هل الأديان مصدر للتوتر أو منبع للاستقرار؟
التداول بموضوع حيوي مثل موضوع "الدين مسعى الحوار: في سبيل إبعاد شبح الاصوليات وتخفيف التوترات، الاديان مصدر توتر أو منبع استقرار" ما كان ليطرح في المنتديات لولا أن أصبح ينظر الى الدين على أنه عائق أمام الحوار من جهة ومغذٍّ للاصوليات وتالياً للتوترات من جهة أخرى.
ولعل طرح التساؤل في كون الاديان مصدراً للتوتر أو منبعاً للاستقرار ما يجعل مقاربة الموضوع وكأن فيه تشكيكاً في الدين نفسه على أنه حامل لرسالة العنف بدلاً من رسالة السلام التي أرادها الله سبحانه وتعالى ومنحها للبشر عبر الرسل والانبياء.
يطرح الموضوع الذي سأحاول معالجته إشكاليات ثلاث هي:
-1 حوار الاديان وفي حالتنا اللبنانية والعربية الحوار الاسلامي المسيحي الى ما يقودنا هذا الحوار ومع مَن وكيف؟
إن العنصر الديني يحتل في منطقتنا مكانه البارز، لكن الاشكالية المطروحة تتصل باحتلاله الحيز العام كله. من هنا التساؤل عن جدوى انتشار هذا العنصر الديني على كامل مساحة الحيز العام فيما يقتضي أن ينحصر هذا العنصر في الحيز الخاص والمتصل بالمعتقدات الشخصية والايمان الروحي دون سواهما.
-2 ثم هل أن النزاعات الجارية في لبنان ومنطقتنا والعالم هي لأسباب دينية؟
ولنحاول أن نحصر الموضوع في محاولة لفهم اسباب التوترات الطائفية فنقول أن تصاعد النزاع في لبنان ومنطقتنا مرده الى المشكل السياسي الذي ساد في منطقتنا منذ ما يزيد عن الستين عاماً، وهو النزاع العربي الاسرائيلي وجوهره مشكلة فلسطين والقدس.
لقد أنتج هذا الصراع بعد فشل الانظمة العربية في مواجهة اسرائيل واحتلالها وتعدياتها اليومية على الحقوق المشروعة الاساسية للشعب الفلسطيني تصاعد الموجة الدينية التي من ناحية أثبتت جدارتها في مواجهة اسرائيل ومن جهة ثانية فشل الانظمة العربية في مشاريع التنمية والتحرر وطمسها وقمعها للحريات الاساسية للشعب العربي بدعوى المواجهة مع اسرائيل.
المسيحيون العرب هم جزء من هذا المشرق، ولكن بعض المسلمين ينظرون اليهم على أنهم امتداد للغرب.
بعض العرب والمسلمين يلتبس عليهم، عن وعي أو عن غير وعي، الغرب باعتباره ممثلاً للمسيحية.
-3 يبقى موضوع الاقليات في هذه المنطقة التي ينظر اليها على أساس الهوية وليس الدين فقط.
في المشكلة الفلسطينية: يطرح السؤال: الارض لمن، للفلسطينيين الذين هم مسلمون ومسيحيون ويهود عرب، أم للاسرائيليين الذين استقدموا من أصقاع الارض كافة ليشكل لهم وطن قومي يهودي على أساس ديني؟
لقد روّج بعض المنظرين لمقولة "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض". وهنا كذبة تاريخية إذ لا يوجد في العالم ارض بلا شعب، فكم بالحري لهذا الشعب الفلسطيني الذي استوطن هذه الارض منذ مئات السنين؟
المواجهة في هذا الصراع، هل يجب أن تقوم على اساس قومي، وطني أم ديني؟ هذه المواجهة هل يجب أن تستند الى نظرية حركة "فتح" التي تقول بدولة علمانية يكون فيها مكان للعربي واليهودي أم وفق نظرية حركة حماس أي دولة اسلامية بمواجهة دولة يهودية؟
مرة أخرى يستعمل الدين كعنصر إلغائي للآخر المختلف. المطالبة بدولة يهودية على ما قال الرئيس بوش جنباً الى جنب مع دولة فلسطينية وفق قاعدة ما لنا لنا وحدنا وما لكم لنا ولكم.
في اطار هذا المشهد ما هو موقع الاقليات الدينية وغير الدينية في هذا المشرق العربي المتنوع؟
هل يمكن طرح الوجود المسيحي في المشرق مقابل الوجود الاسلامي في اوروبا؟ بالرغم من ضحالة هذا الطرح وعدم فهمه من العديد من الدوائر السياسية الغربية، وخصوصاً الاميركية جاء ردان: الاول في "الارشاد الرسولي" والثاني في مقررات المجمع الماروني: المسيحيون متجذرون في هذه المنطقة وفي لبنان. هم قبل الاسلام وقد دخل الاسلام عليهم. هم مشرقيون وليسوا حالة غربية في هذا المشرق لا يمكن مقابلة هذا الوجود بذاك، أي لا يمكن خلط الوقائع التاريخية بمعطيات سياسية راهنة. إن دل ذلك على شيء فعلى قصور في الفهم لتاريخ هذه المنطقة التي لم تكتسب معناها المميز لولا هذا الوجود المسيحي فيها.
إن أوروبا ليس مسيحية، بل هي أكثر بعداً عن المسيحية. فلنتذكر محاولات البابا الراحل يوحنا بولس الثاني في توكيده على ضرورة الاشارة الى المسيحية في تكوين أوروبا السياسية، ومعارضة جميع السياسيين الاوروبيين وتوكيدهم بالمقابل على إغفال الجذور المسيحية لاوروبا.
لقد برع بعض الساسة الاوروبيين والاميركيين في نقل النقاش من حق الشعب الفلسطيني في أرضه الى حجة واهية تتصل بعلاقة الاسلام بالحداثة. وهذا الامر يتصل بمشكلة أخرى هي علاقة الدين بالدولة كما يطرحها بعض المسلمين في هذه المنطقة وفي سائر الاقطار التي يعيش فيها مسلمون.
إن فشل بعض الانظمة العربية في التعاطي مع الاقليات المسيحية ضمن بلدانها (مصر والسودان) وعدم الاعتراف بوجود أقلية مسيحية في بلدان اخرى (السعودية والخليج) وإصرار المسلمين على الاعتراف بحقوقهم في البلدان الذين استوطنوا فيها (بعض بلدان اوروبا) يطرح مسألة اضافية: هل ان اوروبا مدعوة لتغيير سلم قيمها لتمكين المسلمين من العيش فيها وفق معتقداتهم، أم ان المطلوب من المسلمين الذين يعيشون في هذه البلدان أن ينسجموا مع قيم هذه البلدان، وهم مدعوون بالتالي الى استنباط اجتهادات وفتاوى جديدة تأخذ في الاعتبار كونهم أقلية في مجتمع أكثري مختلف دينياً وثقافياً؟
يبدو هذا المشهد الذي فيه تساؤلات أكثر من أجوبة، معبّراً عن استعمال الدين في السياسة وقد برع فيه أطراف عديدون: "اليهودي الارثوذكسي" في فلسطين المحتلة، وادعاء حق اليهود في إقامة دولتهم على أرض فلسطين تحقيقاً لوعد إلهي ولنبوءة مزعومة، الاميركي الانجيلي "الجديد" الذي اعتبر ان محاربة الارهاب مهمة رسولية تقوم على أساس ديني، المسلم العربي وغير العربي الذي يقوم باعمال ارهابية وفق فتاوى واجتهادات شخصية نظّر لها أئمة يدّعون بأنهم يؤدون واجباً شرعياً.
أوليس الدين هنا في كل استعمالاته سبباً للتوتر واساساً للتطرف وعاملاً مفجراً للتوترات؟
لاحظوا المشهد اللبناني: تصاعد التطرف الديني في مجتمع متنوع كالمجتمع اللبناني. عجز الدولة بسبب معاندة وممانعة بعض الفئات عن قيام هذه الدولة "دولة الحق".
ظاهرة الإقبال على الكنائس والمساجد: هل هي لغرض الايمان أم تعبيراً عن الانتماء والهوية؟
الخطاب الديني لحزب الله: "النصر الإلهي" في مواجهة اسرائيل. إن استحضار "العون الإلهي" أو "الوعد الإلهي" في الصراع العسكري يزيد من تعقيد الصورة لأن استخدام هذا العنصر الإلهي مضافاً الى تسمية الحزب باسم "الله" تعالى يعطي مستخدمه حصانة إلهية فيصبح فوق المحاسبة والمساءلة. إن هذا الاستحضار يندرج في منظومة ايديولوجية تطرح مجدداً مسألة المقدس وغير المقدس على الصعيد الديني وعلى الصعيد الوطني جدلية الوطنية والخيانة.
أوليس هذا المنطق يسوقنا الى مقولة "مَن ليس معنا فهو ضدنا"؟ إن هذه الالغائية للرأي الآخر، أوليس فيها جنوح نحو الشمولية والقمع والتسلط؟ أوليس من حق اللبنانيين طرح التساؤل عن جدوى المواجهة الاخيرة التي استدرج اليها عموم اللبنانيين بالرغم عنهم "شاءوا أم أبوا"؟ هل يقع هذا التساؤل في باب المحظور طرحه بحجة "القدسية" و"الوطنية" وأن من يجرؤ على طرح التساؤل يقع في محظور "الكفر" و"الخيانة"؟
من حقنا التساؤل، شاء هؤلاء أم أبوا، وسنظل نطرح التساؤل، لأن أحداً لا يستطيع أن يسوقنا بإرادته المنفردة الى المكان الذي لا نرغب فيه. وهذا ليس وقفاً على جهة معينة بذاتها.
ثم ما هي الاطروحة المقابلة لهذا الخطاب: هل هي علمانية ام مزيج من المصالح السياسية والاقتصادية التي تتوسل ايضا بعض المعايير الدينية والحساسيات المذهبية؟
ولعل محاولات التخويف بالقول ان خطرا ادهى من سلاح "حزب الله" واطروحته الايديولوجية قائم في بؤر وشلل ارهابية متفلتة من كل رقابة وتتوسل بدورها بعض الاجتهادات الدينية التي تلاقي افكار المتطرفين والعابثين بأمن المنطقة العربية والعالم لا تحول دون حق اللبنانيين في مناقشة كل المسائل المتصلة بالاستراتيجية الدفاعية عن لبنان في مواجهة العدوان الاسرائيلي. ولكن هذا يفترض ايضا من الممسكين بزمام الامور معرفة الدفاع عن فكرة الدولة لاقامتها.
لقد أدّت السياسة الاميركية الخرقاء وربيبتها الاسرائيلية الحمقاء بصورة خاصة في حرب تموز وما تلاها الى زيادة تعقيد الموقف الداخلي. فعوض ان يغلب النقاش الوطني في المواضيع المصيرية اتصفت المواجهات والسجالات بالكيدية والمناكفة والمعاندة حتى بات الوضع الداخلي على قاب قوسين او ادنى من خطر المواجهة الدامية.
اننا ننظر الى لبنان وطنا للعيش والحياة، وليس للموت والاستشهاد فقط. ولا نريد ان نواجه في كل مرة نرغب في طرح السؤال بالتخوين والاتهام. فالحوار اساسه حرية التعبير حتى داخل الدين الواحد والطائفة الواحدة. وكم نحن في حاجة الى هذا الحوار داخل طوائفنا.
الحوار هو الذي يبعد شبح الاصوليات، ويخفف من التوترات، واساسه احترام الآخر المختلف والاعتراف المتبادل والاقرار بأن التعدد سنة الهية "ولو شاء الله لجعلكم امة واحدة". (سورة المائدة رقم 5 الآية 48).
ان حفظ التنوع في لبنان هو اساس قيام هذا الوطن الصغير الذي ليس عبثا انه سمي بوطن الرسالة لأن رسالته اكبر من حجمه الجغرافي والبشري.
لبنان ليس بلدا مضافا، بلدا زائد، انما هو بالاساس قائم على حفظ الخصوصيات لتشكيلاته المتعددة ثقافيا ودينيا. ولعل المدخل الى ذلك هو تحريم استعمال الدين في السياسة.
لقد شكلت الاديان ذريعة للحروب في لبنان، وان لم يطرح فيها امر ديني اساسي. تكمن المشكلة في استغلال السياسة للدين، وفي حالتنا اللبنانية ما يعرف بالطائفية السياسية وسوء تطبيق الدستور ومخالفة بنود وثيقة الوفاق الوطني والقوانين وتصاعد اللهجة الطائفية في السجال السياسي، على ما نراه في ايامنا هذه بدعوى الحفاظ على حقوق الطوائف وأحجامها.
وبالفعل ان اثارة الغرائز الطائفية في الخطاب السياسي تشكل عامل انقسام وصورة جلية لاستغلال الدين في الاشتباك السياسي: كالمطالبة باستعادة صلاحية رئيس الجمهورية دون ان يفهم المطالبون بأن رئيس الجمهورية في لبنان قد تحول من فريق سياسي الى رمز لوحدة الوطن. لقد أمن الدستور المعدل للرئيس الماروني حصانة جعلته فوق المؤسسات وفوق التجاذبات. ولكي ينجح هذا المفهوم في تطبيقاته يجب ان يتولى هذا المركز من هو مؤهل لتوليه لجهة نزاهته وترفعه لكي يشكل في الواقع رمزاً للوطن يجمع ولا يفرق.
كما ان محاولات بعض الافرقاء للانقلاب على وثيقة الوفاق الوطني بعدم الاعتراف بها في خطابه السياسي، ومحاولته منع قيام الدولة الجامعة، وضرب المبادىء الميثاقية في محاولة لتوظيف مواجهته مع العدو الاسرائيلي عسكريا او على غير صعيد في تحديد الاحجام داخل الصيغة السياسية، بحيث يصار الى الغاء مبدأ المناصفة ربما والسعي لتحقيق المثالثة بما يفقد لبنان معناه والعيش المشترك فحواه والميثاق جوهره تطبيقا لديموقراطية عددية تطيح بمكتسبات الديموقراطية التوافقية التي يقوم عليها اصلا هذا البلد. ان محاولات منع قيام هذه الدولة الضامنة لحقوق الجميع ايضا وايضا ليست وقفاً على جهة معينة بل يتشارك في هذا المنع اكثر من فريق واكثر من مسؤول.
ليست مشرفة الصورة التي حاولت ان ارسمها، ولكنها واقعية. نحن مدعوون لعدم اليأس، بل الى المزيد من الجهد والعمل لصون حياتنا المشتركة. لبنان في خضم التحديات الراهنة. وليس كثيرا ان قلنا ان هذا الوطن الصغير يعيش لحظات حرجة في تاريخه تتصل بوجوده وصيغته وسلمه الاهلي. كلنا مدعوون للتفكير بأحوالنا وعدم القنوط والهجرة والتخلي. اذا تخلى شباب لبنان عن وطنهم او هاجروا يبقى مصير البلد في مهب الريح. علينا ان نتمسك به اكثر. ان الوطن ليس فندقا ننزل به في ايام الرخاء فقط انه مكان اقامتنا وتراث آبائنا وابنائنا ومحط آمالنا. علينا الدفاع عنه بالاعتدال والحوار وبالاساليب الديموقراطية. فالزعماء ليسوا انصاف آلهة. انهم زعماء بسبب منا. هم زعماء لأننا نصبناهم كذلك علينا. فلا ندع بعضهم يستدرجنا الى الفتنة. ليس ما يبرر هذه الفتنة اي خلاف بين مسلم ومسيحي او بين سني وشيعي او بين شيعي ودرزي.
لا يوجد اي سبب يبرر هذا التناحر. ان ما يجمعنا اكبر بكثير مما يفرقنا. فلننطلق بما يجمعنا ونؤسس عليه لمستقبلنا ولنحدد ما يفرقنا. اليس الحوار هو بين المختلفين فلنتحاور دوما وتحت كل الظروف حماية لحياتنا الوطنية وضمانة لاستمرارنا في هذا الشرق...
عباس الحلبي
المصدر: النهار
إضافة تعليق جديد