الأبنيــة البرجيــة فــي النســيج المدينــي المعاصــر
أبراجٌ، أبراجٌ، أبراج!
أبراجٌ منعزلة، متعالية، قامعة، أو أحياءٌ كاملةٌ من المباني البرجية، للتجارة والأعمال، وربَّما للسكن أيضاً.
إن هذا الشغفَ، أو بشكل أكثر دقَّةً، إن هذا الافتتان المتزايد، بالمباني التي تبالغ بارتفاعها، ينتشر في المدن الكبرى في عالم اليوم. في أوروبا، وأميركا، وآسيا، وأفريقيا، وأوستراليا، وفي بعض أرجاء الوطن العربي، في دبي، في أبو ظبي وفي الدوحة، في الرياض وفي جِدَّة، في بيروت وفي القاهرة، كما تشهد بداياتٌ له، في عمَّان وفي العقبة.
مجموعةٌ من التساؤلات تفرض نفسها، في مقدِّمة هذا النص:
1 - هل المبنى - البرج، هو دلالة الثروة؟ هل هو التعبير الصافي عن جبروت رأس المال؟ والمثالُ الصارخُ عن الركضِ وراء الربح؟ فتزدحم الناس في الطوابق المكدَّسة، في لهاثٍ وراء عزلةٍ مُتوَهَّمة، وحريةٍ متخيَّلة، يصنعها التفرُّد برؤية آفاق لا حدود لها؟ كلُّ ذلك، لتزداد عائداتُ المستثمرين في العقار؟
2 - أم إنه حضورٌ طاغٍ للتقنية وللتكنولوجيا المتقدمة، في البنيان المعاصر؟
3 - وهو يحكي بالتالي، قوة الإنسان، وتصدِّيه الناجح لتحدِّي التجاوز؟ تجاوزه المتجدِّد لذاته، ولقدراته؟
4 - أم أنه منجَزٌ مدهشٌ، تتعرَّف من خلاله المدينةُ على ذاتها؟
5 - وهو بالتالي رمزٌ، يختصر كامل المجال، حيث يبنى؟
عَرِفت الإنسانيةُ المباني المرتفعة منذ بابل وبرجها. وتعدَّدت التجاربُ في هذا المجال، منذ بداية القرن العشرين حتى يومنا. نذكر منها برج أيفِلْ في باريس، وأعمال أوغُست بيريه في فرنسا، وبرج إلِّينوي في أميركا، وقد صمَّمه فرانك لويد رايت، وأبراج ايفان ليونيدوف في موسكو، والمباني المرتفعة في مدينة شيكاغو... وغيرها مما لا ضرورة لذكره.
وقد دلَّت المواقفُ المفهوميَّةُ من الأبراج، وأساليبُ المقاربات المختلفة لهياكلها الإنشائية خلال القرن العشرين، دلَّت هذه المفاهيمُ وهذه الأساليبُ على مراحلَ، على عتبات.
1 – ابتدأت هذه المراحل:
– بالتوسُّع في استعمال المادة.
– ثم بالابتكار في تطبيق قواعد الفيزياء.
– فظهر الارتفاع في المباني، كشكلٍ من السمو بالعادي المألوف. حصل ذلك، عندما فرض منطقُ «جلدِ العمارةِ» نفسه على البنيان المعاصر.
2 – ثمَّ، وليزداد ارتفاعُ المباني، أُضيفت إلى الهيكل الإنشائي المعدني السائد، نواةٌ من الخرسانة المسلحة.
3 – وما لبث بعد ذلك، أن دَمَج الإنشائيون المبتكِرون الهيكلين المعدني والخرساني. كلُّ ذلك، ليغدو المبنى أكثر ارتفاعاً.
المباني البرجية في محيطها؟
معظمُ المدنِ الكبرى في العالم، ومعظمُ المدنِ الكبرى في الوطن العربي أيضاً لا تزال مدناً أفقية. فباريس مدينة أفقية بامتياز، مع برجٍ يتيم معزولٍ وسط النسيج المديني في دائرة مون بارناس، وحي الأعمال البرجي في دائرة الديفانس. وروما أفقية بامتياز أيضاً، ولندن هي شبه أفقية، مع وجودٍ يزداد باضطراد، للأبنية المبالغة في الارتفاع.
لا يصحُّ هذا التوصيف بالطبع، عند مقاربتنا للمدن الكبرى في الولايات المتحدة الأميركية، في نيويورك ومنهاتن، وفي تشيكاغو، وفي ما يسمى «الداون تاون» في المدن الأميركية الكبرى.
أما في الوطن العربي، فدمشقُ مدينةٌ أفقية، وحلب أفقيةٌ أيضاً، وعمَّان أفقيةٌ، ومبانيها منتشرة بارتفاع شبه موحّد على مجموعة من التلال، بالإضافة إلى تونس، والدار البيضاء، ومرَّاكش، وطرابلس، وغيرها من مدنِ المغرب العربي، والتي لا تزال كلُّها إلى الآن مدناً أفقية.
أما بيروت، فقد تحوَّلت خلال العقود الثلاثة الأخيرة، من مدينة أفقية إلى مدينة ذات منحىً عموديٍ واضحٍ، تتجه فيها المباني باضطراد نحو الارتفاع المتزايد. وحمَّى الأبراج كما سبق وأشرت، تلتَهم المزيدَ من تراب الخليج العربي، ومن مياهه المردومة. إشكالية فريدةٌ متعدِّدة الأبعاد، تحدِّد علاقة المبنى - البرج في المجال حيث يُشاد:
1 – فالبرج المنعزل، أو الحي البرجي للأعمال أو للسكن إذا وجد، عليه أولاً أن يكون له بُعدٌ إشهاريٌ، بُعد العلامة الفارقة، وشهادةُ التميُّز، وصفحةُ الإعلان الكبرى في المجال. وحبَّذا لو أشارت هذه الصفحة الإعلانية، إلى مرافق مدينيَّة، أو إلى مؤسَّسات عامة.
2 - وعليه ثانياً، رُغم قسوة ارتفاعه، وشدة التوتر الذي يزرعه في المكان حيث يقوم، وتأثيره المدمِّر على النسيج المديني حوله، عليه رغم كل ذلك، أن يحمل بعض ما يستطيع إضافته إلى السياق العام حوله، ليبدو متناغماً معه. أي عليه أن يرتدي بعداً سياقياً يخفِّف من عزلته، ومن غطرسته، ومن سلبية حضوره، فيتكاملُ مع المدينة وإن بنجاحٍ جزئي، ويساهمُ في صياغة شكلِها العام، ويؤدِّي بالتالي إلى القدرةِ على قراءة هذا الشكل، وإلى سهولةِ فهمِ الناسِ له.
3 – وعليه ثالثاً في السياق العام الذي أشرنا إليه، أن يتحلَّى بالقدرة على ابتكار تقاطعاتٍ واضحة، بين الحضور الإنشائي المثقل بالتعقيدات، والحضور الإيكولوجي الضروري.
4 – وعليه رابعاً بالإضافة إلى كونه معلماً بارزاً، أن يُعيد الحياة إلى حيٍّ أو إلى جزءٍ من المدينة، عبر المنشآت العامة التي يحويها من محطات النقل، والمنتزهات، وكل الإطلالات الممكنة على المدينة من الحيِّز العام الواجب الوجود فيه، بالإضافة إلى تعدُّد وظائفه، وتعدُّد الانتفاع به، مما يجعله يضج بالحياة ليلاً نهاراً.
5 – وربما كان عليه أحياناً، وفي حالات فرديَّة نادرة، أن يحقِّق إنجازاً تقنياً ومعمارياً فذاً يضعه في سياق العمارة الاستشرافية، الاستباقية، الرؤيوية، التي عرفناها في الستينيات من القرن الماضي، مع أرشيغرام، والميتابوليسم، والميتابوليسم + موفوزيس، وغيرها من التصوُّرات - الرؤى.
إلى ما يهدف مصممو الأبراج وبُناتها، في مجتمعٍ ما؟
سنتساهلُ، أو سنتفاءلُ إذا أردتم، ونرى، أن مصمِّمي الأبراج وبُناتَها، في مجتمعٍ ما، إنما يهدفُون إلى تأكيد الثقة في مكوِّنات هذا المجتمع، الاقتصادية، والاجتماعية، والسلوكيَّة، وإلى تثبيتِ الثقة في قِيَمِه أيضاً. وتُصبح العِمارة دفعةً واحدةً، رمزاً لكلِّ ما هو إيجابيٌّ. إذ أنَّ الحصول على مستوى عالٍ من الأداءِ في ما يبنى، يتمُّ وسط حماسٍ عامٍ يحيط بعملية البنيان. والشغف بالأبراجِ، هو اليوم في أوجه.
ولكن، هل نستطيع أن ننسى أن هذه المباني المدهشة، لا قيمةَ فعليَّة لها، إلا بكونها نماذجَ عن تفوقٍ تقنيٍّ صافٍ، يحوِّلُها إلى رموزٍ وشعاراتٍ معمارية، يرادُ لها أن تكون بمقياس ما يسمّى «بالمدن الحديثة»؟
فالبرج كمجالٍ مبنيٍّ، يفرُضُ نفسه بقوَّة في نظر الجميع، وفي المتخيِّل لدى كل واحد منا. إنه رمز العِمارة بامتياز، كما يزعم البعض، وهو يُصبح بالتالي، وفي أفضل الأحوال، أيقونة المدينة، ومثالاً للبنيان ذي الجودة المميَّزة، في كل متطلباته.
أتصوَّرُ أن الاقتراب من منهاتن من على باخرةٍ أمضت شهوراً قبل أن تصل إليها، مثَّلت لمدَّة طويلة، برهةً استثنائيةً لكلِّ الذين كانوا يزورون الولايات المتحدة الأميركية أو يهاجرون إليها في بداية القرن العشرين، ومن أي مكان أتوا. إذ أَن مجالَ البرج هو مجالُ رؤيته، أي مجالُ إدراكِه حسياً، فهو خارج المقياس مقارنةً بالمبنى العادي.
هكذا، كانت الحال منذ أن كانت العِمارة، وطوال تاريخها. من أهرامِ مصر على حدود منبسط الجيزة، ُترى من بعيد في الوادي، وكأنَّ الصحراء قد ارتفعت نحو السماء، إلى مجموعةِ نيويورك اللمَّاعة قبالة المحيط.
وإذا كان البرجُ، ذلك المصنَّع ذي الشكل الذي نتعرَّف عليه بسهولة، بحيث يُمكنُ تحويلُه في وجدانِ الناس إلى تعويذةٍ أو ذكرى، فلا يُمكننا أن نختصره بكونه أيقونةً مستقلةً. إذ أن صداهُ في المجالِ الحقيقيِّ حولَه، هو الذي يؤكِّد قيمةَ التعرُّف عليه من الجميع سكاناً كانوا، أم سياحاً أم معماريين أم مجرَّد مارة.
فالمبنى - البرج في المدينة، يساهمُ في اختصارِ روحِها في شعارٍ يفهمه الجميع. وأن نبني برجاً، يعني أن نبني دلالةَ قوَّةٍ، وأن نُطلق التحدِّي للتفوُّق ولتجاوز الذات، في الوقت ذاته الذي يتمُّ فيه صهرُ الجماعة، عبر شعورها بالانتماء إلى العمل العظيم، هذا ما يعتقده البعض على الأقل.
هل تتناقض المواقف؟ من بناء الأبراج؟ ومن مقولةِ عمودية المدن!؟
في البدء كانت كل المدن أفقية قبل أن يصبح بعضها عمودياً، فهل تتوحَّد مواقف الناس من بناء الأبراج؟ ومن رؤية مدينتهم تزدادُ مجالاتُها توتُّراً، بتوجُّه أبنيتها بشكلٍ مبالغٍ نحو السماء؟ وكأنها تخلَّت عن الأرض الصلبة التي يعيشون عليها!؟
الإحساسُ حيال بناء الأبراج في المدن يتمُّ، بطريقتين متناقضتين مختلفتين باختلاف الحضارة المدينية التي يعيش فيها كلٌّ من طرفي المعادلة. الطرفُ الذي يقبلُ الاندفاعَ المجنونَ نحو السماء، كتقدمٍ نحو ما يسمِّيه «الحداثة». تقدمٌ لا يمكن وقفُه، بتصوُّرِه. والطرفُ الآخر، الذي يعتبرُ أن الحياة المدينية لا يُمكنها أن تتطوَّر بشكلٍ طبيعيٍّ، إلاَّ بعلاقةٍ مباشرةٍ وصلبةٍ وغنيَّةٍ وثابتةٍ مع الأرض.
في ظل هاتين القراءتين المختلفتين، تأخذ المدن موقفين متناقضين.
فالبرج المنفرد المنعزل، في بعض المدن الأوروبية، هو نوع من العلامة النادرة، مع نشازٍ يقاربُ «الما فوق إنساني».
فسِهامُ كنيسة «الساغرادا فاميليا» أو «العائلة المقدَّسة» في برشلونة التي صمَّمها غَودِي، يُمكنُها أن ترتفع خارجَ شبكة إدلفونسو سردَا القاسية، لتقترِحَ التذكيرَ بالإلهي، الذي لا يمكن للإنسان أن ينساه.
والرغبةُ الحاليَّةُ للمدينة أي لبرشلونة، في حضورها بالمقياس الأوروبي، قادها إلى القبول بتشييد برجين متجاورين على الواجهة البحرية بمناسبة الألعاب الأولمبية في العام 1992، وإلى برجِ أغبار AGBAR أي برج مياه برشلونة، ومصمِّمه جان نوفل، الذي بُني في الفترة الأخيرة.
ويعودُ إلى هذه الأبراج وقد قَبِلها الناس، أن تجسِّد الجهدَ المبذول لحضورِ المدينة الكامل، على المسرح الاسباني والعالمي.
وهيمنةُ البرج بشكلٍ عامٍّ في المجال المديني، هي هيمنةٌ مؤقَّتة. فهو يُصبح بعد حينٍ نوعاً من الفضول نكتشفه عند منعطفٍ، أو في نِظرةٍ خاطفةٍ ملويَّة ومواربة. وفي المدن حيث تكثر الأبراج مثل هونغ كونغ، ومانهاتن، وسيدني...، من الضروري، أن يتميَّز البرجُ في رسمه الهندسي، وفي شكله، وفي التفاصيل التي تصنع غلافه، حتى نستطيع أن نميِّزه فنراه عن بعد، أو أن نراه بتقطعٍ وبشكلٍ متناوبٍ ونحن نتجوَّل في المدينة، عبر الفجوات التي تفصلُ بين الأبراج المتزاحمة.
تَتمعدنُ مدنُ اليوم، حيثُ تكثرُ الأبراج، وقد ذكرتُ بعضَها. تتمعدَنُ بهيكلِها الإنشائيِّ من الحديد الصلب، وبغلافها الزجاجي الملوَّن المعتم.
وقد رأى فرانك لويد رايت، مستبِقاً المدَّ المعدني الراهن وهو الذي عاش بداياتِه في شيكاغو، فرأى أنه من المناسب للإنسان الذي يسكنُ في مكانٍ محدِّدٍ، أن يَشعرَ وكأنه يسكنُ الأراضي في كامل امتداداتها.
ففي مشروعه لمدينة «بروداكر» الذي صمَّمه في العام 1934، يرى رايت، أن كل مبنى، هو نقطةٌ في شبكةٍ يوجِّهها لمصلحة اكتشاف القارة الأميركية بكاملها، وهو يرى فيه مشهدَ ما قبل المدينة.
فالبرجُ المنعزل، هو نقدٌ مباشر لكثافة تمركز ناطحات السحاب، في أحياء المال والأعمال في المدن الأميركية الكبرى. وبرجُ الإلينوي والذي كان قد رسمه بدايةً لمدينة شيكاغو، صمَّمه رايت في النهاية، بارتفاع يصل إلى 1609 أمتار، متجنباً بذلك أي زيادة مرتجلة قد تضاف إليه. إن هذا البرج، هو التعبيرُ الفريدُ عن هذا الهذيان الذي اختصره ريم كولهاس بقوله بما يشبه الصراخ: «الكثافةُ في العزلة، إنها الحل المثالي».
ففي الوضعِ الاقتصاديِّ والثقافيِّ العالميِّ المُعاصر، والذي يدفعُ الناسَ بقسوةٍ إلى التكدُّس في المدن، المدن الغنية والمدن الفقيرة على السواء، نرى السجالَ يحتدمُ، بين المدينة كمنتجٍ «ممعدنٍ» وبين المجالات المدينية النباتية الخضراء. ويأخذُ هذا السجالُ بعداً كونياً. وكان لوكوربوزييه قد أشار إلى هذا الموضوع، في مخطوطته حول نيويورك وعُنوانُها، «عندما كانت الكاتدرائيات بيضاء».
وتنطلق المسألة عنده، من مشاعرَ تتأجَّج عبر المواجهة بين الاصطناعي العظيم كما يراه، والطبيعي المُستعاد، وفي هذا ما يحدِّدُ الأهدافَ التي على العمارة البرجية أن تُحقِّقَها:
- ثلاثمئة متر من الارتفاع، هو حدثٌ معماريٌّ يقول لوكوربوزييه. إن هذا الارتفاع يمثِّل شيئاً هاماً في نظامِك البسيكوفيزيولوجي كإنسان، تشعر به في الرقبة وفي المعدة، يتابع لوكوربوزييه. إنه شيءٌ جميلٌ بذاته.
- ناطحة السحاب مبالغةٌ بصغرها، وتدمِّر كلَّ شيء. إجعلها أكبرَ، وأكثرَ ارتفاعاً. إجعلها حقيقيَّة ومفيدة. فتُعيد لكَ أراضي شاسعةً، وتدفع ثمن الأملاك المدمَّرة، وتُعطي الخُضرة للمدينةِ وقد رُفعت عماراتها على أعمدة، وترسم فيها نظام السير الذي لا عيب فيه (....).
ـ السنترال بارك، هو أمثولةٌ أخرى يقول لوكوربوزييه. أنظروا كيف أن الفنادق الكبرى، والمساكن الفخمة، أنظروا إليها جميعاً وقد أتت بشكل عفوي، بشكل طبيعي، لتُطلَّ بشبابيكها على السنترال بارك. إلا أن السنترال بارك هو كبيرٌ جداً، إنه ثقبٌ كبيرٌ وسط المنازل (....).
الخضرةُ، ومجالات البارك خاصةً، عليها أن تُكرَّر وتُوزَّع على امتداد الأراضي في مانهاتن. (انتهى).
كان لوكوربوزييه يؤمِن بالتنظيم المدينيِّ الذي يدافع عنه باندفاع وبشراسة، كما كان يؤمن بالقوَّة السياسيَّة المنظِّمة، لعِمارةٍ يتصوَّرُها على امتداد الأراضي، مرفوعةً على أعمدةٍ منتظمة، قادرةٍ أن تعطي للطبيعةِ معنىً حقيقياً في المدينة.
وماذا عن المدينة ذات الأبعاد الثلاثة؟
ماذا عن التنظيم المديني الثلاثي الأبعاد؟
أصبح من الممكن تقنياً مع المباني المبالغةِ بارتفاعها، والمنتشِرة بكثافة من هونغ كونغ، إلى كوالا لامبور، إلى نيويورك وسيدني، إلى قطر والدوحة وأبو ظبي، أصبح من الممكن، مع انتشار المباني التي تنطح السحاب فعلاً لا تشبيهاً أو استعارةً، أصبح من الممكن تقنياً، اعتبارُ ناطحة السحاب مدينة بذاتها.
إذ أن تكديس الناس في طوابقَ، بعضُها فوق البعض الآخر، قد سمح عند احتسابِ الاستعمال، بأن نرى مساحةَ الأرض التي تقومُ عليها ناطحةُ السحاب قد تضاعفت مراتٍ ومرات، وبأرقامٍ تزدادُ يوماً بعد يوم. فيزدادُ عدد سكَّانها، وهم يقومون بنشاطات متنوِّعة ومتكاملة، مما يعطي لناطحةِ سحابٍ فعليَّةٍ منفردةٍ، شكلَ مؤسَّسةٍ مدينيَّة متكاملة.
إن البناء المُبالغَ بارتفاعه، ولَّد عند البعض، الوعدَ بتنظيم مديني حقيقيٍّ ثلاثيِّ الأبعاد، مكدِّساً من الأرض حتى السماء الربط بين المباني، والأرصفة، والممرات المرفوعة، وجسور النقل الهوائية، كما جاء في «كوسموبوليتية المستقبل» وقد تصورَّها موزيس كنغ في العام 1908 ونقلها عنه ريم كولهاس فـي كتابه «هذيان نيويورك» الصادر بالفرنسية في العام 2002.
لقد جسَّد المعمار الروسي إيفان ليونيدوف هذا الجهد المفهومي للصلة بين أبراجٍ عدَّة، في مشروعه لبناء مجمَّع وزارة الصناعة الثقيلة في موسكو، في العام 1934، كما سبق وذكرت. اقترح ليونيدوف في مشروعه، مجموعةً من ثلاثة أبراجٍ، بأشكالٍ هندسيةٍ مختلفة، ينزاحُ واحدها عن الآخر بلطفٍ، بما يضمن رؤيةَ كلِّ واحد منها، من مختلف الأماكن المحيطة بها.
أعاد ليونيدوف ابتكار الساحة الحمراء، فأقام فيها منَّصةً ممتدَّة ربطت الأبراج ببعضها وشدَّتها إلى أرضِ الساحة، ورسم في المِنَصَّة مُدَرَّجاً للاحتفالات الرسمية، وخلق رابطاً بصرياً بين مجمَّع الوزارة وكنيسة القديس باسيليوس بقببها الشاعريَّةِ الملوَّنة، ولحَظ في التأليف، ممرَّاتٍ علويةً على ارتفاعاتٍ مختلفة، تربُطُ أبراج المجَّمع، وتكسِر عزلتها وتفرُّدها الوقحين.
وإذا كان المبنى - البرج، يُرى من بعد في الأراضي التي تحوطه، فإنه يُتيحُ رؤية الأراضي هذه، وكأنها أكثر امتداداً. ويزدادُ الشعور بالامتداد، كل ما نظرنا إلى الأراضي حول البرج من حيِّزٍٍ فيه، أكثرا ارتفاعاً. وأفضلُ حيِّزٍ للرؤية في المبنى - البرج، هو عند قمَّته. والناظرُ من هذا الحيِّز المرتفع إلى ما حوله، يرى فوراً وبشمول، مجموعةً من المشاهد المتتابعة لكل منها خطُّ أفقه. والإحساس بالدوار الذي نشعرُ به، ونحن في قِمَّة الأبراج الشديدة الارتفاع، هي علامةُ نجاحها، يرى البعض. فالبرجُ في هذه الحالة، هو مُصنَّعٌ يثير المشاعر كما يقول لوكوربوزييه، ويُقيمُ علاقةً مباشرةً مع زائره.
إن برج إيفِل، وكثرٌ هم الذين يعرفونه، هو بالتأكيد، من أفضل الأمثلة عن المنشآت العمودية التي أُنجِزَت حتى الآن. فالمصعد فيه، يتبعُ انحناءة الهيكل الإنشائي قبل القِمَّة، ويُصبح عمودياً بشكل تدريجي، مما يجعلُ الزائر يعيش نوعاً من الارتباط الخاص بينه وبين البنيان المعدني، تنشِّطه الحركة ويوسِّعه الفراغُ المحيط. فالشبكةُ المعدنيَّةُ التي تتقارب مكوِّناتها مع صعود الزائر، تثير لديه المشاعر بخفة الكائن، وبتحرُّره المطلق من الأرض، وبحريَّةٍ تولِّد لديه راحةً، وإن متوهَّمة. يُمجِّد برج إيفِل عبورَ الفراغ الذي يولِّده اكتشافُ باريس من فوق من الأعلى، هذا الاكتشاف الذي يجعلُ المشاعرَ أكثرَ صفاءً.
وقيمةُ الأبراج تكمُنُ جُزئياً في مجالاتها الداخلية. لقد أشار أوغست بيريه إلى هذا الجانب في العمارة العمودية، في أبراجه السكنية. إلا أن هذه الإشارة جاءت أكثر وضوحاً في قبب الأجراس في كنائسه.
ففي كنيسة القديسة تريز في مونمانيي (للعام 1932)، نجدُ المجال الداخلي في موقع الجرس، يرتفع بكامل ارتفاع قِبَّته، فيدخلُ في تناغمٍ مع المجال المماثل داخلَ الكنيسة، مكوِّناً مثلَّثاً قائمَ الزاوية يستعيرُ البعدين الأساسيين عند الإنسان، العمودي والأفقي، تعبِّر عنهما رمزية الصليب. ويُصبح البرجُ مع اوغست بيريه بنياناً أي تشييداً، يظهرُ فيه الحسُّ المعماري دون أي التباس أو خداع.
البرج بكليَّته، هو بنيانٌ عند أوغست بيريه. وكل مكوِّن فيه، هيكلٌ حاملٌ أو جدار فاصلٌ، يُظهر ذاتَه من دونِ أي تبرُّجٍ أو زُخرفٍ، كما في برج غرونوبل. ومجالُ البرج الداخلي المفرَّغ، هو المكوِّن النشط الذي يغمُر الإنسان الصاعد داخله، في حمِّام من الضوء.
العِمارةُ عند أوغست بيريه هي فنُّ التوسُّط بين قيمٍ متعدِّدة. وهي تعبيرٌ عن كل ما هو إيجابي في فعل البنيان، في أبعاده الثلاثة: التقنية (المتانة) والفلسفية (الانتفاع أو الاستفادة) والروحية (الجمال)، بالعودة دائماً إلى فيتروفيوس.
تقدِّم أبراجٌ متعدِّدة، الرؤية البانورامية من قمَّتها أو من المطاعم الدوَّارة عند هذه القمَّة، وكأنها مكافآتٌ للزائرين، بعد رحلةٍ طويلةٍ مضجرةٍ داخل مصعدٍ مقفل.
إلا أن الصعود إلى القمَّة، ربما بدا في بعض الأبراج، وكأنه رحلةٌ غنيَّةٌ بتجاربَ متعددة، وبمكتشفاتٍ مجالية مدهشة.
وبنيان الأبراج يرتكزُ على تفتيشٍ متناقض: المزيدُ من المجالات مكَّدسةً بعضُها فوق البعض الآخر، مع القليل القليل من المواد. يأخذُ الحجمُ هنا مكان الكُتلة، وتتغلَّبُ الخِفَّةُ والليونةُ، على الثقلِ وعلى الوزن.
وتعدُّد البرامج في الحالات المثلى، يولِّد تنوعاً في الأحجامِ التي تترابط غالباً في مجالٍ شاهقٍ فارغ.
تَقْرَأُ التنقُّلَ، عبر مجموعةٍ من المقاطع تتتابع وكأنها تدور داخل مجالات البرج، فترى المشهد الافتراضي المحيط بك، عبر أماكن لها حضورٌ متناقض. إنها قراءةٌ أصيلة بالفعل، ولكنها قراءةٌ ملويَّة، مائلةٌ، مواربة، تنجُم مواربتها عن حركتك في الداخل، حيث يساهم الهيكل الإنشائي في التأليف، كوسيلة أساسية للتعبير.
ماذا في الخلاصة بعد هذا السرد المطوَّل؟
في الخلاصة، إن «ما بعد الحداثة»، هو، الطراز المفضّل وفق ما يراه ريم كولهاس. إنه المروَّج المتحمِّس «للحداثة»، يقول كولهاس، فهو في متناول الجميع. ناطحةٌ للسحاب مستوحاةٌ من باغودٍ صينية، أو من قريةٍ توسكانية، أو من الإثنتين معاً.
يطرحُ البرجُ مسألة الطراز في أسوأ معاني المفردة. ففي الوقت الذي تتعولم فيه تيبولوجية المباني، تتفَّرد مورفولوجياتها، وتتميَّز بكونها ملجأً للهُوية، كما يراها كولهاس.
يدافع الطراز عن القواعد اللغوية الوطنية في العمارة، في ماليزيا أو في تايوان. كلُّ الهواجِس يُعبَّر عنها في الغلاف وفي اللِّباس الخارجي للمبنى، في حين يُصبح المجالُ مبتذلاً حتى الضجر، كما يقرأه كولهاس مرةً أخرى.
يعود الطراز أحياناً إلى استلهام الكتلة المعمارية في عصر ما. إنهُ انتصارٌ للتاريخ بدلالاتٍ من دون مضمون. كلُّ شيءٍ هو صالحٌ لنستعيده، بما في ذلك تجاربُ الطليعيين الذين كانت لغاتُهم في الغالب، محاولات قطعٍ مع الماضي من دون أي تنازل. وهكذا يتحوَّل الحديث إلى اصطلاحٍ أو رمزٍ، في حين أنه كان في البدء، لغةً جديدةً جذرية الاختلاف، في طريقةِ الوجودِ وفي البناء.
يكون الطراز أحياناً من ابتكار معمارٍ معيَّن، يحكي لغةً شخصيَّةً عليها أن تختلف عن لغة الجار، بمميِّزاتها الخاصة.
كيف وصلنا إلى مثل هذه المرحلة حيث نعتبر تقنية البنيان طرازاً؟
لأنه لم يعد للطراز بالتأكيد أية علاقة بالبنيان، كما يرى البعض.
وعندما يكونُ البنيانُ أي التشييدُ، الممرّ الإلزامي لكل انجازٍ في المجال، يُصبح البُنْيانُ بالتالي المعرفَة التي تسمحُ بتقويم المصنَّع المشيَّد، عند تقاطع العِمارة، والفنِّ، والتقنية.
وماذا في الخاتمة!؟
في الخاتمة، كما في المقدِّمة،
أبراجٌ، أبراجٌ، أبراج.
إذا كان تكديسُ الطوابقِ وتكديسُ المساحاتِ المبنيَّةِ، بعضُها فوق البعض الآخر، هو السبب الحقيقي لدفع المباني باتجاه الارتفاع،
وإذا كانت المبرِّرات الماليَّة هي الرافعة الرئيسة لهذا التوُّجه نحو الأعلى،
فإن كل ذلك لا يُنتُج أية قيمةٍ مجاليَّةٍ للأبراج. أو بصيغة أخرى أكثر دقَّة، إن كل ذلك، لا يعطي الأبراج أَيَّةَ قيمةٍ وسط النسيج المديني حيث تقوم.
إن رؤية المجال الفسيح الممتد بلا حدود، والإحساس الوجودي الفيزيائي لواحدنا وهو عند قمَّة بناءٍ، بأنه يحلِّق وكأنه على قمة جبل،
إن هذين الرؤية والإحساس، خارجَ أي كسبٍ عقاريٍّ وماليٍّ، ربما استطعنا اعتبارهما المسبِّبين الرئيسين لوجود المباني التي تقتحم القمم.
يبدو السببان المذكوران إلزاميين، بالمقدار ذاته الذي يبدو معه ناتجُ الارتفاع نسبيَّ النجاح، وبعيداً عن أيةِ قراءةٍ مباشرة، لا مُواربة فيها ولا التواء. خاصَةً أن أيَّ ارتفاعٍٍ نصلُ إليه اليوم، سوف نتخطَّاه غداً، لأسبابٍ ماليةٍ أكثر من أيَّة أسباب أخرى.
من هذه الزاوية، نشاهد صعوداً قوياً، لتيارات تحوِّل قراءةَ البرجِ من علامة قوةٍ، وانتصارٍ، وتحدٍّ للسماء، إلى قراءةٍ مليئة بالقلقِِ والتساؤل.
وبُرج ريم كولهاس، الذي صمَّمه للتلفزيون المركزي الصيني CCTV في العاصمة بيجنغ، حيث يلتفُّ حجم البرج أفقياً، أملس، متواضعاً، موازياً للأرض التي يقوم عليها، معيداً ارتباطه بها وإن عن بعد.
إن برج ريم كولهاس هذا، يختصر ببلاغةٍ بداية التحول الذي أشرنا إليه.
إنها صورةٌ مُقلقةٌ «لبرجِ المستقبل»، برج رأس المال المتوحش المتغطرس. فهي تُدمِّر صورته المتفائلة، المنتصرة، المتعالية، العدائية، القامعة، وتستبدلُها بصورةٍ فيها الشكُّ مكان اليقين، والتردُّدُ مكان الثقة والتأكيد.
ومن الضروريِّ في كلِّ الصِيغ، التأكيدُ في الخاتمة، على ان التعبير التقني يبقى الأساس، في الصياغة المفهومية لعمارة الأبراج.
وكلَّ ما تألَّقتِ التقنيةُ في الأبراجِ مفهوماً وتنفيذاً، ازدادت الأبراجُ فقراً في أدائها المجالي، وانعزالاً في موقعها المديني.
العِمارة البرجيَّة في تحوُّلها المجالي، لا تزال في البدايات. قراءتُها ملويَّة موروبة، وتوصيفُها غير مكتمل.
رهيف فياض
المصدر: السفير
التعليقات
برج/أبراج
إضافة تعليق جديد