«الهويّات القاتلة» في مهب العولمة
«في عالم ما بعد الحرب الباردة، أصبحت الأعلام تدخل في الحساب، ومعها رموز أخرى للهوية، كالصليب والهلال (...) لأن الهوية الثقافية هي الأكثر أهمية بالنسبة إلى معظم الناس». بعباراته المقتضبة هذه يوجز صموئيل هنتغتون صحوة الهويات الثقافية والدينية، ضمن بانوراما متوجسة عن فوضى إدارة عالم ما بعد سقوط العملاق السوفياتي. وفي أطروحته «إشكالية التعددية الثقافية في الفكر السياسي المعاصر ـــــ جدلية الاندماج والتنوع» («مركز دراسات الوحدة العربية») يطرح الباحث العراقي حسام الدين مجيد فرضيات متشابكة. لعلّ أهمّها أنّ عودة المعطى الديني والثقافي في الغرب، تمثّل الهم المعرفي الأبرز لنظريات ما بعد الحداثة. وانطلاقاً من مفاهيم الدولة ـــــ الأمة، وسياقاتها الاصطلاحية والتاريخية، وما نتج منها من أزمات بنيوية، يطالع مجيد إرهاصات التعدد في منظومات غربية، وما يتجاذبها من نزعات دمج وإقصاء.
على إيقاع انضوائها تحت جناح دولة الرفاه، تتخوّف الجماعات ذات الهويّات المتعدّدة من أفول هذه الدولة، بما تضمنه لها من حماية، وذلك بعدما كانت تتحارب معها من موقع قلق الاحتواء. في السياق نفسه، تحتضن الدولة ـــــ الأمة إثنياتها وتحفظ لهذه الأقليّات حضورها الوجودي والتواصلي. لكنّ شكل الدولة هذا معرّض اليوم للتفكك بفعل عوامل سيكولوجيّة، وسلطوية، مرتبطة أساساً بحركة العولمة.
مستنداً إلى أهم الخلاصات التي بلورها مفكرو التعددية الثقافية من أمثال إيتيان باليبار، وتشارلز تايلور، وإيمانويل رينو، وجورج بوردو، وأغنر فوغ، يجادل الكاتب فورة الهويات في الغرب، برموزها وأسئلتها ورؤيتها للآخر. لكن تفسيرات الكندي ويل كيملكا بدت الأكثر حضوراً في أطروحته، لجهة معالجته مسألتين أساسيتين: اللغة، والبناء الفكري للحركات القومية. ففي بلدان مثل كندا وسويسرا وإسبانيا، تؤدّي اللغات دوراً متميزاً «وترسّخ النزوع أكثر فأكثر نحو الإقليمية». فيما «النزعات القومية للأقليات» في الغرب القلق، «لا تختلف عن النزعة القومية للثورتين الفرنسية والإنكليزية».
المعادلة التي ابتكرها كيملكا عن بناء دولة متعددة الثقافات، تبدو في عالم ما بعد الحداثة جذّابة أكثر من المتوقع... هذا العالم اللاهث خلف تعدده، والرافض لمركزية الأكثرية القومية. فهل أخطأ هيغل عندما رأى أن البشرية ستتجه حتماً نحو خلق بوتقة جامعة رغم الحروب؟ وهل تجيب السوسيولوجيا وحدها عن مسار المجتمعات؟ وما هو رد النظريات الماركسية والنيوليبرالية؟ وإلى أيّ حد ترتبط يقظة الهويات بالرأسمالية وأنماطها؟ وهل الغرب مقبل على حروب خفية قوامها الدين أو الإثنية؟ ولماذا اعتقدنا فترةً طويلة أن مشاكل التعددية الثقافية نتاج الشرق؟ الجواب الديني والقومي يحيلنا على عولمة من نوع آخر، عولمة التعدد وفوران «الهويات القاتلة» بحسب تعبير أمين معلوف. فنظريات ما بعد الحداثة، ومن بينها شروح كيملكا، جاءت كردّ فعل على عجز الفكر الحداثوي عن مواجهة الصحوات.
في هذا السياق، يفنّد مجيد موقف الاشتراكيّة والليبراليّة من التعددية الثقافية. اليسار الليبرالي، يُقر بأنّ الهوية خاصيّة جوهرية عند أيّ جماعة. أمّا اليسار الاشتراكي، فيرفض التعددية الثقافية. آرون كوندناني مثلاً، وهو أحد أهم المنظّرين «للطبقية المُعَرقنة»، لا يرى في التنوع إلّا «إيديولوجيا محافظة تقف على نقيض الرغبة الحقيقية في التقدم». بمعنى أنه يُقيم علاقة عضوية ما بين التعددية والتباين الطبقي، وما ينطبق على الهوية والإثنية والقومية ينطبق كذلك على الطبقات، بحسب إيزايا برلين صاحب «نسيج الإنسان الفاسد».
أمّا اليمين الليبرالي، المتمثّل بباتريك ويست وآلان ولف وآرثر شيلزنغر، فيعيد إشكالية التعددية الثقافية في الغرب إلى رُهاب الغرباء. رهاب هو نتيجة لغياب الجوامع المشتركة للإثنيات المتنافسة على الموارد الاقتصادية وأحقيّة التعبير عن الذات، مما يفضي إلى استعداد ضمني في العقل الجمعي المجزأ إلى نبذ الغريب المنافس. ولا حلّ لهذه المعضلة عند منظّري اليمين الليبرالي إلّا عبر التقسيم العادل لخدمات الدولة. لكنّ البناء المجتمعي القائم على التعدد، سيُنتج نزعات انفصالية يطاول تأثيرها الهوية القومية للأكثرية. وهذه النظرية هي الأكثر انتشاراً في الولايات المتحدة، وقد أعرب عنها بطريقة صارخة المؤرخ الأميركي آرثر شيلزنغر. وفي رأيه فإنّ «التعدديّة الثقافية مؤامرة يقودها اليسار الماركسي لهدم الثقافة الأميركية». فما الذي يدفع الخيال الأميركي إلى تبني مقولة أنّ هناك عدواً ما يتربص به؟ ولماذا يتجه إلى تصنيف الهويات من الأدنى إلى الأعلى؟
حيادية الدولة حيال التعدد الثقافي، فكرة تبدو شاعرية للكثيرين من دعاة الأكثرية القومية. فاليسار الليبرالي يتبنى موقفاً إيجابياً منها وكذلك اليمين. أمّا الجامع المشترك بينهما، فيتأسّس على قابلية المراجعة والعقلانية من جهة، وعلى حيادية الدولة في التعامل مع مفاهيم الأفراد من جهة أخرى.
لكنّ كيملكا ينتقد فكرة حيادية الدولة، فهي عنده بمثابة أسطورة. «فالديموقراطيات الليبرالية كلّها، سعت منذ نشأتها إلى تعزيز ثقافة مجتمعية واحدة من خلال إدماج المواطنين في ثقافة الأكثرية المهيمنة». ويضع مشروعه لإشكالية التعددية الثقافية تحت عنوان عريض هو «بناء الدولة المتعددة الثقافات» كردّ على أزمة الدولة ـــــ الأمة. ويقسّم كيملكا نتوءات التعدّد في بلدان مثل كندا والولايات المتحدة وفي أوروبا إلى محورين: التعايش بين أكثر من أمة داخل دولة واحدة، والتعايش بين مكوّنات هذه الدولة والجماعات المهاجرة إليها. جماعات ستُلزم الدولة قبول التنوع الثقافي من خلال الدمج المؤسساتي واستيعاب الهوية المميزة للأقلية الوافدة. والحال هكذا، «يغدو بالإمكان جعل التنوع الثقافي سبيلاً للوحدة من خلال تعزيزه مؤسساتياً».
«إشكالية التعدديّة الثقافية في الفكر السياسي المعاصر» أطروحة تأسيسية، تطرق فيها حسام الدين مجيد إلى إشكالية الإشكاليات في الغرب. كتابه يدفعنا إلى فضاء التساؤلات الكبرى: هل يتجه الصراع باتجاه طفرة الهويات بدل ثنائية الإسلام والغرب؟ وإن كان العرب المسلمون هم الفئة الأكثر نزوحاً نحو دول الشمال، فهل يمكن القول إنّ الغرب يتجه مع الأجيال المقبلة نحو الأسلمة أو التعريب؟ لا مجال للإجابة في هذه العجالة... الثابت الوحيد هو أنّ طفرة الهويات تتقاذف عالمنا بكل مكوّناته وجهاته: شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً.
ريتا فرج
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد