صادق جلال العظم: نقد الــفكر الطائفي بعد الهزيمة
لا أنفي أنني في مرحلة شبابية تأثرت ببعض كتابات صادق جلال العظم، وخصوصاً في نقده الجريء للمؤسسة الدينية، وفي تفنيده الدقيق لخطاب الجبرية عند بعض الأنظمة العربية. وكان دوماً قريباً من خط الجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين، وأتاح له نايف حواتمة حضور اجتماعات مكتبها السياسي، دون أن يكون عضواً رسمياً فيها.
لكن قراءة العظم في مرحلة التخصّص الأكاديمي كانت مسألة أخرى بالنسبة إليّ، تعود إلى كتاب «النقد الذاتي بعد الهزيمة» (وقد كتبت نقداً مفصّلاً فيه هنا) وتقرأ فيه نسقاً عادياً للاستشراق المبتذل، مثل كتاب «العقل العربي» لرفائيل باتاي الإسرائيلي، أو كتاب «الدائرة المغلقة» لديفيد برايس جونز. وغوص العظم في مسألة «الشخصيّة الفهلويّة» _ وقد استعارها من حامد عمّار وفيها ما يقع خارج المقبول في العلوم الاجتماعيّة منذ السبعينيات ومرحلة تقويض بنيان المنهجيّة العنصريّة في الدراسات الأنثروبولوجيّة وإن لا تزال بعض بقاياها حيّة حتى عربيّاً _ لا يخرج عن نطاق العنصرية الذاتية، أو تحقير العرب على يد العرب، أو تحقير العرب لمجاراة الرجل الأبيض. لكن تحوّلات العظم السياسية عبر السنوات تؤهّل لإعادة النظر في نقد الكتاب والنظر إليه على أنه أسوأ من الاستشراق المبتذل العادي. لعلّنا لم نقرأ بعض السطور. أشعر أن الكتاب يحتاج إلى قراءة باطنية.
تعرّفت إلى العظم في مرحلة التسعينيات عندما كنت في مدينة واشنطن. وكان يحظى بمواقع «زيارة» في مؤسّسات أميركا وجامعاتها (التقيت العظم بصورة عابرة أواخر السبعينيات في حرم الجامعة الأميركيّة ببيروت عندما كنت أعدّ دراسة حزبيّة غير منشورة عن التاريخ الاستعماري للجامعة الأميركية في بيروت. حدّثته عن المشروع وأجاب عن بعض أسئلتي، وكان _ ولا يزال للحق _ قريباً من التلاميذ ولا يتعاطى معهم على طريقة الأساتذة المنبريّة التي عانى ويعاني منها الطلاب العرب في الجامعات الرسمية والخاصة). لكن معرفتي به اجتماعيّاً بدأت في التسعينيات بصحبة الصديق بسام حداد (تلميذي السابق وزميلي حاليّاً). وعندما عرف إدوار سعيد بمعرفتي بالعظم آنذاك، هاله الأمر. أذكر أنه اتصل بي ذات صباح غاضباً وشارحاً ظروف دعوة العظم إلى أميركا.
وبين العظم وسعيد، كان خلاف عميق لم تقلّصه السنوات. القصّة مفادها أنّ العظم كتب نقد كتاب الاستشراق لسعيد («الاستشراق والاستشراق معكوساً») عندما كان ضيفاً في بيت سعيد، ومن دون علم سعيد الذي اعتبر الأمر خروجاً عن الصداقة وعن أصول الضيافة. وبصرف النظر عن حق النقد ومبدأ تقبّل النقد من الأقربين والأبعدين، فإن سعيد رفض قطعاً مصالحة العظم. واشتكى العظم لي أن سعيد لم يسامحه، رغم محاولات للمصالحة من قبل العظم. لكن سعيد روى بحق قصّة دعوة العظم السياسيّة، غير الأكاديمية، إلى أميركا: أنها أتت من أكثر المراكز الشرق أوسطية صهيونية في كل أميركا، أعني مركز دراسات الشرق الأدنى في جامعة برنستن (وللعلم، فإن فيليب حتّي الذي درّس في جامعة برنستن كان على خلاف مع المركز وأوصى بمنح مكتبته الخاصّة لجامعة مينيسوتا وليس إلى جامعة برنستن). والإسرائيلي، إيمانويل سيفان وبرنارد لويس وغيرهما من الصهاينة هم الذين بادروا إلى دعوة العظم، كما عرفت في ما بعد. لن أنقل بالحرف ما قاله لي سعيد عن دعوة العظم حرصاً على أسماعكم وأسماعكنّ، ولكن صحيح أن الدعوة كانت مكافأة للعظم على خلافه مع سعيد، رغم مسعاه المُستمرّ للمصالحة (وهي لم تتمّ حتى موت سعيد).
