«شرق أوسط جديد» برعاية مصريّة: إسرائيل إلى «الحضن العربي»
تحتل إسرائيل المرتبة الأولى في قائمة منتجي «صنّاع السوق السياسي»، لكن ذلك ليس ثمار «ماراثون» خاضته في مسابقةٍ دولية أو تصدرته نتيجة إحصاءات علمية، فـ«صُنّاع السوق» يعرّفهم مجال الاقتصاد بأنهم شركات الوساطة، أو البنوك، أو المؤسسات التي توفّر السيولة لعملائها وتسهّل عمليات التداول من خلال تمثيل الطرف الآخر.
وفي حالة إسرائيل، نجدها المبتكر الرئيسي لمصطلحات هذا السوق ورواياته، واستغلال صنّاعه بعدما تنتجهم. أمّا «الصنّاع» هنا، فهم شركات الوساطة التي تمثلها دول عربية باتت مكشوفه للكل، بدبلوماسييها وبرؤسائها وبممثليها في المؤتمرات والمفاوضات والمبادرات. هؤلاء يتولون مهمة توفير سيولة المصطلح وتسهيل عملية تداوله داخل هذه الأروقة، ثم البناء عليه لصنع مستقبل المنطقة.
منذ مدّة لا بأس بها، بدأت إسرائيل استخدام مصطلح «الفرص الإقليمية» مراراً وتكراراً، ولا سيما أن التطورات في المنطقة منذ عدوان تموز 2006، الذي أجهضت فيه المقاومة اللبنانية مشروع الشرق الأوسط الجديد، أسهمت في عودته اليوم بصورة أكثر تعقيداً، ما يستدعي استحداث مصطلحات سياسية تلائم المستجدات الأمنية وتطورها.
عكف صناع القرار الإسرائيلي أخيراً (مراكز الأبحاث، والحكومة، وممثلو إسرائيل في العالم) على استخدام هذا المصطلح (الفرص الإقليمية)، في إشارة إلى كل الظروف التي يمكن استغلاها لتحقيق المصالح الإسرائيلية العليا. لكن المصطلح تخطى حدود صلته بمن استحدثه أو أطلقه، وبات تناوله مكشوفاً في الخطاب السياسي ووسائل الإعلام المصرية التي تحاول «تسهيل هضمه» في عناوين كـ«الشرق الأوسط الجديد» و«التعاون الإقليمي».
الخطاب، الذي تصدرته إسرائيل سابقاً، كان يثير «القرف والشك» في العالم العربي، لكنه اليوم بات يُتناول على لسان دول عدّة، وبرغم ذلك لا يزال هذا الخطاب، وفق بحث أعدّه «معهد أبحاث الأمن القومي» في تل أبيب، يثير الجدل في مصر والأقطار العربية الأخرى، خصوصاً أن رؤساء هذه الدول وحكامها يجدون صعوبة في تبنيه بما أنها لم تستطع حتى اللحظة «تحقيق السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين»، لذلك يطالب البحث، إسرائيل، بتقديم رؤيتها حول الفرص المتوافرة كي تندمج كلاعب فعلي و«شرعي» في النظام الإقليمي المستجد، وفي الوقت نفسه، عليها استيعاب الأثمان التي قد تدفعها نتيجة هذه المشاركة.
بالعودة إلى مصر، أعلن رئيسها، عبد الفتاح السيسي، في 17 أيار الماضي، أن العلاقات بين بلده وإسرائيل «سوف تصبح أكثر دفئاً عندما تُحَلّ القضية الفلسطينية». للوهلة الأولى لم يثر هذا الخطاب دهشة الأوساط السياسية الإسرائيلية، ليس لكونه مألوفاً، بل لأنه جاء في سياق الاستعدادات لمؤتمر التسوية الذي عقد في باريس مطلع الشهر، وأيضاً في ظل تقارير تحدثت عن اتصالات لعقد قمة إسرائيلية فلسطينية مصرية، بجانب قضية ضمّ «المعسكر الصهيوني» برئاسة يستحاق هرتسوغ، إلى حكومة نتنياهو، فضلاً عن أن القاهرة تخوض مساراً سياسياً لتحسين العلاقات مع تل أبيب ودفع عجلة التسوية عبر «مبادرة السلام العربية» ثم التوصل إلى اتفاق شامل لتطبيع العلاقات بين إسرائيل والدول العربية.
مع ذلك، إن الانفتاح المصري «الساخن» مرتبط في سياق جيوسياسي جديد يحمل أبعاداً مهمة، في مقدمها أن تطبيع العلاقات ليس فقط «طعماً» أُريد به تحفيز إسرائيل للدخول في التسوية، بل يعكس «المصالح الحقيقية» لمصر ولغيرها من الدول العربية في إنشاء «نظام إقليمي جديد»، سيشمل تعاوناً واسع النطاق وأكثر وضوحاً مع إسرائيل، من أجل «الاستقرار الأمني والاقتصادي في المنطقة».
وفق المعهد، تناولت صحف مصرية عريقة كـ«المصري اليوم» و«الأهرام المصرية» الخطاب، بالمقارنة بين الرئيس المصري الراحل أنور السادات، والسيسي. كلاهما اختار مسار التسوية، لكن الأول حدث في سياق الموالاة للولايات المتحدة ووسط معارضة عربية قزّمت مصر وقلّصت دورها، فيما الثاني يأتي في ظل الموقع الشاغر الذي تركته واشنطن إثر الحد من تدخلها في المنطقة، لذلك إن المسار الذي يريده السيسي أساسه إنشاء محور إقليمي جديد يضم إسرائيل ومصر ودول الخليج على أساس تحالف قوى واحد.
الآن، لم تعد القضية الفلسطينية تتصدَّر جدول أعمال الدول العربية، وانسحاب إسرائيل من هضبة الجولان لم يعد واقعياً في ظل الحرب السورية، كما يرون. كذلك، إن تنظيمات المقاومة، خاصة حزب الله و«حماس»، باتت في منظور بعض من الدول العربية «تنظيمات إرهابية متطرفة». بناءً عليه، وكما ظهر في مقالات وتحليلات سياسية في الصحف المصرية، فإن «السلام الدافئ» مع إسرائيل «يخدم المصالح الاستراتيجية المصرية على مستويين آخرين»، وفق المعهد الإسرائيلي.
وعلى المستوى الأمني، التقارب مع إسرائيل سيسهم في دفع «التعاون» العربي الإسرائيلي في مواجهة أعداء مشتركين «يهددون استقرار المنطقة وسلمها»، مثل إيران وحزب الله و«حماس» والمجموعات السلفية الجهادية. أمّا على المستوى الاقتصادي، فإن إنهاء الصراع الإسرائيلي الفلسطيني هو المدخل لإقامة «منظومة تعاونية شرق أوسطية في مجالات الطاقة والتجارة والمواصلات». هذان المستويان اللذان فصلهما المعهد ليسا من نتاج محلليه، بل قدمهما محللون سياسيون ووسائل إعلام مصرية، مقربون من النظام، خاصة مساعد وزير الخارجية المصري السابق محمد حجازي، الذي قال إن «إسرائيل تستطيع الالتحاق بالنظام الاقتصادي الجديد بإنهاء الاحتلال، والاعتراف بقرارات الأمم المتحدة والقبول بحل الدولتين والاستعداد للتفاوض حول إقامة منطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل في الشرق الأوسط».
أمّا المحلل محمد علي إبراهيم، فاستغرق في الحديث عن أهمية «السلام الدافئ»، معبّراً عن أمله في أن يسمح هذا «السلام» بأن «تصبح العلاقات السرية القائمة منذ زمن بعيد بين المحور العربي السُّنّي وإسرائيل علاقات علنية، وأن تساعد هذه العلاقات الأطراف على بلورة جبهة إقليمية مشتركة تستخدم كسور منيع في مواجهة البحر المتلاطم الذي تبتلع أمواجه الدول والشعوب». كذلك استطرد اللواء سمير فرج، الذي شغل في السابق منصب رئيس «إدارة شؤون التعدين» في الجيش المصري، في شرحه حول آفاق التعاون بين مصر وإسرائيل وقبرص واليونان في حقول الغاز في البحر المتوسط. ففي مقالة نشرها في «الأهرام» في شباط 2016، قدّر أن «البحر المتوسط أصبح الدولاب الأهم الذي سيؤثر في الفترة القريبة في الأمن القومي المصري»، موصياً بتوثيق العلاقات الديبلوماسية والاقتصادية والثقافية مع دول حوض المتوسط القريبة منها، وبتوقيع اتفاقات تؤمن المصلحة المصرية العليا.
يخلص المعهد في بحثه إلى نتيجة مفادها أن أصوات التسوية والتطبيع التي جاءت أخيراً من مصر، شاهدة على أنه في أوساط هذه الدوائر (النظام والمقربون منه) تهبّ في أرض النيل رياح جديدة تحمل في طياتها «فرصاً حقيقية لتغيير موقف إسرائيل في المنطقة».
بيروت حمود
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد