو على الحقيقة الأكثر فظاعة ، وهي أنّ ابنه سامراً واحد منهم. والأكثر إيلاماً شعوره أن لا أبوّة أو بنوّة تجمع بينهما ، بل رابطة دم فاسد ، ولا مجال للتفاهم بينهما حول أيّ شيء ، مهما كانت ضآلته. لم يعد يرتجي سوى إنكاره ونسيانه إلى الأبد: لأنّه كان ذهب إلى مكان لن يعود منه: أصبح شخصاً آخر لا يمتّ إليه بصلة. لوهلة ، يكتشف المرارة التي يعيشها ، يتنبّه إلى أنّه الأب المجنون ، ويتمنّى الموت لولده بعدما كان يتمنّى أن يمنحه حياته.
في النهاية ، وبعد غارة أميركيّة اعتمدت سياسة الأرض المحروقة ، تبيد القرية التي كان يتحصّن فيها مع أعضاء التنظيم ، يصف المشاهد المرعبة التي خلّفتها الغارة ، يعانق ابنه مودّعاً ، يقبّله ، يقبّل الطفل الذي كانه ، والأمير القاتل الذي أصبحه ، والجريح طالب العدالة ، والإنسان المنكوب المكلوم الغائص في العتمة. يفترقان. يواصل كلّ منهما سبيله. يسير سامر في عتمة لانهائيّة ، تتلبّس روحه وفكره. يظنّ أنّه النور الباهر بعينه ، في حين يعود الأب أدراجه مُعطّل الذاكرة ، إلى واقع فجائعيّ ، منتكساً بالفظاعات التي عاشها ، غير قادر على فعل شيء لتعطيل أو إيقاف الجنون المتعاظم المتفاقم يوماً من بعد يومْ.
ترصد "جنود الله" صراع الأجيال: اللعبة المؤامراتيّة الدائرة: مزاعم الحرب على الإرهاب: أوهام الأصوليّين.
هيثم حسين
المصدر: جريدة الدستور الأردنية
إضافة تعليق جديد