مات الطاغية، عاش الناتو
دشّنت الزمرة الليبيّة الحاكمة (الجديدة) الجمهوريّة الجديدة. الجثث الموبوءة في البرّاد. والزوّار يقفون بالصفّ لمشاهدة مواقع الرصاص في الجثث المتعفّنة. يمكن الزوّار (الثوّار) وضع كمّامات واقية لحماية الجيوب الأنفيّة وأنابيب التنفّس. أما الدفن، فقد أفتى فيه المفتي الليبي الجديد، الصادق الغرياني، الذي تخرّج في دار الإفتاء المُلحقة بحلف الناتو. أفتى المُفتي الجديد، في خطاب يصلح للدمج في أدبيّات منظمّة القاعدة، بأنّ الطاغية كان كافراً، وعليه لا تجوز الصلاة. الدفن جرى في موقع غير مُحدّد ولا معلوم لأنّ النظام الجديد يخاف جثّة الحاكم السابق. طقوس النظام الجديد تتوضّح بسرعة.
طبعاً، لم يكن قتل الطاغية الليبي مفاجئاً، فقد راكم في سني حكمه كميّة هائلة من الكراهية والبغضاء في نفوس الشعب الليبي. لم يكن هو الطاغية الوحيد في العالم العربي: كان الطاغية الوحيد الذي لم يكن له أصدقاء بين الطغاة العرب. وتلك نقيصة في السياسة العربيّة، وأيّة نقيصة. يحاول الطغاة العرب أن يقيموا وشائج وروابط مع غيرهم من الطغاة، ولا سيما المحميّون من أميركا والغرب الأوروبي، تحضيراً لليوم الآخر. بن علي عجّل في الرحيل: علم أنّ نهياته وشيكة. لكن القذّافي لم يبق داخل ليبيا عن غباء، أو حبّاً بأدوار البطولة: ليس للرجل ـــــ أو لم يبقَ له ـــــ أي مكان يرحل إليه. صدّق ألقابه أنّه ملك ملوك أفريقيا وانتهى ذليلاً طريداً في مجارير الصحراء. وعلاقته مع آل سعود ساءت عبر السنوات. وطغاة الخليج يمثّلون الملاذ الآمن لكل طغاة العالم الذين يفقدون عروشهم: حتى عيدي أمين وجد عند آل سعود خير ضيافة. لم يكن نظام آخر يجرؤ على استضافته. القذّافي استعدى كل الطغاة العرب، مع أنّه احتفظ بعلاقة خاصّة مع زين العابدين بن علي ومع حسني مبارك. قل هو الحظ، أو سوؤه. علم القذّافي أنّ القتال حتى النهاية مُحتّم. حاول أن يعبّئ وأن يؤجّج وأن يثير الحماسة في نفوس مَن بقي في صفّه، ولكن ما في اليد ما يواجه حلف الناتو برمّته والغضب الشعبي الآتي.
لكن مشاهد التمثيل والتعذيب التي رافقت قتل القذّافي، بالإضافة إلى مجموعة من الأكاذيب التي صدرت عن المجلس الإنتقالي الليبي، أثارت علامات استفهام وأصوات استنكار. هناك من اقتنع بأنّ حكّام ليبيا الجدد (وهم خرّيجو مدرسة القذّافي للحكم، على الأقل في شخصيّة الرئيس، مصطفى عبد الجليل الذي خدم نظام القذّافي لمدّة 33 سنة بالتمام والكمال وكان قد وقّع بنفسه في 2008 قراراً بإعدام نحو 32 سجيناً حسب جريدة «الشروق» الجزائريّة، ونائبه بالإضافة إلى سفيرهم في الأمم المتحدة، وقد أطاع القذّافي لعقود قبل اجتراح البطولة لنفسه لأسابيع سبقت سقوط العقيد) سيقطعون مع الماضي بحدّ السيف، وأنّهم ـــــ برعاية الناتو وقاذفاته ـــــ سيدشّنون حكم القانون وحقوق الإنسان. ولكن هناك من لم يصدّق تلك المزاعم ومن لم يتقبّل الوعود التي رافقت إطلاق مجلس الناتو المحلّي. هناك من شكّك في أنّ الحكم المُقبل في ليبيا سيكون تحقيقاً، مرّة أخرى، لوعد الديموقراطيّة الأميركي الذي تعثّر في أفغانستان وفي العراق بعد 11 أيلول. طبعاً، ما كان لليبيا وتحريرها من حكم الطاغية أن تصبح شأناً أميركيّاً، لكن الثورة العربيّة المضادة، بقيادة قطر والسعوديّة، رتبت الأمر في الجامعة العربيّة ثم مهّدت الطريق أمام مجلس الأمن كي يُناط تدمير ليبيا بحلف الناتو، ذي التاريخ العريق في التحرير والديموقراطيّة. أدت قطر في مجلس الجامعة العربيّة الدور الذي أداه حسني مبارك (بالاشتراك مع نظام حافظ الأسد) في 1990 لترتيب البيت العربي وفق المصلحة الأميركيّة.
مشاهد العنف في ليبيا لم تكن مفاجئة. المفاجأة كانت في هؤلاء الذين توقّعوا من الناتو تحرير ليبيا بيد وتحقيق الديموقراطيّة باليد الأخرى. هؤلاء لم يسمعوا بجمهوريّة آية الله في العراق أو بحكم أمراء الحرب في كابول أو بتنصيب أمراء الحرب في الصومال. «واشنطن بوست» أجرت تحقيقاً عن الأيّام الأولى للحكم الجديد. حقّق نظام الناتو في ليبيا، بقيادة مصطفى عبد الناتو، رقماً قياسيّاً: ليس في حجم الأطباق العملاقة التي يتقنها شعب لبنان الذي أقنع نفسه، أخيراً ـــــ ربما بسبب شيخوخة سعيد عقل ـــــ بأنّ مجده يكمن في المطبخ وحده، بل في حجم السجناء السياسيّين المقموعين. في الأيّام الأولى لحكم المجلس الانتقالي الناتوي، تجمّع نحو 7000 من السجناء السياسيّين في معسكرات اعتقال تعجّ بالآلاف وتفتقر إلى الحدّ الأدنى من التعامل الإنساني. والويل في ليبيا الأفريقيّة لمن يُعثر عليه متجوّلاً ببشرة سوداء. البشرة السوداء تحمّل حاملها عقوبة قد تصل إلى الإعدام، بعد التعذيب. والسجناء يقبعون في مخازن تعجّ بالأجساد النازفة. التعذيب بدأ في النظام الليبي الجديد قبل أن يبدأ النظام بالحكم. الجلد والضرب والحرق باتت من اللزوميّات، كذلك سُجّلت حالات موت من التعذيب في أكثر من معتقل. بعض الشعب الليبي يُهلّل للتحرير، فيما يقبع بعضه الآخر تحت وطأة نظام جديد لا علاقة له بوعود الخريف العربي. مسار الخريف العربي يعد بالدم الكثير.
ولكن أين المُفاجأة؟ المجلس الحاكم في ليبيا يخضع لثلاثة تأثيرات أساسيّة: حلف الناتو ومجلس التعامل الخليجي وأهواء الحكّام الجدد. وينقسم الحكّام الجدد فريقين: الفريق الأوّل خرّيج مدرسة الطاغية القذّافي في الحكم. مصطفى عبد الناتو ومحمود جبريل قائدا هذا الفريق (بالإضافة إلى خليفة حفتر، وهو قائد عسكري ليبي مُنشقّ أرسلته الولايات المتحدة على عجل من واشنطن كي يرتّب الأمور... العسكريّة. وجبريل هو شخصيّة إشكاليّة ليس لأنّه علماني بل لأنّه ارتبط بمشروع سيف الإسلام القذّافي وكان رسوله ومستشاره وراعيه (أو العكس). أما عبد الناتو، فتلك مسألة أخرى: ماذا تقول عن رجل رضي أن يشغل منصب وزارة العدل في حكم مُستبدّ؟ هذا كأنّ تقبل داعية نسويّة منصب الوزارة في حكومة سعوديّة، أو أن يقبل شيوعي (حالي) منصب الوزارة في حكومة حريريّة. عبد الجليل كان قاضياً في عهد الجماهيريّة وحكم في قضيّة الممرّضات البلغاريّات بما أمره به العقيد. وزير العدل في نظام طغيان هو أسوأ من وزير المواصلات أو وزير الزراعة في نظام الطغيان.
أما الفريق الثاني في الحكم الجديد فيتمثّل بقوى إسلاميّة (بعضها بن لادني) تحظى ـــــ مثلها مثل كل أو معظم القوى الإسلاميّة في مصر وتونس ولبنان، أي في تلك الدول التي شهدت أو ستشهد انتخابات نيابيّة جديّة ـــــ بدعم مالي قطري أو سعودي أو سعودي قطري، مع أنّ قطر تبدو جدّ ناشطة في فرض عقيدة الإخوان المسلمين على المجتمع العربي برمّته. وهذا الفريق الذي ينحدر من نسق بن لادني عُرف بالجماعة الليبيّة المُقاتلة لا يبدو أنّه مستعدّ لأن يتعاون مع محمود جبريل، لكن عبد الناتو (الواقع تحت التأثير القطري) يستطيع أن يوائم بين طموحاته السياسيّة العريضة وتطلّعات الإسلاميّين. وبعد يومين فقط من قتل العقيد، أعلن الحكم الجديد للمرّة الأولى برنامجه السياسي. فقد أعلن الحكم الجديد، وسط هتافات الجماهير (الجديدة) أنّ الشريعة هي مصدر السلطات، وبناءً عليه، فإنّ كل ما يناقض الشريعة سيُلغى، بما فيها التعامل المصرفي الربوي وقانون منع تعدّد الزوجات. وهذا مؤشّر إلى ما ستقبل عليه ليبيا. (عاد عبد الجليل وناقض نفسه بعد أن قرص «الناتو» أذنه حسب تعبير الرفيق فواز طرابلسي). ليس من المؤكّد أنّ تغيير الأنظمة، إذا ما جرى بناءً على تدخّل خارجي مزدوج (أي تدخّل عسكري غربي وتدخّل مالي نفطي عربي) سيخضع لقوانين التطوّر والتقدّم. إنّ مثال النظام الذي تلا الحكم الشيوعي في أفغانستان (على علّاته رغم مناصرته لحقوق المرأة الأفغانيّة أكثر من أي نظام آخر) هو خير دليل.
لا جدال في ضرورة التخلّص من كل الأنظمة العربيّة من دون استثناء، ولا مجال أبداً لإبداء الحزن أو التعبير عن العزاء لسقوط نظام صدّام أو نظام القذّافي أو نظام الأسد. لكن تلك الأنظمة الثلاثة أتت إلى الحكم من خلال ظروف بلورة حركات اجتماعيّة سياسيّة صاعدة طالبت بالتقدّم الاجتماعي، وليس في ذلك فضل للطغاة، لكن جمهور البعث في الستينيات (قبل أن يموت البعث ويصبح أداة مشلولة وفاسدة في يد نظام السلالة الحاكمة) اعتنق عقيدة تغيير تضمّنت تحسين وضع المرأة ووضع ضوابط على نفوذ القبائل ورجال الدين. كذلك فإنّ الحزب في العراق عبّر باكراً عن تطلّعات الشعب للتحرّر من نفوذ شركات النفظ الغربيّة التي أدمنت سرقة موارد شعوب العالم الثالث. وقد أرغم البعث على تنفيذ تلك الإصلاحات، لكن النظامين البعثيّين في سوريا والعراق، بعدما استنفدا أغراض الحزب وبعدما أنشآ حكم العائلة المالكة، عادا وأقاما تحالفات قبليّة وتسربلا بعباءة الدين (في الحالة العراقيّة بالتأكيد بعد 1990 فيما اكتفى النظام السوري بتخريج قيادات دينيّة مواليّة للنظام). أما في ليبيا، فقد جاء العقيد من دون حزب، لكنّه أقام لنفسه قاعدة حكم جديدة (استخباريّة المهنة) اقتبست بعضاً من البرنامج القومي العربي الرائج حينها. أي أنّ الأنظمة الجمهوريّة التي وصلت إلى السلطة في الستينيات والسبعينيات حملت برامج تقدّم وحداثة عبّرت ـــــ في حينها ـــــ عن تطلّعات الشعب. لكن الأنظمة المُستبدّة الجمهوريّة تلك عادت وتخلّت عن المضمون العصري والحداثوي بعدما شعرت بالأمان في الحكم وتفرّغت لشؤون بناء حكم السلالة.
أي أنّ ليبيا يمكن أن تعود إلى الوراء (وقد نجح القذّافي في إعادتها إلى الوراء بعد السبعينيات) رغم إطاحة نظام الجماهيريّة المجنون. يعني ذلك أنّ الانتفاضات العربيّة (وهي تبدو إلى الحين بعيدة عن الثورات) قد تؤدّي ـــــ إذا لم تتطوّر قدماً وتندفع ـــــ إلى جمود النظام وروتشته، كما حصل في مصر حيث حافظ طنطاوي على النظام البائد بعدما ضحّى ببعض رموزه. ممكن أن تتحوّل الأنظمة الجديدة إلى أسوأ نماذج الحكم. تواجه ليبيا خطراً حقيقيّاً بإمكان إقامة نظام طالباني يحظى برعاية خليجية (لم تكن حكومة طالبان تحظى باعتراف إلا من ثلاث حكومات: السعوديّة ودولة الإمارات وباكستان، كذلك فإن الولايات المتحدة كانت قد دخلت في حوار معها قبل 11 أيلول، وها هي اليوم تستجدي الطالبان للعودة إلى السلطة بعدما كانت قد شنّت الحرب على أفغانستان للتخلّص من حكم الطالبان). لن تعود على الأرجح الجماعات والمليشيات المُسلّحة في ليبيا إلى الثُّكَن، ليس فقط لأنّ لا ثُكن لها لأنّها انطلقت من السجون ومن حركات شعبيّة معارضة، بل لأنّها تحمل فكراً دينيّاً واضحاً لا لبس فيه. ومن هنا كان ولا يزال التعارض الكلّي بينها وبين محمود جبريل. والسلاح في ليبيا انتشر بسرعة وهذا سيعزّز إمكان حسم الصراعات، أو محاولة حسمها، بالسلاح.
إنّ الفيلم الليبي سيعيد مشاهد ألفناها من فيلم أفغانستان في الثمانينيات. عمل الغرب على تجميع قوى متنوّعة لا يجمع بينها إلا العداء الديني والرجعي ضد الشيوعيّة، كذلك فإنّ الغرب وبعض أنظمة العرب (في الخليج) عملوا على تجميع قوى ليبيّة متنوّعة لا يجمع بينها إلا العداء السياسي والديني لنظام الطاغية القذّافي. وكالعادة، تسير السياسات الغربيّة بناءً على رؤية قصيرة النظر لا تقيس أكثر من بضع سنوات في المرحلة. لا تتوقّع اليوم إمكان نقل البندقيّة الليبيّة من الحرب (المنتهية) ضد نظام القذّافي إلى مواجهة الأنظمة الغربيّة. وهي تتعامل مع الأحداث على أساس المصلحة الآنيّة التي تؤثّر فيها برامج اللوبي الصهيوني في واشنطن. والعدوّ الإسرائيلي ـــــ خلافاً لما يظنّ الكثير من العرب ـــــ جاهل بقضايا العالم العربي ومستشرقوه يعانون ضعف معرفة أكيداً. والعدوّ ينظر إلى مصالحه بكثير من التفاؤل غير المُبرّر لأنّ مستقبله البعيد محفوف بأكثر من الخطر: بالزوال الأكيد.
الطريف أنّ الولايات المتحدة (التي تحتفظ في ليبيا بقوى عسكريّة بصفة مستشارين وخبراء وباقي الصفات التي يستعين بها الرئيس الأميركي تقليديّاً للالتفاف على «قانون سلطة الرب» الذي لا يسمح للرئيس بنشر قوّات لفترة تزيد على ستين يوماً من دون الحصول على موافقة الكونغرس الأميركي) أرسلت خبراء لتجميع الأسلحة المنتشرة وهي تخشى تسرّب أسلحة كميائيّة إلى أيادٍ عربيّة أو إسلاميّة (ثبت بالدليل العلمي للغرب أنّ أسلحة الدمار الشامل غير مؤذية في أيدي المسيحيّين واليهود، فيما هي تهدّد السلام العالمي إذا وقعت في أيد مسلمة). تظنّ إدارة أوباما أنّ الشعب الليبي سيسلّم إليها سلاحه شاكراً أميركا على قصفها ليبيا للتخلّص من العقيد. دائماً تعتمد السياسة الأميركيّة على فرضيّة سذاجة الشعب العربي.
كان يجب أن يكون سقوط القذّافي مناسبة للاحتفال بنهاية كابوس حلّ ثقيلاً جدّاً على الشعب الليبي. لم يكن القذّافي طاغية قاسياً فقط، بل كان ثقيل الظلّ ومهتزّ العقل. لا ينمّ من يأخذ على محمل الجدّ ترّهاته المجموعة بين دفتي كتاب أخضر عن عقل راجح أبداً. حرمنا الغرب وحرمتنا أنظمة الخليج، كما كتب الرفيق عامر محسن على حائطه بـ«فايسبوك»، لذّة الاحتفال بسقوط سلالة القذّافي. ممنوع علينا المتعة وتقرير المصير والفرح. اترك للغرب كي يتفنّن في تنغيص أفراحنا وأتراحنا. والعقيد الذي نذكره داعياً قادة المقاومة إلى الانتحار أثناء حصار بيروت، لم ينتحر وحاول أن يتخفّى في مجارير المياه. وتعرّض للإذلال في عبرة قد تسري.
لكن النفاق ساد بمجرّد أن مات العقيد. قرأت وسمعت لبعض من كان يحضر المؤتمرات عن «النظريّة الثالثة» ولبعض من كان يجري حوارات «فكريّة» مع العقيد وهو يصفه بأقذع النعوت ويترحّم على ضحاياه. وليد جنبلاط، مثلاً، الذي أرسل للعقيد خيرة مختارة من مقاتلي حزبه كي يشاركوا في حرب التشاد بالنيابة عن النظام المجنون. نذكر أنّ إلياس الهراوي روى كيف أنّ جنبلاط أجاب الهراوي بعدما عاد من زيارة لليبيا في التسعينيات طالبه فيها العقيد بإعادة الوصل مع وليد جنبلاط بأنّه مستعدّ شرط أن يعيد القذّافي ضخ المال الليبي نحوه. كيف يمكن مَن أقام مشاريع سياسيّة وإعلاميّة بالمال الليبي أن يعظ في أمر طغيان العقيد؟ لم ينقطع هؤلاء عن العلاقة مع ليبيا، إلا بعدما توقّف ضخّ المال الليبي. النفاق سارٍ هذه الأيّام. يسمح لأيتام حسني مبارك في لبنان ـــــ فريق 14 آذار برمّته ـــــ أن يزعموا أنّهم هم، وكلاء الأمير مُقرن، الذين ألهموا الثورات العربيّة.
قد تكون ليبيا مثالاً مخيفاً لما يمكن أن يعتري جسم الأنظمة «المُحرّرة» من الطغاة. قد تتجه ليبيا نحو حرب أهليّة، وخصوصاً أنّ عدداً من الانقسامات ينخر مجتمعها: الصراع بين الشرق والغرب، بين طرابلس وبنغازي وبين المدينة والريف، بين هذه القبيلة وتلك، بين العلمانيّين والدينيّين، بين دعاة الديموقراطيّة ودعاة الإسلام، إلخ. وتوافر السلاح قد يجعل المواجهات المسلّحة حالة مستديمة. قد تطلع الحكومة الأميركيّة بمشروع لتسليم السلاح مقابل كيس بطاطا لكل قطعة سلاح، كما رعت تسليم مزروعات الحشيشة في البقاع اللبناني مقابل شتلات... البطاطا.
ليبيا حالة ثوريّة شاذّة. انتفض الشعب الليبي عن بكرة أبيه بشجاعة ظاهرة وبعفويّة غير مسبوقة. وكانت قيادة الانتفاضة حركة نقابيّة مدنيّة من المحامين في الشرق. لم يرق الأمر مَن يحصي علينا أنفاسنا. العفويّة ممنوعة لأنّها تشتعل ولا تعترف بحدود. قرّرت قطر بسرعة إقحام نفسها بالتوافق مع الراعي الأميركي ووكيله السعودي. وقامت الحكومة القطريّة بترتيب البيت العربي لمنع المعارضة في الجامعة العربيّة، التي باتت فرعاً قاهريّاً لمجلس التعاون الخليجي (هذا يفسّر كيف اختار نبيل العربي الدبلوماسي الجزائري السابق، الأخضر الإبراهيمي، الذي أدى دور مُسهّل احتلالات بوش في العراق وفي أفغانستان، من أجل أن يترأس لجنة لتفعيل العمل العربي المشترك. الإبراهيمي يصلح للوعظ في شأن تفعيل احتلالات بوش، لا في العمل العربي المشترك). الجامعة العربيّة عادت إلى الدور الذي ارتأته لها بريطانيا منذ المنشأ: قطع الطريق على عمل عربي جماعي شعبي، وترتب شأن الأنظمة بصورة مُنسّقة مع الاستعمار الغربي. أضفت الجامعة العربيّة الشرعيّة السياسيّة (الجائرة لأنّها تنبع من أنظمة لا شرعيّة لها) على تدخّل حلف الناتو العسكري. والزئبقي المتلوّن، عمرو موسى، أيّد التدخّل الخارجي ثم عارضه، ثم عاد وأيّده بعدما أتته الأوامر من أنظمة الخليج.
تطوي ليبيا مرحلة من الطغيان وتدخل اليوم في مرحلة يكتنفها الغموض وتسود فيها طائرات الناتو وقاذفاتها. من المسلّي الحديث عن الديموقراطيّة وعن الانتخابات الحرّة، فيما تقود الأمور قطر بتمويل وتسليح مَن تريد. هذا كأن تتحدّث عن الديموقراطيّة في لبنان فيما كانت السعوديّة عبر استخباراتها تبتاع سلفاً نتائج الانتخابات. دروس الحالة الليبيّة بليغة على أكثر من صعيد. قتل مجلس التعاون الخليجي الجامعة العربيّة المُحتضرة، وتسلّم أمر الأنظمة العربيّة من الخليج إلى المحيط. فقط الأنظمة التي لا تماشي الإرادة السعوديّة بالكامل تستحق السقوط، أما التي تماشي السعوديّة وقطر، فهي ستحظى بالرعاية والدعم والقمع المُستورد، مثل البحرين. ليبيا الجديدة عنوان لمضاعفات الاعتماد على وعود الدول الغربيّة. هي أيضاً عنوان للعواقب الوخيمة لمن يثق بنماذج تخرّجت من نظام مُستبدّ سابق. ليبيا تحتاج إلى ثورة وانتفاضة لكنس بقايا حكم القذّافي وكنس الحكم الجديد. الحكم الجديد فاقد الصلاحيّة والقوّة قبل أن يتسلّم الحكم. من يتوقّع ديموقراطيّة من رعاية سعوديّة ـــــ قطريّة؟
الانتفاضات العربيّة تكاد تفشل رسميّاً لولا الانتخابات التونسيّة «الحرّة» التي شهدت تنافساً بين المال القطري والمال الأميركي.لكن هذا لا يدعو إلى اليأس. الخوف العربي إما زال وإما هو في طريقه إلى الزوال. وإلّا، فماذا يفسّر حالة الهلع التي تسود في إسرائيل والتي لن تحمل في أسبابها إلّا بشائر الخير؟
أسعد أبو خليل- أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد