أصداء اللقاء المشرقي: تجديد الـرؤية وبناء التيار
كيف ينظر المشاركون في اللقاء المشرقي دفاعاً عن سوريا إلى أجوائه وقراراته؟ خمسة مشاركين هم النائبة الأردنية ميسر السردية، والكتاب الأردنيين سعود قبيلات، وعصام التل، وأحمد جرادات، والكاتب العراقي فاضل الربيعي، يعبّرون، هنا، عن تصوراتهم ومقارباتهم وقلقهم إزاء رؤية تتجدد، وتيار يولد، في مشرق معذّب يتطلّع إلى الخلاص
مشرقيّة اللقاء المشرقي
«ليس من المحتّم أن تبقى سوريا قطعة من الجمهورية العربية المتحدة، ولكن من المحتّم أن تبقى سوريا».
من خطاب جمال عبدالناصر غداة انفصال سوريا عن مصر
اللقاء المشرقي دفاعاً عن سوريا الذي التأم في ضيافة دافئة لمضيف هادئ آثرَ الابتعاد عن الأضواء، اكتفى بإرسال إشارات خافتة لكن مرئية، أو رسائل نصية قصيرة لكن بليغة، إلى من يهمُّه الأمر:
الرسالة الأولى تقول إن بلدان المشرق العربي، كمجال جيو _ سياسي، مترابطة ومتداخلة ومتبادلة التأثير، وإن سياسة النأي بالنفس ما هي إلا بدعة كاذبة يدحضها الواقع بشكل قاطع، حيث لم يتوقف يوماً تدفق سيل الأسلحة والمقاتلين والأموال والأجهزة المتطورة وغيرها على سوريا مِن وعبْر الجارَين العربيّين اللذَين أعلنا النأي بالنفس أو الحيدة، أي لبنان والأردن. ولا تزال جحافل الإرهابيين والأفاقين القادمين من جهات الكوكب الأربع تدكُّ أرض سوريا بسنابك الخيل، فلماذا إذاً يُحرَّم على أصدقاء سوريا الحقيقيين، وفي مقدمتهم حزب الله، مساعدة سوريا، ولا سيما أن الحزب يعتبر نجدة سوريا واجباً وطنياً ودَيْناً أخلاقياً في عنقه وردّاً للجميل، وهو الذي لا يخذل أصدقاءه ولا يطعنهم في خاصرة مأمنهم، خلافاً للذين ألقوا في البئر التي شربوا منها أكواماً من الحجارة والقمامة. وتفيد الرسالة الثانية بأن المقاومة اللبنانية ستتمسك بحرية تحديد وتوسيع الرقعة الجغرافية التي ستبسط فوقها عملياتها القتالية، وتشمل كل الأراضي العربية المحتلة في لبنان وسوريا وفلسطين، وأن مزارع شبعا وهضبة الجولان والقدس جبهات متعددة في حرب واحدة مع العدو الصهيوني.
وبالمقابل، تحذِّر الرسالة الثالثة من أن الإمبرياليين والصهاينة والرجعيين النفطيين والعثمانيين الجدد وأعوانهم وأدواتهم من الإرهابيين الوهابيين جعلوا من القصير والضاحية الجنوبية وصيدا وطرابلس جبهات حرب إرهابية ضد المقاومة، الأمر الذي يحتّم عليها خوض معارك دفاعية عن الوجود خلف الحدود، حيث بات الدفاع عن مجدل شمس دفاعاً عن «مليتا» كرّم الله وجهها (لأنها المنطقة الوحيدة في الجنوب التي لم تسقط قط في قبضة جيش الاحتلال الصهيوني)، كي تبقى متحفاً طبيعياً لذاكرة المقاومة الأسطورية يحكي حكاية الأرض للسماء. وتشي الرسالة الرابعة بأن المعارضة الوطنية السلمية التي ترفض التدخل العسكري الإمبريالي وتدمير الدولة والجيش السوريين وتتمسك بوحدة التراب والتنوع ينبغي أن يكون لها كلمة في تقرير مستقبل بلدها وأن تكون شريكاً في مفاوضات ترمي إلى التوصل إلى تسوية سلمية تاريخية للصراع الذي يهدد بلدهم بالزوال.
بيد أن بريد اللقاء المشرقي حمل رسالة مشرقية خامسة إلى مصر والمغرب العربي، أظن أنها ستعود إلى المصدر بسبب خطأ في العنوان؛ إذ إن مصر الإخوانية هي التي ربما كانت في خلفية المشهد عند طرح الأفكار وإعداد الأوراق، حيث كان يبدو للجميع تقريباً أن المشروع الإخواني سيعيش عقوداً، ولكن مصر عبّرت عن نفسها مرة أخرى، وفجّر الشعب المصري المرحلة الثانية من ثورة 25 يناير، فأطاح، لا حكم الإخوان المسلمين في مصر فحسب، بل المشروع الإخواني الإقليمي وربما الدولي برمته.
لقد فهم بعض المشاركين أن اللقاء المشرقي يبعث برسالة انعزالية بشأن مصر وبلدان المغرب العربي، فإذا كانت سوريا «قلب العروبة النابض»، فإن مصر هي «أمّ العرب» التي تحتضن هذا القلب بين ضلوعها. ولنتذكَّر حديث عبد الناصر عن حرصه الشديد على سوريا وحبه الكبير لها في خطابه الشهير إلى الأمة غداة الانقلاب الانفصالي: «إنني أشعر في هذه اللحظات أنه ليس من المحتَّم أن تبقى سوريا قطعة من الجمهورية العربية المتحدة، ولكن من المحتم أن تبقى سوريا. إنني أشعر أن الذي يشغل بالي ليس هو أن أكون رئيساً للشعب العربي فى سوريا، ولكن الذي يشغل بالي هو أن «يكون» الشعب العربي فى سوريا وأن يُصان له كيانه...»
أحمد جرادات
اعلان بيروت... ليس صرخة في واد!
عندما يتفق شيوعيون وسوريون قوميون اجتماعيون، وبعثيون وناصريون، وليبراليون في «إعلان بيروت من أجل انتصار الجمهورية العربية السورية»، الصادر عن «اللقاء المشرقي دفاعاً عن سوريا»، على رفض كل «أشكال التدخل الإمبريالي» ضد سوريا، ويدعو أقطار وجماهير المشرق العربي إلى «رفض كل أشكال التدخل العدواني في سوريا والتحريض السياسي والطائفي والمذهبي والإثني، الهادفة إلى تمزيق المجتمع السوري وإطالة أمد الحرب العدوانية»، فإن ثمة روحاً جديدة تدب في أوصال السوريين واللبنانيين والأردنيين والفلسطينيين والعراقيين، وتنظم شتات أفكارهم ومواقفهم وانفعالاتهم، في مواجهة الحلف الإمبريالي ــ الصهيوني ــ الرجعي العربي؛ ودفاعاً عن الاستقلال الوطني والعلمانية ووحدة مصير بلاد الشام وأرض الرافدين، ضمن إطارها العربي الأوسع.
وعندما يتوجه اللقاء بنداء حار إلى القوى الوطنية في النظام والمعارضة إلى التنبه «إلى خطورة الأزمة الداخلية وضرورة التركيز على عقد مؤتمر حوار وطني شامل... للانخراط في تأسيس جبهة وطنية موحدة، تقوم على أساس المشاركة الندِّية والتعاون الديموقراطي، من أجل إنقاذ الوطن... والتنمية لصالح الكادحين والمنتجين، الذين يشكلون القاعدة الاجتماعية للمقاومة...»، يحدد اللقاء البوصلة، بأن لا دور لمن وضعوا أنفسهم في خدمة التدخلات الإمبريالية والرجعية، بشتى أشكالها، في إعادة بناء سوريا الجديدة، وبأن إعادة الإعمار هذه لا يجوز أن تكون إلا لصالح الكادحين والمنتجين... والمقاومة. وليس من أجل من راهنوا على «الأطلسي» والدائرين في فلكه، من عثمانيين جدد ورجعية عربية، والمرتزقة الذين لا ناموس لديهم سوى الذبح على الهوية؛ وكذلك ليس لصالح من أسهموا في تدمير النسيج الاجتماعي السوري بمشاريع اقتصاد السوق وروجوا لليبرالية الجديدة، وهمَّشوا ملايين السوريين، وبخاصة في الأرياف، وخلقوا الأساس المادي لتجنيد من فقدوا مصادر عيشهم من قبل أشد القوى رجعية وعداء لسوريا، كي تنتفخ جيوب وكلاء الرأسمال الأجنبي من الكمبرادور، وسماسرة السياسة والاقتصاد، والمنتفعين من الدولة الأمنية.
وعندما يدعم اللقاء قرار الدولة السورية في «إطلاق المقاومة الشعبية لتحرير الجولان المحتل»، ويدعو «كل القوى الوطنية التقدمية السورية إلى المشاركة في إطلاق وتنظيم حركة المقاومة السورية»، ويؤكد على «مشاركة القوميين واليساريين من أقطار المشرق العربي والوطن العربي» عامة في دعم وإسناد هذه المقاومة، فإن ثمة خارطة طريق لحركة التحرر المشرقية والعربية كي لا تبقى المقاومة مجرد شعار يرفع في المناسبات، ولتكتفي الجماهير بتحية المقاومين الأبطال والاعتزاز بهم دون أن تشارك فعلياً في المقاومة. إن قرار إطلاق المقاومة الشعبية لتحرير الجولان يشكل رداً مباشراً على من ظلوا يتهمون الدولة السورية، رياء، بسد السبل في وجه مقاومة الاحتلال انطلاقاً من الأراضي السورية، ويفتح الأبواب أمام جميع القوى المناضلة، من سوريين وفلسطينيين ولبنانيين وأردنيين وعراقيين، ومن شتى الأقطار العربية، لتوسعة نطاق المقاومة كي تشمل ساحات جديدة. ومن المؤكد أنّ هذا لن يكون نزهة أو بالأمر السهل، خاصة بالنسبة لمن يخضعون لسطوة أنظمة ارتبطت عضوياً بالجغرافيا السياسية للإمبريالية، وانحازت بصورة أو بأخرى لمعسكر العدوان على سوريا. ولكنه يخلق في الوقت نفسه محفزاً جديداً لخروج الجماهير العربية من حيز الصراعات الطائفية والمذهبية والجهوية الغريزية التي تحاول الرجعية العربية، ومن ورائها الإمبريالية، تأجيجها، نحو الصراع الحقيقي الذي ينظم الجماهير الكادحة وقواها الاجتماعية ــ السياسية المناضلة في وجه المؤامرات الإمبريالية ــ الصهيونية ــ الرجعية.
وبهذا يضعها في سياق مشروع التحرر الوطني الاجتماعي الوحدوي الذي تسعى القوى المعادية إلى الحيلولة دون تبلوره وانتصاره، في مواجهة مشروع التقسيم وإعادة التقسيم والتبعية ونهب الثروات، وهندسة شرق أوسط جديد مركزه «إسرائيل» تتبعه محميات مجزأة يحكمها وكلاء للإمبريالية، ويتبادلون فيها الأدوار في ما بينهم خدمة لمصالحهم الطبقية المشتركة. بينما تنشغل الأغلبية الساحقة بصراعاتها الصغيرة، وتتسابق لنيل بعض الفتات حتى لو كان ثمن ذلك الذبح على الهوية.
قد يرى البعض أن «إعلان بيروت» ليس سوى صرخة في واد، ومجرد شعار يرفع في الوقت الضائع دونه جبال ومصالح ضخمة. ونقول: نعم، ثمة مصالح هائلة سيدافع عنها أتباع الإمبريالية ومن يشعرون بأن لا مصلحة لهم خارج هذه التبعية والتفاهم مع العدو الصهيوني. كما أن هناك سنوات طوالاً من تجريف الوعي وتبديد النسيج الاجتماعي اللذين دأبت الإمبريالية والرجعية على إعادة إنتاجهما، كي تظل شعوبنا العربية أسيرة الخوف من التغيير وحبيسة عصبياتها الضيقة. لكن ما تواجهه أنظمة التبعية في بلداننا الشامية خاصة، والعربية عامة، وما تعانيه شعوبنا من قهر ونهب وامتهان لكرامتها تجعلها اليوم تنزع عنها نير الامتثال لإرادة الحكام، وتبحث عن حلول حقيقية، لا لمشكلاتها الاجتماعية فحسب، وإنما لشعورها بالمهانة الوطنية جراء استباحة الاستعمار الجديد ووكلائه لمقدراتها؛ وجراء غطرسة العدو الصهيوني، الذي يحاول، مع حلفائه من العرب، إدامة حالة الاستلاب والخضوع، والإبقاء على اتفاقيات الذل التي عقدها معهم في غفلة من الشعوب.
