«الملل والنحل» للشهرستاني: تعدد الرؤى وقبول الاختلاف

19-04-2014

«الملل والنحل» للشهرستاني: تعدد الرؤى وقبول الاختلاف

إذا أردت أن تبحث عن كتاب يعبّر عن تعدد الرؤى في الثقافة العربية وتصور الذات للآخر وقبول الاختلاف، فلن تجد أيسر من كتاب «الملل والنحل» للشهرستاني (479هـ - 548 هـ) الذي يمتاز بفكره المستقل ومدرسته الفريدة القائمة على الالتزام بالقرآن والسنّة مع رفض التقليد. ويقول الدكتور رمضان بسطاويسي محمد، أستاذ الفلسفة والجمال في جامعة عين شمس المصرية في مقدمة الطبعة الحديثة التي أصدرتها الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة من الكتاب نفسه: «إذا أردنا أن نستعيد مشروعنا الثقافي العربي، فعلينا أن نرسخ ثقافة التعدد بوصفها حقيقة من حقائق وجودنا الاجتماعي والثقافي وأن التعدد حقيقة كيانية موجودة لدى الإنسان».

إن الاختلاف في الفكر والتنوع في الثقافات من أبرز عوامل التطور داخل المجتمعات الحديثة وبمقدار ما يكون المجتمع متسامحاً فكرياً وقادراً على تقبل المختلف من الآراء والنظريات، يمكنه بناء مسيرة تطوره وأداء رسالته الثقافية للآخرين. وقد تقبل العلماء والفقهاء هذا التنوع داخل المنظومة المعرفية الإسلامية.

أما بذور التعددية الثقافية والفكرية فيرجعها البعض إلى العصور الإسلامية الأولى، ذلك أن التعددية غُرست مبكراً في أرض الثقافة العربية، والاختلاف الفكري بدأ باكراً في حياة المسلمين. ومما يذكر أن ظاهرة التعدد الفكري بدأت مع الإنسان الأول واستمرت تلازم مسيرة حياته وستبقى.

وللحفاظ على الحرية الفكرية داخل المجتمع وبين الأطياف المتعددة داخل الأمة، قام الإسلام بتقنين هذه الحرية وضبطها عبر التأصيل الفقهي والمقاصدي لها، وقد ضبطت هذه الأصول في ما سمّي بالقواعد الفقهية والأصول العملية. ولذلك، فإن عرض الشهرستاني لكل الاتجاهات المخالفة يعكس قوة الذات العربية بإيمانها بربّها. ويتعرض أيضاً للثقافات المختلفة مثل ثقافة الهند والرومان. وكتب الشهرستاني في مقدمة كتابه «الملل والنحل»: «شرطي على نفسي أن أورد مذهب كل فرقة على ما وجدته في كتبهم من غير تعصب لهم ولا كسر عليهم، ومن دون أن أبيّن صحيحه من فاسده وأعيّن حقه على باطله، وإن كان لا يخفى على الأفهام الذكية مدارج الدلائل العقلية، لمحات الحق من نفحات الباطل». وهذا في حد ذاته يعبّر عن حياد من إمام من أئمة الأشاعرة الشافعية.

ويستعرض الشهرستاني آراء من يختلف معهم بتجرد من خلال نصوصهم وليس من خلال تفسيره لهم، ويبتعد عن منطق «التكفير»، مكتفياً بـ «التخطئة والتصويب»، مميزاً بين التكفير الذي يعبر عن «حكم شرعي»، و «التصويب» الذي يعبر عن «حكم عقلي».

وتثير فصول «الملل والنحل» الكثير من الأسئلة ويحتاج كل باب من أبوابها إلى بحث مستقل، وعلى رغم هذا تشكل هذه الموسوعة خزانة عملاقة من المعلومات تشهد لثراء المكتبة في الفترة العباسية وتعددية مراجعها الثقافية المدهشة في زمن تتقاتل فيه الملل والنحل وأهل البدع والأهواء.