هناك من تقترب منهم وتكتشف فيهم أشياء تقرّبك أكثر (مثل العظيم جورج حبش)، وهناك من تقترب منهم وتنفر. لم يشب علاقتي بالعظم أثناء إقامته في واشنطن عندما شغل منصب باحث زائر في مركز «ولسن» (لإعطائكم فكرة عن المركز، هو المركز الذي يدعو فؤاد السنيورة دوريّاً للحديث عن الثورات العربيّة وعن تطلّعات الشباب العربي). وكانت أبحاث العظم وآراؤه العلمانيّة تتقاطع مع أفكاري، وقد انتدبني أكثر من مرّة لتمثيله عندما لم يكن لسبب أو لآخر قادراً على إلقاء محاضرة في موضوع العلمانيّة في العالم العربي. لكن شاب نظرتي له عاملان: اكتشفت أن منظرّكم الماركسي السابق متعلّق بخلفية عائلته «الأرستقراطية» (والأرستقراطيّة» في عالمنا العربي لا تعني أكثر من الولاء والطاعة للباب العالي والباب المتدنّي في العهد التركي أو الاستعماري الأوروبي). أذكر كيف روى لي مرّة بزهو أنه في حفلة عشاء جمعته مع مصطفى طلاس وزوجته (من آل الجابري) تلاطف مع الأخيرة حول أصل العائلة عندما كانت تقول إن دمها أزرق. فأجابها العظم بأن دم عائلته «ليلكي» إذا كان دم عائلتها أزرق. وتضاحك الجميع، على ما روى.
لكن القصّة الثانية التي أبعدتني (أو نفّرتني) كانت أخطر. وصلني من خبيرة أميركية في شؤون الشرق الأوسط أنّ العظم قبل دعوة (عام 1993) من مؤسّسة واشنطن لسياسات الشرق الأدنى. وكان المركز الذي تأسّس كذراع فكرية _ بحثية لمنظمة «إيباك» (اللوبي الإسرائيلي الرسمي في أميركا) مُقاطعاً (آنذاك) من قبل العرب المحافظين وغير المُحافظين. حتى مستشار أنور السادات، تحسين بشير، أسرّ لي في نيويورك بعد مناظرة أجريتها مع الصحافيّة جوديث ميلر وانتقدت فيها المؤسّسة المذكورة أنه رفض كل عروض مارتن إندك ليتبوّأ أي منصب زائر في المركز، مقابل ما يقرّره هو من مرتّب. (اليوم، يتقاطر العرب إلى المركز: من وليد جنبلاط، إلى مروان المعشّر، إلى نهاد المشنوق، إلى مصباح الأحدب، إلى سائر التطبيعيّين العرب لأخذ بركة الصهاينة هناك). اتصلت بالعظم وقرّعته بشدّة على قبوله الدعوة. قلت له: لم يزايد أحد من المثقّفين العرب أكثر منك، ولم يخوّن أحد غيره من المثقّفين العرب أكثر منك. لم تترك مثقّفاً عربياً، من هشام شرابي إلى وليد الخالدي، إلا اتهمته بالعمالة إما للموساد وإما لوكالة الاستخبارات الأميركية أو للاثنين معاً. وقد وضعتَ كتاباً قرّعت فيه المثقّفين العرب بسبب زيارة من أستاذ في جامعة هارفرد لبيروت اعتبرتها أنتَ أنها مشبوهة. ماذا تتوقّع من الردود عليك؟ أليس في قبولك نفاق؟ فقال لي بصوت ضعيف: «لقد انهزمنا يا أسعد. اليهود انتصروا». لم أصدّق ما قاله. هالني ما سمعتُ منه. قلت: أنت تقول هذا الكلام؟ هم ينتصرون فقط عندما تعلن أنتَ وغيرك نصرَهم. المعركة لم تنته، هذا إن كانت قد بدأت. قال لي: سأفكّر بالأمر. وبعد دقائق، اتصل بي وقال: ستسرّ. لقد هاتفتهم واعتذرت بداعي المرض. قلتُ له: لا، لم تسرّني. كان يجب أن تصرّح أن رفضك بداع سياسي وليس بداع صحّي. تباعدنا ولم ألتق به مجدّداً إلا قبل سنوات قليلة في مؤتمر أكاديمي في مدينة بوسطن، وقلت له هازئاً: أنتَ، أنتَ أصبحت من دعاة الديموقراطيّة؟ حتى أنتَ؟ فأجابني: نريد أن نتنفّس. تبادلنا حديثاً سريعاً أدركت من خلاله أن المسافة بيننا قد ازدادت كثيراً.
كل هذه المقدّمة كانت بسبب مقابلة أجرتها معه علياء الأتاسي في جريدة الأمير خالد بن سلطان، «الحياة»، أخيراً. فالعظم أصبح عضواً قياديّاً (كل الأعضاء قياديّون على طريقة تنظيم «اليسار الديموقراطي الحريري» في لبنان) في الائتلاف الوطني السوري (الأميركي _ القطري، يمكن أن نضيف). لكن العظم لم يكن معروفاً عنه مقارعته أو حتى معارضته للنظام السوري خلال السنوات والعقود، وباعترافه هو. ومن المعروف أن العظم تبوّأ منصباً رفيعاً في جامعة دمشق في ظل نظام حافظ الأسد، وابنه من بعده. وهل تحدث تعيينات في الجوامع والجامعات في سوريا لا تحظى برضى النظام؟ هذا الأمر متروك للتقييم التاريخي للشعب السوري في ما بعد. ولكن لا عجب، إذ إن هناك أبواقاً سابقة وقادة سابقين وحتى جلادين سابقين في النظام ممن تحوّلوا إلى معارضين بارزين هذه الأيّام. ظاهرة يألفها اللبنانيّون واللبنانيّات مثل غيرهم. وحتى في موضوع الأنظمة العربيّة، لم يكن العظم مُعارضاً بالتحديد لأنظمة عربية معيّنة إلا عراق صدّام حسين، وهذا لم يتعارض مع السياسة الخارجيّة للنظام السوري على مرّ السنوات. وأذكر أنني تناولت الغداء معه ومع أسامة الباز في التسعينيات خلال مؤتمر في واشنطن في مركز الدراسات الاستراتيجيّة والدوليّة. وعندما انهلت على الباز بالنقد والأسئلة عن حكم مبارك (الذي حاول التنصّل منه في الحديث) تبرّم العظم مني وطالبني أمامه بأن أخفّف من نقدي له وللنظام المصري.
وقد انتقد العظم في المقابلة (مجدّداً) موقف أدونيس من «الثورة السوريّة» _ كم يسهل إطلاق صفة الثورات هذه الأيام في العالم العربي، حتى الحركة الحريريّة _ السعوديّة ارتدت عباءة الثورة _ وذكّر بموقف أدونيس السابق من «الثورة الإيرانيّة» حيث كان أدونيس (وغيره من المثقّفين العرب مثل أنور عبد الملك) من المصفّقين والمهلّلين، يا للأسف. يستحق أدونيس التقريع على موقفه هذا، وخصوصاً أن القيادة الدينيّة التي استولت على الثورة بالقوّة لم ترحم اليساريّين والعلمانيّين في إيران. لكن العظم لا يرى التناقض الذي يقع فيه عندما يكيل المديح لحركة الإخوان المسلمين اليوم. لا بل إن العظم، الذي كان لا يتهاون مع أي تسامح أو تعاون أو لين في تعاطي اليسار مع الحركات الدينيّة على أنواعها، يعيب اليوم على بعض الشخصيات السورية المستقلّة انتقادها للإخوان. ويحاول أن يلمّح _ كما يصرّح معظم أقطاب المعارضة السوريّة ومثقّفيها _ إلى كون موقف أدونيس من «الثورة السوريّة» يرجع إلى خلفية طائفية. والعظم يقرّع أدونيس لأنه لم يناصر سلمان رشدي (ومناصرة رشدي لم تكن صعبة في العالم العربي لأن عنوان المناصرة كان مقارعة النظام الإيراني)، لكن العظم سكت ويسكت عن قمع المفكّرين والكتاب والمدوّنين وتكفيرهم في دول النفط والغاز. هل يعود ذلك لأن العظم يحتل منصباً في تجمّع تموّله وتدعمه أنظمة النفط والغاز؟ لا، ليس موقف العظم أفضل من موقف أدونيس هنا. إن الممالأة اليساريّة أو حتى العلمانيّة للحركات الدينيّة لا تختلف بين حركة وأخرى، أو بين دولة وأخرى.
والنزعة الاستشراقيّة المبتذلة عند العظم تظهر في المقابلة. تسأله الأتاسي إذا كانت «الشخصية السورية هي السبب وراء استفحال التخبط في قرارات المعارضة». هكذا بالحرف. تعرف هي أن العظم سيجود حول مشاكل تركيبة الشخصيّة العربيّة، وبالفعل يجيبها دون تردّد أن المشكلة تكمن في «غياب النضج والافتقار إلى روح الفريق»، ويضيف كلاماً عن «العادات والطبائع». لو صدر هذا الكلام عن مبتذلي الاستشراق لتعالت صيحات الاستنكار _ من ناقدي الاستشراق في العالم العربي، على ندرتهم في إعلام النفط والغاز.
والعظم مُعجب بالإخوان المصريين والسوريين، بالإضافة إلى الحكم التركي. ويرى «تحولاً كبيراً في خطاب الإخوان»، وكأن الخطاب وحده هو الكفيل بتشكيل المعيار للحكم على أيديولوجيا أو ممارسة الحاكم أو المعارضة. ويبدي العظم إعجاباً بـ«المشروع الإصلاحي» _ لم نتبيّن معالمه بعد _ للإخوان ويرى فيه «أفكاراً ليبراليّة وحديثاً عن دولة مدنيّة» (نسينا أن نخبركم بأن العظم أصبح هو أيضاً ليبرالياً، ولعلّ ذلك يفسّر هوى الإعلام النفطي والغازي به هذه الأيام). ولا يضير العظم أن الإخوان لم يشرحوا لنا يوماً المضامين الدستورية والقانونية للدولة المدنية تلك، وخصوصاً أن المصطلح دخيل على القانون الدستوري. لكن إذا كان حكم الإخوان في مصر وأفعال الإخوان في سوريا هي بوادر جنينية للدولة المدنيّة فهذا لا يبشّر بالخير، وإن كان يبشّر هذا العظم، المُتحوّل غير الثابت، بالخير الوفير.
لكن أخطر وأبشع ما في كلام العظم هو النفحة الطائفيّة فيه. وهو كغيره من معارضة قطر والسعوديّة (أكاد لا أصدّق أنني أكتب من دون تردّد أن صادق جلال العظم ينهي سنواته عضواً بارزاً في معارضة قطر والسعوديّة _ لو فعل ذلك غيره عندما كان هو ينتقد ويخوّن يميناً ويساراً لكتب كتاباً في هجاء نفسه) ينتقد أدونيس (وأنا لم أكن معجباً قط بمواقف أدونيس السياسيّة وكتبت في نقد «الثابت والمتحوّل» هنا) بنَفَس طائفي. العظم يحلّل الوضع السوري على طريقة تحليل حزب الكتائب اللبناني للوضع اللبناني. هو، على طريقة الاستشراق الذي اهتدى به في كتابه «النقد الذاتي بعد الهزيمة»، لا يرى في العرب إلّا قبائل وطوائف وعشائر. وتتبدّى النزعة الطائفيّة المُستجدّة(؟) عند ناقد الفكر الديني عندما يبدي إعجابه بـ«قدرة المكوّن السنّي الذي يشكّل غالبية المجتمع السوري على ضبط النفس». بصرف النظر عن استعمال العظم للمصطلحات الطائفيّة، فإنه يتجاهل أفعالاً وخطاباً طائفياً ومذهبياً مقيتاً صادراً عن «مكوّنات» المعارضة التي ينتمي إليها، وعن العصابات المسلّحة التي يلهج هو وغيره بحمدها. هل الدعوات إلى إبادة العلويّين وفرمهم تدخل في باب ضبط النفس؟ طبعاً، هذا لا يعني أن الأفعال المشينة والخطاب المذهبي يجب أن يتحمّل مسؤوليّتها كل السنّة، لكن منطق التعميم الطائفي صادر عن خطاب العظم في مقابلته.
والعظم، الحق يُقال، يخشى على تفجّر الصراعات الطائفيّة في المنطقة. لا يتحسّس وجودها بعد بتاتاً، لكنه يرى أن دخول حزب الله في الصراع في سوريا «على أساس طائفي شيعي» سيؤدّي إلى «استنفار» طائفي سنّي. أي أن العظم لم يلاحظ بعد الخطاب الطائفي المذهبي في الحكم السعودي والقطري الذي يرعى تجمّع المعارضة التي ينتمي إليها. بكلام آخر، وفق التسلسل غير المنطقي عند العظم، فإن المنطقة العربيّة تعيش في حالة من الوئام والتحاب والودّ، والطوائف لا تلاحظ وجود بعضها الآخر، لكن تدخّل حزب الله في الشأن السوري هو الذي قلب المعادلات وأدخل الطائفيّة البغيضة إلى عالمنا. بقي أن يكتب العظم جزءاً ثانياً في «نقد الفكر الديني» بعنوان «في مديح الفكر الوهابي».