إن ثمة روحاً جديدة تدب في أوصال شعوبنا المشرقية العربية، وفي مختلف أقطار وطننا العربي. روح تشق طريقها نحو الاستقلال الوطني الناجز وإنهاء التبعية وتحرير الأراضي المحتلة، بعدما بينت لها المقاومة الوطنية والإسلامية اللبنانية، بالمثال الحي، أن ذلك ممكن، وأن الشعوب عندما تملك إرادتها تستطيع بعزمها وعملها أن تعيد صياغة التاريخ، وأن تملك مصيرها، وأن تنجز وحدتها التي طالما حلمت بها، وأن تبني مجتمعها الذي يليق بها.
عصام التل
المشي فوق السحاب
تضاعفَ، أخيراً، طول المسافة التي تقطعها الطائرات الأردنية بين عمان وبيروت؛ وبدلاً من 55 دقيقة كانت تستغرقها الرحلة بين المدينتين، أصبحت تستغرق حوالى مئة دقيقة. وهذه واحدة من النتائج الجانبية، التي لا يعرفها كثيرون، للحرب المتعدّدة الجنسيات على سوريا. على أية حال، إذا كان العنف في سوريا هو السبب، حقّاً، في سلوك هذا الطريق الطويل، فإنّني لا أملك إلا أن أتساءل عن الطريق الذي يجب أن تسلكه الطائرات الأردنية بعد انتقال وباء العنف إلى سيناء. لقد قمنا بهذه الرحلة المطوّلة للمشاركة في «اللقاء المشرقي دفاعاً عن سوريا». فتنقّلنا بين مدينتين كانتا حتّى أوائل القرن الماضي جزءاً من بلد واحد هو سوريا الطبيعية أو الكبرى، لنقوم بواجبنا في الدفاع عن سوريا الحالية المجتزأة؛ بل، أكثر من ذلك، لندافع عن جميع أشلاء بلاد الشام التي اتفق ممثِّلا الاستعمار الفرنسي والبريطاني (السيّدان سايكس وبيكو) على فصلها عن بعضها البعض وإقامة الحواجز السياسية العالية بينها. فبعد الحرب على سوريا لم تعد مشكلة هذه الأقطار تقتصر على قسمتها القديمة، بل أصبحت مهدّدة بالتعرض لقسمة استعمارية جديدة (سايكس بيكو – 2) أشدّ وطأة وأكثر تفتيتاً. وبالنسبة إلينا كأردنيين، أصبحت سوريا تبدو، خلال السنتين الماضيتين، كما لو أنّها في قارة أخرى بعيدة؛ لأنّ حجم الأوهام والتصوّرات المغلوطة حولها أصبح أكبر كثيراً من المعلومات الدقيقة والحقائق المثبتة. وبالمقابل، أصبحت الحدود الفاصلة بين لبنان وسوريا وبين الأردن وسوريا أكثر طراوة ممَّا كانت عليه في السابق؛ حيث راح المسلَّحون المتعدّدو الجنسيات، يتدفَّقون، من خلالها، إلى سوريا، فيما راح اللاجئون يتدفَّقون خارج سوريا، نحو الأردن ولبنان، على نحو خاصّ.
شارك في اللقاء مثقَّفون، وناشطون سياسيون يساريون وقوميّون تقدميون، ونقابيون، ومتقاعدون عسكريون، ونوّاب، وفنانون، من الأردن، ولبنان، وسوريا، وفلسطين المحتلَّة، والعراق، (وتونس). وفي مداخلة له في اللقاء، أبدى أحد المشاركين التونسيين، وهو من الجبهة الشعبية التي كان ينتمي إليها القيادي اليساري الشهيد شكري بلعيد، تحفظه على استخدام مفهوم «المشرق»، وقد بدا محقّاً في ذلك، برأي العديد من الحاضرين؛ فكيف للقاءٍ مشرقي أن يضم مشاركين من بلاد المغرب؟! غير أنّ اعتراض أخينا التونسي كان أبعد من ذلك وأعمق؛ فهو كان يفضّل أن يكون اللقاء عربياً جامعاً وليس مقتصراً على إقليم واحد من الأقاليم العربية، فيما تساءل أحد المشاركين (من سوريا)، عن عدم دعوة مشاركين من بلدان مشرقية أخرى كأرمينيا وأذربيجان وتركيا وإيران... إلخ؛ وخصوصاً أنّ مصطلح المشرق، كما هو متضمّنٌ في اسم اللقاء، هو المشرق على إطلاقه لا المشرق العربيّ بالتحديد. نعم، ربَّما كان يجب توضيح أيّ مشرق نقصد؛ وربَّما كان من الأدقّ أنْ نقول، بدلاً من ذلك: سوريا الطبيعيَّة (أو الكبرى) أو بلاد الشام أو الهلال الخصيب... إلخ؛ لكنني، في كل الأحوال، لست ممّن يميلون إلى الاعتقاد بأنّ التجمّعات العربية الجزئية (الإقليمية)، أو حتى بعض الروابط السياسية مع دول وشعوب الجوار الآسيوي أو الأفريقي، هي أمر يتناقض مع التوجّه للوحدة العربية الشاملة، بل إنَّها، برأيي، قد تكون، في بعض حالاتها، خطوةً مهمّة على طريق الوحدة العربية الطويل. فما الضير، إذاً، من أن يجري جانب من العمل العربي المشترك في إطار أقطار بلاد الشام أو سوريا الطبيعية أو الهلال الخصيب؟ وخصوصاً أنّ هذه الأقطار كانت، قبل أقل من قرن، بلداً واحداً، وقد جرى تفتيت ذلك البلد العربي الأساسي بمؤامرة استعمارية لئيمة، لكنني، في الوقت نفسه، لا أرى ضيراً في مشاركة بعض الأخوة المغاربة، أو سواهم من العرب، في منتديات وملتقيات مشرقية، أو شامية، أو سوريا...
نوقشت في اللقاء أوراقٌ عديدة بشأن الوضع في سوريا وسُبل الخروج الآمن والسليم منه، وبشأن مستقبل العلاقة المنشودة بين دول «المشرق» وشعوبه. وكان لافتاً أنَّ الوفد السوري ضمَّ ألواناً مختلفة من الطيف السياسي الوطني (المعارض والموالي)؛ الأمر الذي نجمتْ عنه نقاشاتٌ حيوية وشاملة ومفيدة.
بعد انتهاء أعمال المؤتمر، أخذَنا مضيفونا إلى الجنوب، حيث راح الطريق يصعد بنا عبر الجبال العالية المكسوة بالغابات الكثيفة، التي تتناثر فيها قرى صغيرة جميلة في سفوح الجبال وعلى أكتافها وقممها، وهي قرى كانت لسنين طويلة مسرحاً لأعمال المقاومة البطوليَّة ضدّ الاحتلال الإسرائيلي. وعلى قمّة جبل «مليتا»، رحنا نعاين بانوراما المقاومة التي أقامها هناك حزب الله. رأينا الدبَّابات «الإسرائيليَّة المعطوبة ـــ ومن ضمنها دبّابة الميركافا، كما رأينا مدافع ورشاشات من مختلف الأنواع، وناقلات جند، وأسلحة وتجهيزات عسكرية مختلفة. ثم دخلنا نفقاً محفوراً في الجبل هو نموذجٌ لتلك الأنفاق التي كانت المقاومة تستخدمها لإخفاء مقاتليها وأسلحتها، ولرصد تحركات العدو والانطلاق لمقاتلته. باختصار، لقد تشرفت أقدامنا، عصر ذلك اليوم، بالسير على أرض مجيدة عزيزة روتها دماء الشهداء الأبطال. ولذلك، امتزجت نفوسنا بذرات الغيم المحمولة بأذرع الهواء، وانتشرت معها، وحلّقت، وحلّقت.
سعود قبيلات
الروح المشرقية أو البربرية
لم يسبق لبلدان ومجتمعات المشرق العربي (سوريا، العراق، الأردن، لبنان، فلسطين) أن واجهت تحدّيات وأخطار تمزيق نسيجها الثقافي والروحي التاريخي، مثلما يحدث اليوم، وذلك مع تصاعد النزعات والميول لاستخدام خطاب طائفي أو إثني في الصراع السياسي. وفي الواقع، لم تعد هذه الأخطار والتحديّات ذات طبيعة خارجية، كما هو الحال في مطالع القرن قبل الماضي؛ بل أضحت عاملاً داخلياً فاعلاً، يؤدي باستمرار إلى تفاقم أشكال الاستقطاب داخل المجتمعات المحلية على أساس الهويّة المذهبية والاثنية وحتى القبلية.
