أنابيب الغاز: الوجه الآخر للصراع على سوريا!
في الحروب تركّز وسائل الإعلام على الضحايا والدمار، وتهتمّ الشعوب بسير العمليّات العسكرية والأمنية. وينسى الجميع البُعد الجيو-سياسي، وكذلك الخلفيّات الإقتصادية-المالية للجهات المتورّطة، ولمن يقف وراءها. وهذا ما ينطبق تماماً على الواقع في سوريا، حيث تتجاوز الأحداث مسألة "إسقاط دكتاتور" من هنا أو مسألة "قمع مسلّحين متمرّدين" من هناك، وهي ترتبط مباشرة بمصالح حيويّة فائقة الأهمية للدول الإقليمية الأساسية، وللدول العظمى أيضاً. كيف ذلك؟
بعد إقرار إتفاق "كيوتو" (1) سنة 1992، وتطبيق الدول الأوروبية إجراءات حازمة للحد من تلوّث الجوّ (2)، تضاعف إستهلاك أوروبا للغاز. ومن المتوقّع أن يزداد هذا الإستهلاك بأكثر من خمس مرّات في السنوات القليلة المقبلة، في ظل قرارات بإغلاق العديد من المفاعلات النووية المولّدة للطاقة. وهذا ما فتح شهيّة الكثير من الدول نحو أوروبا، بشكل مباشر أو غير مباشر، وذلك لمصالح إقتصادية ولأهداف مرتبطة بالنفوذ السياسي. وفي هذا السياق، توزّع روسيا الإتحادية التي هي المصدّر الأوّل للغاز في العالم، كمّيات ضخمة من الغاز السائل تبلغ 420 مليار طن سنوياً، عبر شبكة من الأنابيب تمتد من روسيا إلى أوكرانيا وبيلاروسيا وإلى مجمل أوروبا الشرقية سابقاً، وصولاً إلى ألمانيا وبلجيكا. وكانت روسيا قد إفتتحت في الماضي القريب خط أنابيب جديد تحت بحر البلطيق، يربط بشكل مباشر بين إحتياطي سيبيريا الضخم من الغاز الطبيعي وألمانيا. وتتولّى شركة "غاز بروم" الروسية التي تأسّست في العام 1996، والتي تتمتّع بنفوذ كبير في روسيا، إستخدام خط الأنابيب المذكور والذي يبلغ طوله 1224 كلم. لنقل الغاز من خليج "بورتوفايا" شمالي روسيا، إلى "لوبمين" في ألمانيا، على الساحل الشمالي الشرقي المطل على بحر البلطيق، وذلك كجزء من مشروع "نورد ستريم" الذي تضاعفت طاقته السنوية إلى 55 مليار متر مكعّب. وقبل أن تتوتّر العلاقة التركية-الروسية حول الملف السوري، وقّعت كل من أنقرة وموسكو مشروع "ساوث ستريم" الذي أعطى موسكو "الضوء الأخضر" لإنشاء خط أنابيب لتصدير الغاز إلى أوروبا من خلال عبور المياه الإقليمية لتركيا تحت البحر الأسود، بدلاً من عبوره المياه الإقليمية لأوكرانيا التي إختلفت مع روسيا بشأن المكاسب المالية، ما أدّى إلى إنقطاع الإمدادات عن أوروبا مرّات عدّة في السابق!
في المقابل، قرّرت شركة "آفاق" للغاز في قطر، شراء أسطول ضخم من ناقلات النفط (قد يصل إلى 1000 ناقلة) على مدى السنوات القليلة المقبلة، لنقل الغاز من قطر إلى مختلف دول العالم، بحيث ترمي الخطة الموضوعة إلى منافسة روسيا الإتحادية في عمليات تصدير الغاز، علماً أنّ قطر التي تملك مخزوناً إحتياطياً هو الأكبر على مستوى العالم، تنال 12 % من مجمل كميّات بيع الغاز الطبيعي حالياً. وترمي إلى مضاعفة هذا الرقم مرّتين تقريباً، وذلك بدعم أميركي كبير. فواشنطن ترغب بإضعاف موسكو، من خلال سحب عقود الغاز الأوروبية منها، وتحويلها إلى دول أخرى، وفي طليعتها قطر. وبذلك تكون قد خفّفت من أرباح روسيا من جهة، وخفّفت من إرتباط أوروبا بروسيا من جهة ثانية. لكن تفريغ الغاز السائل المصدّر بالناقلات يتطلّب خزانات خاصة، الأمر الذي يجعل من مسألة نقل الغاز بالأنابيب أسهل وأرخص، ويصب في صالح موسكو (3). وحاولت قطر تحييد الصين عن تنافسها مع روسيا، من خلال إستثمار 5 مليارات دولار في سوق الأسهم الصينية، وذلك من عائداتها المحقّقة بفعل نقل الغاز إلى الصين.
وعلى خطّ مواز، إنّ خط "نابوكو" الذي تنوي تركيا إقامته وتشغيله خلال السنوات القليلة المقبلة، يندرج ضمن خطة شاملة تقضي بتجميع غاز المنطقة في تركيا، قبل تصديره إلى أوروبا عن طريق "الترانزيت"، مع قدرة تصدير تصل إلى 40 مليار متر مكعّب. وهذا الممرّ مخصّص لنقل الغاز الطبيعي من أذربيجان عبر جورجيا وتركيا وصولاً إلى أوروبا، وتحديداً عبر الحدود التركية – البلغارية إلى النمسا. وسعى المسؤولون الأتراك، ولا زالوا، لإقناع قادة دول المنطقة بالتوقيع على إتفاق "نابوكو"، علماً أنّ عدداً من الدول وقّع بالفعل، مثل بلغاريا والنمسا والمجر ورومانيا. كما تهدف تركيا من خلال مشروع أنبوب الغاز العربي الذي يبلغ طوله 1200 كلم. بطاقة تبلغ نحو أربعة مليارات متر مكعّب من الغاز الطبيعي، إلى ربط شبكة أنابيب الغاز الممتدة من مصر مروراً بالأردن وسوريا بشبكة الأنابيب التركية، وكذلك ربط العراق ضمن هذه الشبكة في مرحلة لاحقة. يذكر أنّ سوريا رفضت مرور خط غاز قطر الذي يحمل الغاز الإسرائيلي والمصري إلى تركيا، لوصله بأنبوب "نابوكو". وهي إستعاضت عنه بأنبوب غاز يمرّ من إيران إلى العراق ثم سوريا، ليصل غاز هذه الدول إضافة إلى غاز بحر قزوين، بأنبوب غاز "بروم" الروسي، خاصة وأنّ موسكو وقّعت مع دمشق إتفاقات عدّة بشأن الغاز.
وبحسب الكثير من الخبراء، من يسيطر على سوريا، سيتحكّم بشريان الغاز، أي بمصدر الطاقة الأساسية للقرن الواحد والعشرين، خاصة بعد أن إكتشفت هيئة المسح الجيولوجي في أميركا USGS أن الساحل الشرقي للمتوسط، أي الساحل السوري اللبناني الفلسطيني يحتوي على مخزون هائل من الغاز تقدر طاقته بنحو 700 مليار متر مكعب إضافة إلى النفط! ولا شكّ أنّ الإنفجارات التي تستهدف أنابيب نقل الغاز في كل من مصر وسوريا والعراق وأخيراً تركيا، تدخل في إطار الصراع المفتوح على النفوذ وعلى المصالح الإقتصادية. والأكيد أنّ إستماتة موسكو في الدفاع عن نظام دمشق، يهدف ضمن ما يهدف، إلى عرقلة المشروع الأميركي الذي يرمي إلى إستبدال غاز روسيا إلى أوروبا، بغاز قطر عبر تركيا! فهل ستنجح؟
(1) يهدف إتفاق "كيوتو" إلى الحد من إنبعاثات "ثاني غاز أكسيد الكربون" (CO2)، بشكل يحول دون تفاقم مشكلة الإحتباس الحراري.
(2) في العام 1994، أدخلت دول الإتحاد الأوروبي معايير قاسية بالنسبة إلى الإنبعاثات الملوّثة، الأمر الذي جعل الغاز أهم من النفط كمصدر طبيعي للطاقة (للتدفئة ولتسخين المياه وللطبخ، إلخ.)، علماً أنّ نسبة تلويث الغاز للبيئة تشكّل 10 % مما يلوّثه النفط.
(3) يذكر أنّ روسيا الإتحادية تسيطر على 67 % من مجمل عمليات بيع الغاز العالمي، خاصة وأنها تصدّره إلى الصين، إضافة إلى أوروبا وغيرها.
ناجي س البستاني
المصدر: النشرة الالكترونية اللبنانية
إضافة تعليق جديد