كتب الشهرستاني هذا الكتاب على رغم الحروب المستمرة بين الفرق بسبب الخلافات بين المعتزلة وأهل السنّة في العصر العباسي، وقد تعايشت الملل والنحل المتقاتلة وتلاقحت في شكل مثمر وعرف الفكر الإسلامي تعددية مدهشة في المذاهب والعقائد وتغيرت الأحوال بين حقبة وأخرى وتحولت الفرقة الحاكمة فرقة مضطهدة مع تحول سلطة الدولة عنها. فمثلاً انتهج الخليفة المتوكل سياسة معاكسة لسياسة أسلافه، فهجر الاعتزال ورفع المحنة وأحسن الصنيع لأهل السنّة بخلاف أخيه الواثق وأبيه المعتصم وعمّه المأمون. أما في زمن السلاجقة فبرز عدد من الأئمة والعلماء، منهم محمد عبد الكريم الشهرستاني، مؤلف «الملل والنحل» الذي ترك مجموعة من المصنّفات الكلامية تشهد لتعمقه في علم الكلام، وتميز بخروجه عن دائرة الفرق الإسلامية وعرضه لعقائد أهل الكتاب من اليهود والنصارى وأشهر فرقهم وتعريفه بـ «من لهم شبه كتاب» من فرق المجوسية والإثنية المجوس والمانوية. كذلك تناول الشهرستاني في بحثه فرق أهل الأهواء والنحل واستعاد تشعبها الفلسفي، فاستعرض إنتاج الحكماء السبعة، ثم الحكماء الأصول ومتأخري اليونان، ومن ثم المتأخرين من فلاسفة الإسلام. واختتم كتابه بفصل حول آراء العرب في الجاهلية وفصل حول آراء الهند.

وطبع الكتاب للمرة الأولى في لندن في العام 1846 بعناية المستشرق وليم كورتن، ثم أصدر الشيخ محمد بن فتح الله الكتاب في القاهرة في العام 1946 في خمسة مجلدات. وكان الشهرستاني مشهوراً بالبراعة في التأليف وحُسن التصنيف وألَّف في فنون العلم المختلفة: التفسير والفقه وعلم الكلام والفلسفة وتاريخ الفرق والأديان، وزاد عدد مؤلفاته عن عشرين.

ويقول بسطاويسي: «إن مذهب الشهرستاني العقائدي هو مذهب الأشاعرة، وكتابه هذا هو أكبر دليل عليه وشيوخه هم من الأشاعرة. وأيضاً كتابه «نهاية الاقدام في علم الكلام» ينصر المذهب الأشعري بأدلته وحججه ويناقش الآراء المخالفة له ويرد عليها. وآراء الشهرستاني العقائدية هي موافقة تماماً للمذهب الأشعري. أما عن مذهبه الفقهي فقد كان الشهرستاني شافعي المذهب ويدل على ذلك أن شيوخه كانوا من المتعصبين للمذهب الشافعي».

ويساعدنا كتاب «الملل والنحل» في تبين صورة الآخر في ثقافة ما لنعرف أنها نتاج لمعايير معرفة وقيمة لهذه الثقافة العربية واستجلاء صورة الآخر في العقل العربي، خصوصاً أن الآخر متغير بتغير الأحوال والعصور من خلال عرض الشعوب والديانات الأخرى، كما رآها العرب خلال أربعة قرون وكما ارتسمت في ثقافتهم ودخلت وجدانهم وأثَّرت في مواقفهم السياسية والاقتصادية والثقافية والأخلاقية تجاه هذه الشعوب وتبيان كيفية تأثرهم بها وأثرهم فيها. إن العلاقة بين الذات والآخر علاقة جدلية لا ينبغي إلغاؤها أو تجاهلها أو السكوت عنها، فعلاقة كل منهما بالآخر هي ثنائية قائمة في طبيعة الحضارات ويعد كل شطر منها شرطاً لوجود الآخر وفهمه ووعيه والاعتراف به.

هيام الدهبي

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...