لقد كانت الأخطار والتحدّيات في الماضي، تتجلى في الضغوط التي مارستها الدول الاستعمارية لحمل وتشجيع الإثنيات والطوائف على تشكيل «دويلاتها».
ولعلّ الدعوات الشهيرة التي صدرت عن الفرنسيين والإنكليز في سوريا والعراق (منذ 1914) لإنشاء كيانات مذهبية، هي التجسيد العملي لهذه الأخطار.
اليوم، لم تعد هذه الدعوات مجرد «ضغوط خارجية» يمكن مواجهتها بإجراءات وتدابير تساعد على حماية الوحدة الداخلية. لقد باتت هي ذاتها عاملاً داخلياً. وذلك ما يفرض على النخب السياسية والفكرية في بلدان المشرق العربي بشكل أخصّ، الشروع في التأسيس لحطاب التلازم بين مهام النضال الديموقراطي ومهام الحفاظ على أسس التعايش التاريخي في هذه المجتمعات.
بكلام آخر، لم يعد مطلب الديموقراطية ممكناً أو مقبولاً من دون تلازمه مع مهام الحفاظ على أسس التعايش المجتمعي.
إن أخطر ما تواجهه مجتمعات المشرق العربي، هو تعاظم ميول العزلة والاستقطاب المذهبي والطائفي والإثني الداخلي. وما يثير الانتباه، أن أشكال هذا الاستقطاب لم تعد ذات طبيعة سياسية ثابتة، يمكن مواجهتها بخطاب سياسي مضاد؛ بل باتت تتخذ صوراً وأشكالاً ثقافية متفجّرة. وأكثر من ذلك، أن الصراع يتبدى لا كصراع سياسي من أجل التنمية والتغيير والديموقراطية والتحرر الوطني وفك شروط التبعية؛ بل كتنازع على التاريخ المشترك، ومحاولة انتزاع (جزء طائفي أو مذهبي) منه، وإعادة تنسيبه بالكامل لجماعة واحدة.
من المنظور التاريخي، تشكل هذه المجتمعات والبلدان، ما يمكن اعتباره «إيكولوجيا ثقافية» أي وحدة بيئيّة غنيّة ومتكاملة، تجعل منها لا مجرد إقليم جغرافي؛ بل فضاءً جغرافياً وثقافياً واحداً يضمّ مجتمعات متعدّدة، وتلعب فيها أنماط الطعام والزواج واللهجات الشعبية دوراً حاسماً في توطيد التقارب والتماثل. وما يجعل من هذه التحدّيات أخطاراً مباشرة وشاخصة وحقيقية، أن هذا النسيج آخذ ــ ويا للأسف ــ في الاستجابة لعوامل الهدم، بأكثر مما يبدو أنه يستجيب لعوامل المقاومة. إن تنامي الميول والنزعات المجتمعية لاستخدام خطاب طائفي أو إثني في الصراع من أجل تحقيق التغيير السياسي، يؤكد هذا المنحى الخطير.
لقد امتازت مجتمعات المشرق العربي بفرادة التنوع الإثني والثقافي والروحي. وكان ما يميزها كإقليم جغرافي واحد، أن هذا التنوع اتسم باستمرار بكونه عامل إغناء وإثراء للروح التاريخية. اليوم، يبدو هذا التنوع وكأنه آخذ في التآكل، والتحول إلى عامل إفقار وإضعاف لهذه الروح.
وقد لاحظ البيان الصادر عن «اللقاء المشرقي» أن المشرق العربي يشكل مجتمعاً تعددياً، و«أن المفاعيل السلبية لهذه التعددية تظهر في الأقطار المفردة في صورة أغلبيات وأقليات، يمكن استخدامها لتفجير هذه الأقطار داخلياً، وأن هذه التعددية تغدو عامل اغناء ووحدة وانسجام ديموقراطي، بالنظر إلى أن التكوينات التعددية على المستوى الكلي متوازنة الحضور والتأثير». وهذا صحيح تماماً، وهو يفرض على القادة السياسيين والثقافيين، الشروع الجدي في التأسيس لخطاب وحدوي جديد عابر للحساسيّات الثقافية، ويعالج إشكاليات التصادم الثقافي والروحي.
إن المعضلة التي سوف تواجه مجتمعات المشرق العربي خلال السنوات المقبلة، قد لا تكمن في ما يمكن اعتباره «صداماً ثقافياً» قابلاً للانتشار؛ بل في تحوّله إلى واجهة لسلسلة صراعات ما دون ثقافية تدفع مجتمعاتنا صوب البربرية، بأكثر ما تعدها بالديموقراطية.
فاضل الربيعي
مشرقيّون في قلب بيروت
بدأت علاقتي مع لبنان، مشرقية؛ حين وقعت، وأنا طالبة جامعية، على مؤلفات أنطون سعادة، فرحتُ ألتهمها، وأطارد ما كتبه الآخرون عن هذا المفكر الكبير. ومذ ذاك، تشكّل إيماني بأنه لا بد من قاعدة واقعية تنطلق منها وحدة العرب الكبرى، هي الهلال الخصيب. وربما كان أهمّ حدث في حياتي المهنية، ذلك التحقيق الطويل حول الفكرة الملهمة في أسبوعية «الهلال» الأردنية، عام 2003.
لم أتوقع أن تكون زيارتي الأولى للبنان، في السياق نفسه. وحين دعيت للمشاركة في أعمال اللقاء المشرقي دفاعاً عن سوريا، شعرت بأننا أمام محطة نوعية في النضال اليومي الذي خضناه ونخوضه في بلدنا، إلى جانب سوريا الدولة، مقاومين صنوف التخوين والتكفير والتضييق، لا لسبب إلا لإصرارنا على حمل لواء المشرق الحضاري في وجهه الجهل والتجهيل والتقسيم والفتنة المذهبية والطائفية بين أبناء هذه الجغرافيا المنذورة للتعددية والتقدم
والمقاومة.
صدق حدسي؛ فخلال أيام قلائل من «اللقاء» في بيروت، تمكنا من الخروج برؤى وأفكار ومواقف أوضحت وبلورت الخطوط الأساسية لمعنى المشرقية اليوم، ومعنى الدفاع عن الجمهورية العربية السورية، ومعنى ارتباط المقاومة بالنهج التنموي
الوطني.
أتيحت لنا الفرصة للقاء زملاء من كل الأطراف والأطياف في المشرق العربي، وعلى الأخص، سعدنا بالحوار مع أهلنا من المعارضة السورية التي لا تزال في الداخل، ترفض حمل السلاح، وتعتبر أن شرعية السلاح هي حكر على الجيش العربي السوري. ترفض العمالة والارتباط بالأجنبي، وتأبى هدم الوطن والدولة.
وقد يتخيل من يقرأوني الآن أن تلك المعارضة سهلة طيعة لينة، لكن العكس هو الصحيح؛ فالمعارضون الوطنيون السوريون، على تمسكهم بالثوابت الوطنية، متمسكون، بالقدر نفسه، بالإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تحتاج إليها
سوريا.
اجتمعنا، مثقفين وكتاباً وسياسيين ونشطاء، في ظل المشرقية، وعملنا معاً على التوصل إلى حلول منصفة وواقعية وتوافقية، تضمنها «إعلان بيروت دفاعاً عن الجمهورية العربية السورية».
يتضمن هذا الإعلان رؤية مشتركة تضمن اتحاد جميع السائرين في خط وطني تنموي في بلاد المشرق، بخصوص الأزمة السورية، رؤية تمثلت فيها مواقف النظام والمعارضة، والشيوعيين والقوميين والليبراليين والوطنيين، رؤية ثالثة واقعية تصلح لتوحيد جهود الحركات الشعبية، ولكنها تشكل، أيضاً، قاعدة للتفاهم بين الحكومات المشرقية التي آن لها أن تعرف ضرورة كلمة (لا) في مواجهة المشروع الصهيو أميركي لسايكس بيكو 2.
ضخ «اللقاء المشرقي» الدماء في أوردتنا على حافة عاصمة الإبداع والمقاومة، بيروت، وأشعرنا، بالملموس، أن هناك نواة مشرقية عروبية لا تزال تنبض بالحياة، وتناضل لقول كلمة الحق، بعيداً عن التهييج والتجييش وكل أشكال التحيزات، وترسم معالم المستقبل لمشرق عربي متحرر ومزدهر وديموقراطي.
ميسر السردية
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد