الترجمة بين الوساطة والإنشاء: كيف تحول (الاستشراق) إلى استعجام؟
«على المترجم إما أن يترك الكاتب بسلام...
أو أن يترك القارئ بسلام...»
شلاير ماخر
ـ 1 ـ
وجدت نفسي لمرة، وجها لوجه مع قضية الترجمة إلى العربية، ذلك حين سعيت إلى قراءة كتاب (الاستشراق) لـ(إدوارد سعيد) عبر ترجمة (كمال أبو ديب) وكنت قد قرأت سلسلة من مقالات إدوارد سعيد. كنا شديدي الاهتمام بكتابات (سعيد) والوقوع على مقالة جديدة مترجمة كل مرة كان حدثا بحد ذاته، ليس بسبب الفائدة التي نحصل عليها فقط، لكن بسبب المتعة المعرفية الناتجة عن أسلوب (سعيد) المشرق والأخاذ في الكتابة على الرغم من أننا كنا نقرأها عبر الترجمة، إذ رغم تعدد المترجمين كنا نعثر على أسلوب (سعيد) كل مرة. وهكذا هيأت نفسي للقراءة الكبرى، حين سأقوم بقراءة (الاستشراق) بعد سنوات من صدور الترجمة العربية، فبعد كل شيء، كنا مهتمين بالقضية ذاتها، صورة الشرق العربي في الثقافة الغربية. كان لا بد من ترقب وقوع الترجمة العربية بين أيدينا لسببين منفصلين: أهمية الكاتب، وأهمية موضوع البحث، و كنت قد بدأت بكتابة مقالات حول موضوع (صورة العرب النمطية السلبية في الثقافة الأوربية) وحدست بما يمكنني أن أجده من تقاطعات واختلافات، وهنا كانت الصدمة حين عثرت أخيرا على الكتاب، في البداية لم أشعر بأي متعة، وهو أمر لم أتوقعه من كتاب لـ(إدوارد سعيد)، بعد ذلك بدأت أفتقد الاحساس بالفائدة رغم أنني أقرأ حول موضوع يثير اهتمامي الشديد، ثم وجدت نفسي أغلق الكتاب.. كان هناك خطأ ما لكنني لم أعرف ما هو.. ولم أفترض أبدا صعوبة الموضوع لأنه كان موضوعا أثيرا لدي، كما أنني لم أقتنع بأن إدوارد سعيد قد لجأ إلى أسلوب وعر وجاف وهو الكاتب والناقد الأدبي وعازف البيانو، أي الخبير بالانسجام والهارمونيا.. يبقى المترجم، الذي لم أكن أعرف عنه شيئا، وتبين لي أنه كاتب وباحث متعمق، وحتى مقدمته لـ(الاستشراق)، تتميز بالعمق وسهولة القراءة على العكس من ترجمته للكتاب نفسه.. واحتفظت بالفكرة لنفسي، لكنني طرحتها على الصديق (محمد غيث) الذي كان اهتمامه بـ(سعيد) يفوق اهتمامي، ولم أعد إلى قراءة (الاستشراق) إلا حين إعداد هذه المقالة، وما زال هذا يؤرقني حتى اليوم.
[ [ [
أول ما يصدم القارئ في النسخة العربية لـ(الاستشراق) ارتجال المترجم لمفردات عربية مقابل كلمات أجنبية (وليس مصطلحات فقط) ولا أقصد بالارتجال سرعة اختيار المترجم للمفردات العربية الجديدة فقد يكون استغرق سنوات في التفكير وبذل جهدا، لكن هذا لا يغير حقيقة أنه لم يطرحها في مقالات مستقلة للنقاش بل ذهب إلى استخدامها في ترجمة كتاب هام لم تسبق ترجمته للعربية. في كشاف المصطلحات الذي يسبق متن الكتاب المترجم نجد مثلا: كلمة (إنشاء) التي يشرح معناها بـ(الكلام والكتابة) ويختارها مقابل الكلمة الانكليزية: (discourse) التي تعارف المترجمون العرب على ترجمتها بـ(الخطاب) ورغم أن كلمة (إنشاء) كلمة مناسبة وأصبحت متداولة إلا أن المترجم تجاهل كلمة (خطاب) الأكثر تداولا من كلمته الجديدة والأكثر تعبيرا عن الكلمة الانكليزية (discourse) من الكلمات التي اختارها لشرح معنى كلمة (إنشاء) وكان يجب عليه أن يضيف كلمة (خطاب) إلى (كلام وكتابة) التي يشرح بها معنى الكلمة المقترحة. كلمة (استجنابية) يشرح المترجم معناها بـ(الكره أو الخوف اللاعقلاني من الأجانب) مقابل كلمة (xenophobia) و الكلمة العربية غير معبرة في الحقيقة وكان الأفضل الاكتفاء بترجمة الكلمة الأجنبية بـ: (الخوف المرضي من الأجانب) وهذه الكلمة (استجنابية) نموذج لمفردات (كمال أبو ديب) التي لا تحمل أي صدى معرفي عند القارئ العربي وهذا هو مأخذي على مفرداته، كما أن هذا هو الفارق بين النص الذي يترجمه (أبو ديب) والنسخة التي يطلع علينا بها، فالكلمات في النص الأصلي ليست ذات معنى فقط بل ذات صدى معرفي وثقافي يضع القارئ في السياق لأن النص نفسه نص في سياق مثل كتاب (الاستشراق) الذي يقع بداهة في سياق الكتابة الاستشراقية أو سياق نقد الكتابة الاستشراقية لكن قارئ النسخة العربية محروم من المتعة المعرفية لأن الكلمات التي يضعها المترجم وإن كانت ذات معنى إلا أنها فارغة من الصدى ومن الذاكرة الثقافية، ويصبح الكتاب المترجم مليئا بالمعلومات لكنه لا يغري بالقراءة، فالكلمات ليست مجرد اصطلاحات وإشارات ولكنها ذات حياة ولها ذاكرة ويستغرب المرء كيف لمثقف مثل كمال أبو ديب أن يتجاهل كل هذا (فهو لا يمكن أن يجهله) في سبيل أن يضع بصمة تميزه عن المترجمين، باذلا جهدا كبيرا يجعله يظن أنه جاء بما لم يستطعه الأوائل، وهذا ما يجعل نقدنا يبدو قاسيا على مترجم قام بعمل شاق لكن الضرر الذي لحق بالنص الأصلي وبالقارئ العربي لابد من وضعه في الميزان. وإذا كان لدى كل المترجمين مصاعب تتعلق بالمصطلحات مما يجعلهم يجتهدون باقتراح مفردات عربية، فإن مترجم الاستشراق هو حالة خاصة والدليل هو أنه يبتدع مفردات عربية لا لترجمة مصطلحات بل كلمات إنكليزية أو تعابير وأشباه جمل لاخلاف عليها ومن هنا تحولت النسخة العربية إلى نسخة سقيمة تبعث قراءتها على السأم، لنقرأ هذه الكلمة: (اجتصادي).. وهي مقابل التعبير الانكليزي والعربي: لـ(اجتماعي/ اقتصادي) وكذلك: (اجتماسي) مقابل تركيب: (اجتماعي/ سياسي).. كل هذا القبح من أجل الايجاز لكن الاطالة أقل قبحا، والإيجاز ليس مقدسا..! بل يلجأ إلى تعريب كلمات مترجمة، ناهيك بهذا التركيب الذي يقترحه والذي يشبه الكتابة الرياضية أو المعادلات: (1830 (ا ت) ؟ إنه ببساطة اختصار لتعبير: (ثلاثينيات القرن التاسع عشر).. والأغرب من ذلك ألا يثير المثقفون والمترجمون العرب حتى اليوم نقاشا واسعا حول هذه المسألة، بحيث احتاج (إ. سعيد) عشرين سنة قبل أن يدرك من بعيد ما صمتت عنه الأوساط الثقافية العربية.
وفي سبيل تبرير أسلوبه اللغوي في الترجمة يقول (أبو ديب) ان اللغة العربية ليست مقدسة، لكنه يناقض نفسه حين يقترح استبدال كل كلمة أجنبية قبل أن يجد الكلمة العربية البديلة ودون أن يكون هناك التباس في استخدامها العربي، لمجرد أنها أجنبية مثل كلمة (ايديولوجيا) ما يعني أن اللغة العربية مقدسة لكنها ليست مقدسة أمام إضافاته الغرائبية.
[ [ [
ثم صدر (صور المثقف) لـ(إ. سعيد)، ترجمة (غسان غصن) وقد كتبت مقالة صغيرة عن الكتاب الذي يتحدث فيه (سعيد) عن قدرة ثقافة تقليدية كالثقافة العربية أن تنجب مثقفين حداثيين من طراز (أدونيس و.. كمال أبو ديب).. وهي شهادة مرموقة بلاشك. بعد ذلك صدر كتاب: (الثقافة والإمبريالية) وهو تكملة هامة لـ(الاستشراق) ترجمة: (كمال أبو ديب)!.. كان الصديق (محمد غيث) هو أول من حصل على النسخة المترحمة من الكتاب وقرأها وحملها مثل بشرى وكان من الدماثة بحيث تمنى علي قراءتها، مشجعا إياي على الطريق الذي كنت أختطه لنفسي بالكتابة حول (صورة الشرق في الثقافة الغربية)، كنت أطلع الصديق على مسودات مقالاتي التي اقترحت فيها ازدواجية الصورة النمطية للشرق في الثقافة الأوروبية بحيث تتضمن موقفين متناقضين لكنهما لا يلغيان بعضهما لأنهما يؤديان وظيفة على المستوى الخيالي والواقعي ورغم شغفي بالإطلاع على جديد (سعيد) أبديت توجسي من المترجم لكن لم أصر على موقفي وتجاهلت انطباعي، وقفزت عن المقدمة من أجل الخوض في نص (الثقافة والامبريالية) ولكن هيهات.. مرة أخرى لم أكمل القراءة وتحول انطباعي عن سوء الترجمة إلى اقتناع لكنني عدت إلى قراءة مقدمة المؤلف ومقدمة المترجم ووجدتها أكثر تعقيدا من مقدمة الاستشراق، أي أن المترجم لم يراجع سوء تلقي القراء العرب لـ(الاستشراق) أبدا.
من أعطى كمال أبو ديب الحق بأن يسمي النسخة العربية من (الاستشراق): نقلا إلى العربية بدلا من ترجمة؟ وأن يسمي النسخة العربية من (الثقافة والامبريالية) ترجمة وليس نقلا إلى العربية؟؟.. مع أن على قارئ النسخة العربية من (الثقافة والامبريالية) أن يشغل نفسه بكلمات عربية قاموسية، عقيمة أحيانا، مثل: (استخطاطية) التي يقترحها مقابل (إستراتيجية) و(دنيوية) بدلا من (علمانية) وذلك بهدف الحصول على نسخة عربية صافية ومعقمة لكتاب مكتوب بلغة إنكليزية غير صافية (كما يمكن لإدوارد سعيد أن يقول) من قبل مترجم يعيش في بلاد الانكليز الواسعة ويرطن بلغة أهلها لكنه يخاف على أبناء جلدته من كلمة أجنبية بحروف عربية، مع أن (القرآن الكريم ) يتضمن تسعين كلمة من أصل غير عربي، لكنها كلمات تفي بالغرض القرآني لأنها تصدي إلى أصداء معروفة في الذاكرة العربية..(!)
ـ2ـ
يتطابق موقف أبو ديب مع الطريقة الفرنسية التي تقوم على المبدأ التالي: «تقديم عمل يمثل ما كان صاحبه في اللغة الأصل سيكتب لو كان ناطقا باللغة المترجم إليها»(1) وهي الطريقة التي ينتقدها شلاير ماخر حين يقول: «ماذا لو أن المترجم يتقدم إلى القارئ قائلاً: إليك عمل المؤلف كما لو كان كتبه باللغة الألمانية فيجيبه القارئ: سأكون شاكرا لو أنك قدمت لي صورة هذا الرجل لو أن أمه ولدته من رجل آخر ؟«(2) مع فارق أن ترجمة (أبوديب) لا تمثل الكتاب كما لو أن سعيد كتبه بالعربية، لأنه كان سيكتبه بشكل أفضل دون الرجوع إلى لغة (ابن المعتز) أو (سيبويه) منذ ألف سنة. ليس جديدا اختلاف مناهج المترجمين لكن اللافت في هذه القضية تجرؤ المترجم العربي على ارتجال مفردات عربية لا يحتاج القارئ إليها في لحظة قراءة (الاستشراق) أو (الثقافة والامبريالية)، قدر ما يحتاج إلى قراءة النص، ما هو صدى كلمة (دنيوية) في سياق كتاب سجالي؟ لا شيء.. أما صدى كلمة (علمانية) فهو يفي بالغرض هذا إذا افترضنا أنه نحت الكلمة الصحيحة مقابل (علمانية) وهذا أمر غير مؤكد.. على الترجمة أن تشف عن النص الأجنبي، وليس لدي أي شك في القيمة الثقافية لـ(كمال أبو ديب) ككاتب ومفكر لكنه ألحق الضرر البالغ بترجمته لكتاب (الاستشراق) الذي هو قضية (إدوارد سعيد) وقد ارتكب خطأ حين فرض قضيته الخاصة بابتداع مفردات عربية بطريقة تجريبية محضة فرضها على القارئ العربي قسرا، وأثقل كتاب سعيد بأعباء ينوء تحتها، بينما كان القارئ يحاول جاهدا، الوصول إلى نص (إ. سعيد). وبدلا من أن تكون الترجمة صلة وصل أصبحت عائقا وحتى مقدمة (سعيد) التي يفتتح بها كتابه الثقافة والامبريالية، لا يستطيع القارئ العربي أن يقرأها دون انقطاع ناتج عن إحالات وتعليقات، و إ. سعيد في تقديمه لكتاب الثقافة والامبريالية يتحدث عن الصدى الباهت لـ(الاستشراق) في العالم العربي على عكس الأصداء المتجاوبة في أنحاء العالم: «إن الأمر في نظري ليقع على مشارف اللغز أو السر؛ لماذا ساعد الاستشراق في باكستان والهند، وأفريقيا، واليابان، وأميركا اللاتينية، وأوروبا، والولايات المتحدة، على إطلاق العديد.. من أساليب التحليل الجديدة واعادات التأويل للتاريخ والثقافة، فيما ظل تأثيره في العالم العربي محدودا ؟ لكن..»(3 ) وهنا نقف لأن المترجم يضع على الفور إحالة على الهامش يقول فيها: « أود أن أعبر عن وجهة نظر مخالفة تماما لوجهة نظر مؤلف الاستشراق حول تأثيره في العالم العربي فلقد كان هذا التأثير في المجالات التي أعرفها عميقا وجذريا إلى درجة.. إلى آخره»(4) هذا في الصفحة الأولى فقط، لا يدع المترجم للمؤلف التواصل أبدا مع القارئ والاقتباس السابق من (إدوارد سعيد) فائق الدلالة لأنها بداية استشعاره خللا في النسخة العربية قبل أن يدرك في وقت متأخر فشل تعريب كتابه، وأود أن أعبر عن وجهة نظر مخالفة تماما لوجهة نظر المترجم حول التأثير العميق والجذري لترجمة الاستشراق فلقد كان عدم التأثير في المجالات التي أعرفها واسعا إلى درجة تبعث على الكآبة، فالبعض عجز عن قراءته لظنه أنه كتاب شديد التعقيد وأكاديمي بينما يقول سعيد نفسه عن كتابه إنه سجالي وإنه استغرب للوهلة الأولى النقاش العالمي الذي أثاره، هذا من جهة ومن جهة أخرى لا تكمن المشكلة التي تطرحها هذه المقالة في أن الاستشراق مترجما لم يترك أثرا في العالم العربي فهذا قول مبالغ به حتما لكن ما يحزن هو أنه كان يمكن أن يكون له أثر أكبر بكثير عبر دوائر متسعة من المثقفين والقراء والمهتمين كما حدث في الهند وباكستان وكما حدث في العالم العربي عند ترجمة كتب أخرى لـ (تودوروف) و(ماركيوز) و(هابرماس) وهم أكثر صعوبة من سعيد بالنسبة للقارئ العربي. وقد كاد (الإنسان ذو البعد الواحد) لـ(ماركيوز) أن يكون كتابا شعبيا لدى الشباب العرب في مرحلة ما رغم صعوبته، ومن المؤسف أن كثيرا من الحوارات التي أخوضها مع مثقفين وتدور حول موضوع الاستشراق لا يكون كتاب (الاستشراق) موضوعها بسبب أن المتحاورين عجزوا عن هضم الكتاب بسبب الاحالات وبعض الاشارات وكل أنواع الأقواس والحروف والاختصارات.. ونعود إلى مقدمة (سعيد) في الثقافة والامبريالية والى الاقتباس الذي تقطعه إشارة المترجم يقول سعيد: «.. لكن.. على أي حال ينبغي الآن لكتاب الثقافة والامبريالية الذي يقوم فعليا بموضعة المشكلات التي عالجها الاستشراق في سياق أوسع، إذا كان لتفاؤلي ما يسوغه، أن يعيد إحياء المناظرة..»(5). لقد كان حدس سعيد في مكانه للأسف حول تفاؤله بخصوص إحياء المناظرة بعد توسيع ما ورد في الاستشراق، فقد اتسعت اجتهادات المترجم على حساب نص سعيد مرة أخرى وأشك أن يغري (الثقافة و الامبريالية) القراء الذين لم يغرهم (الاستشراق) من قبل، والمفارقة المأسوية أن (سعيد) وليس أي كاتب آخر، هو الذي يكتب مستشعرا الخلل في نسخة الاستشراق العربية، وذلك في مقدمة (الثقافة والامبريالية)، أي في الوقت الذي يسلم سعيد كتابه الثاني لخلل مشابه دون أن يدري..
[ [ [
إن ما أضاعه المترجم هو روح كتاب (سعيد) وليس شكله وأضاع دائما صدى المفاهيم والكلمات، أي صدى الكتابة. فلكل كلمة معنى يحيل على معان في سياق محدد وهو أمر يدرك (سعيد) أهميته. وكي أضرب مثلا من الثقافة والامبريالية، سوف أختار تعبير (القراءة الطباقية) الذي اختاره المترجم مقابل مصطلح موسيقي يستخدمه (سعيد) وهو: الـ(contrapuntal). في الصفحة الثانية من مقدمة المؤلف نجد إشارة من المترجم تحيل القارئ على الصفحة الثامنة من مقدمة المترجم لشرح الكلمة العربية لا الأجنبية التي اقترحها المترجم (وهي القراءة الطباقية) كترجمة للكلمة التي يستخدمها سعيد في الكتاب والتي يشرحها المترجم في مقدمته التي تسبق الكتاب لكن سعيد استخدمها في مقدمته التي تسبق مقدمة المترجم وهكذا.. إنه خلل لا يصدق..
وقد لا يكون لدى القارئ العربي معرفة بهذا المصطلح كما يقول أبو ديب، غير أن الترجمة العربية التي يقترحها ليست أكثر إيحاء من المصطلح الأجنبي رغم شروحات المترجم الواسعة والعودة إلى النقد العربي القديم ولكلمة (الطباق) عند (ابن المعتز). كل هذا لا يجعل (القراءة الطباقية) تعبيرا ذا معنى وبالأخص لا يحمل المعنى الذي يتوخاه المؤلف والذي تتطلبه الفكرة وهي فكرة أساسية في(الثقافة والامبريالية)، وكان على المترجم، هنا، أن يبتدع تعبيرا يتناسب مع روح النص لا أن يستند إلى اللغة العربية لتبرير (القراءة الطباقية) حتى لو كانت هي الأقرب إلى المعنى الحرفي للمصطلح الأجنبي، إن تعبير (تعدد الألحان) أو (الازدواجية) أو (التعارض المتناغم) كان يمكن أن تفضي إلى السياق أكثر من (القراءة الطباقية). عدت إلى الصديق وأعدت شكواي القديمة من المترجم وأعدت الكتاب الذي قرأت جزءا كبيرا منه لكنني لم أكمله، كان لدى صديقي صبر وأناة بحيث وضح لي تقاطع ما أكتبه من تناقض الرؤية الغربية للشرق في الثقافة الأوربية، مع فكرة أساسية في الثقافة والامبريالية، ولكن أين وردت هذه الفكرة؟؟ وقال لي إنها القراءة الطباقية. وهكذا تكفل الصديق بشرحها لي رغم أنني كنت قد قرأتها.
لقد وقع سوء استجابة لأهم كتابين من كتب (إدوارد سعيد) في أوساط القراء العرب: (الاستشراق) و(الثقافة والامبريالية) وهما بالصدفة الكتابان اللذان ترجمهما مترجم واحد ولم يقم أي مترجم آخر بترجمة ثانية لأي منهما ما عدا ترجمة بضع صفحات من (الاستشراق) في مجلة (شؤون فلسطينية/ أيلول 1978) وهي صفحات قابلة للقراءة السلسة لكنها أقل عددا من أن تكون كافية للمقارنة مع الترجمة الكاملة والصعبة لـ(أبو ديب)، وأذهب للقول ان هناك «استشراقين» لا ثالث لهما للأسف: (استشراق) إدوارد سعيد و(استشراق) كمال أبو ديب الذي تبين لنا أن لديه قضية تتعلق بإعادة ابتداع كلمات عربية جديدة، وقد تكون هذه القضية هامة وكان يمكن للمترجم أن يعرض انشغاله واقتراحاته في دراسة مستقلة، أو أن يقوم بتطبيق اجتهاداته على كتب تمت ترجمتها من قبل كي نقوم بالمقارنة بين ترجمته العبقرية وترجمات الآخرين الساذجة والسهلة (كما يشير أبو ديب نفسه إلى ترجمات الآخرين)، لكن بدلا من ذلك كله فرض المترجم اجتهاداته، وهي مجرد اجتهادات، على نص رفيع القيمة لم يسبق أن ترجم للعربية. يقول كمال أبو ديب في تقديمه للنسخة العربية من الاستشراق:
منذ مدة أي بعد سنوات من صدور الثقافة والامبريالية أخبرني الصديق (محمد غيث) أنه قرأ مقالة للمترجم (محمد شاهين) يذكر فيها أنه التقى (إ. سعيد) في إحدى المناسبات وقد عبر سعيد عن استيائه من ترجمة الاستشراق واصفا إياها بأنها ترجمة رديئة..!
(كاتب سوري)
الاقتباسات:
1ـ ريما لعريبي. اتجاهات التنظير في الترجمة. الآداب العالمية. عدد 139. اتحاد الكتاب العرب. دمشق. (2009). ص (102)
2ـ المصدر نفسه. ص (104)
3ـ إدوارد سعيد. الثقافة والامبريالية. ترجمة: كمال أبو ديب. دار الآداب. بيروت. (1998). مقدمة المؤلف.
4ـ المصدر نفسه. المقدمة. الهامش.
5ـ المصدر نفسه. مقدمة المؤلف.
6ـ إدوارد سعيد. الاستشراق. نقله للعربية: كمال أبو ديب. المؤسسة العربية للدراسات والنشر. بيروت. (1981). مقدمة المترجم.
نعمان الحاج حسين
المصدر: السفير الثقافي
إضافة تعليق جديد