يعترف العظم بالشعور بالذنب (لكنه يضع الأمر في صيغة الجمع عند جيله) لأنه سكت عبر السنوات عن جرائم النظام السوري ولم يكتب كلمة واحدة عن مجزرة حماه، فيما كتب مطوّلات في الدفاع عن سلمان رشدي (مع دفاعي عن حق رشدي في النقد والكتابة حتى لو أزعجت السلطات الدينية السنية والشيعية على حدّ سواء). العظم كان يُعتبر مؤيّداً للنظام لسنوات، حتى إن زميلاً لي يتذكّر أنه تصارع (كلاميّاً) معه في جامعة براون عندما كان العظم يدافع بقوّة عن النظام السوري أمام جمع طلابي. لا ينفي ذلك العظم في المقابلة المذكورة إذ يقول بالحرف: «سكتنا وابتلعنا التوريث» _ وهنا هو يتكلّم بالنيابة عن نفسه فقط، لأن هناك في سوريا من كسر حاجز الخوف قبل سنوات وعقود وتعرّض للتعذيب والقتل من أجل ذلك. يعترف العظم بأنه لم يكسر حاجز الخوف إلا أخيراً، لكن اعترافه يجب أن يدفعه إلى التواضع وإلى العزوف عن أي عمل سياسي لأن المعارضة تستحق رجالاً ونساءً من الذين واللواتي كسروا حاجز الخوف في سوريا قبل اندلاع الانتفاضة.
ويستمرّ العظم في استرسالاته الطائفيّة فيزيد بأن قناعة منع تكرار المعاناة (وهنا أدخل المقارنة مع معاناة اليهود في المحرقة) قد «ترسّخت في الوعي السنّي الجماعي في سوريا». ما هو الوعي السنّي الجماعي؟ هل استحدث العظم بديلاً من التحليل الطبقي؟ هل أصبحت اللغة اليساريّة عنده باطلة وخشبيّة؟ لا يريد يساراً بعد اليوم. يقول في المقابلة المذكورة: «اليسار لم يعد لديه ما يطرحه في الوقت الحاضر. أنا ذكرت سابقاً، وفي مناسبات أخرى، أن المرحلة الآنيّة، هي مرحلة الطبقة الوسطى ورأسمالها والرأسمال العربي». وعندما يقول ليس هناك من طرح لليسار، فهو يعني أن الصراع الطبقي قد انتهى وأن الاستغلال الرأسمالي دخل التاريخ، وأن الطبقة العاملة وصلت إلى السلطة في كل العواصم. انتهى التاريخ عند العظم، أم أن الماركسيّة انتهت عنده بعد صعود الحركات الإسلاميّة؟
هذا هو صادق جلال العظم في سنوات الكهولة: الرجل الذي نظّر للثورات الحقّة، والذي كان يعتبر أن اليسار الفلسطيني الثوري ليس ثورياً بما فيه الكفاية، بات يلهج بحمد الإخوان المسلمين. لم يعد العظم يقدّم نقداً: بل هو يقدّم روح الانهزام التي ضربت عدداً من المثقّفين بعد الحرب الأميركيّة على العراق عام 1991. هؤلاء الذين كانوا يتحيّنون الفرص _ مثلهم مثل النظام الهاشمي _ لإعلان إنهاء صراعهم مع العدوّ الإسرائيلي. الانهزامية وحدها، أو الطموحات السياسية الصغيرة ولو في تجمّعات تخلقها أنظمة النفط والغاز، تفسّر التحوّلات الجذرية في فكر البعض وسياسته.
حالة العظم لافتة فقط لأنه كان عنوان المُزايدة اليساريّة والتخوين والتكفير (العلماني) على طريقة حزب البعث. لم ينجُ مُثقّف عربي واحد من هجاء العظم ونقده. لم يكن هناك يساري وماركسي وعلماني غيره. أعطى نفسه نياشين لأنه ناصر قضيّة سلمان رشدي، لكنه لن يحوز نياشين من قلمه السابق لمناصرته الإخوان والسلفيّين في سوريا. قد نقلب معادلة صموئيل جونسون ونتساءل إذا كانت الطائفيّة هي الملاذ الأخير للمثقّفين العرب المهزومين.
أسعد أبو خليل
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد