التيارات الدينية، بين النص والتوظيف
منذ انطلاقة ما يسمى بـ “الربيع العربي” وجدت الجماعات التكفيرية موطئ قدم لها في الشارع العربي بشكل أكبر من أي وقت مضى، وساعدها في ذلك وجود حاضنة اجتماعية من جهة، ومن جهة أخرى ترسيخ فكرة الديمقراطية المزيفة “صوتوا للإخوان وإلا جاء إلى الحكم فلول الأنظمة السابقة”، أو ما بتنا نعرفه بثنائية “النظام-الإخوان”.
والحقيقة أن كافة الجماعات التكفيرية من الإخوان إلى القاعدة فالنصرة ولاحقاً داعش، هي جماعات تلقت تمويلاً هائلاً من الدول الغربية قد لا يأخذ شكل الدعم المباشر دائماً، وذلك في سبيل زعزعة الاستقرار في المنطقة، فيكون الخلاص بطلب النجدة من المحتل الأمريكي لدرء هذا الخطر المحدق بالمنطقة.
التمويل والدعم الذي تلقته -وما تزال- تلك الجماعات التكفيرية يشمل عدة مستويات، وبصفتنا نعيش في كنف أنظمة تابعة، فمن الطبيعي أن تشكل تلك الجماعات جزءاً من الأنظمة السياسية للدول التابعة، ولا ننسى بأن جماعة الإخوان المسلمين في الأردن مثلاً كانت تسيطر على العديد من الوزارات سابقاً، مما يوضح طبيعة هذه العلاقة بين الأنظمة والإخوان.
في سورية اتضحت معالم تلك الجماعات التكفيرية أكثر وأكثر منذ اندلاع الأزمة السورية، فبات من الواضح لدى الجميع بأن جميع الحركات التكفيرية من الإخوان إلى داعش تحمل ذات الفكر التكفيري، وتسعى لذات الأهداف، وإن ناور بعضها سياسياً في أماكن ما!
التاريخ لا يرحم!
ليس من الممكن الحديث تحت هذا البند العريض دونما التأكيد على أن الدول الغربية أو الأنظمة الرأسمالية (التي تقتات على الحروب) دعمت عبر التاريخ كافة الجماعات التكفيرية، وقد تكون هذه دعوة مناسبة لإعادة قراءة كتاب “لعبة الشيطان، ودور الولايات المتحدة في نشأة التطرف الإسلامي” لروبرت دريفوس، والذي يلقي الضوء على تأسيس تلك الجماعات منذ ما قبل حسن البنّا وحتى أسامة بن لادن.
يتحدث دريفوس في الكتاب ومن خلال وثائق واضحة عن إسهام المكتب الخامس البريطاني ومن ثم الاستخبارات المركزية الأمريكية (CIA) في تأسيس تلك الجماعات وتغذيتها بالمال أولاً، ومن خلال بناء حواضن اجتماعية لها ثانياً.
بناء الحواضن الاجتماعية كان من خلال المدارس والجمعيات والجوامع ودور تحفيظ القرآن.
ومما لا شك فيه بأن دعم تلك الجماعات وتثبيت وجودها من خلال الرأسمالية العالمية جاء ضمن سياقين رئيسيين، ما قبل انهيار المنظومة الاشتراكية، وما بعد ذلك!
• ما قبل انهيار المنظومة الاشتراكية:
الهدف الاستراتيجي الرئيس الذي تبنته الرأسمالية العالمية في المنطقة انصب دوماً على تعزيز وجود قوى تابعة، وفي حقبة الملكيات العربية، ومع انفتاح المجتمعات العربية على الثورات في تلك الفترة -الثورة البلشفية أنموذجاً-، كان لا بد من خلق تيارات دينية تعزز وجود الملكيات التابعة في المنطقة، ولدرء خطر قيام ثورات تطالب بدول قومية!
في مصر، الأردن، العراق، وسورية، كانت الجماعات التكفيرية في طور تأسيسها، وبالتأكيد كانت تدعم الأنظمة الملكية التابعة بدعم وتوجيه من الرأسمالية العالمية، لحرف الصراع الطبقي عن مساره الصحيح، وإحلال المفاهيم الدينية التي تتعلق بالصبر بدلاً منه، ناهيك عن ترهيب الشعوب العربية من “الشيوعية” بوصفها دعوة للإلحاد، دون إغفال نقطة مهمة، تتلخص في أن مؤسسي تلك الجماعات هم من الطبقات الثرية، وضمن شبكة التحالفات مع الرأسمالية العالمية، كان لا بد للملكيات العربية أن تكون في ذات الصف، مقابل السيطرة على أي تحرك ثوري قد يبصر النور.
استمرت الأمور على ما هي عليه، حتى قيام ثورة يوليو في مصر والقضاء على الملكية هناك، وانتقال حمى الثورة إلى دول عربية أخرى، وبدء مشروع التحرر الوطني بصبغته القومية، مما وجه الرأسمالية إلى تحويل تلك الجماعات من صف الموالي للسلطة إلى صف المعارض الداعي إلى إسقاط الدول القومية والثورات القومية بحجة أنها “كافرة” تنادي بالاشتراكية.
بعد وفاة الزعيم جمال عبدالناصر، وبدء السادات بالانقلاب على منجزات ثورة يوليو، كان لا بد من محاربة القوى الثورية مجدداً، الأمر الذي تظهره مراسلات السادات-كيسينجر، حيث دعا كيسينجر السادات من خلال تلك المراسلات إلى دعم اليمين لدرء خطر التنظيمات القومية واليسارية الثورية!
أحسنت الولايات المتحدة محاربة المنظومة الاشتركية فيما بعد باستخدام مرتزقة الجماعات التكفيرية، ومع انهيار المنظومة في أوائل التسعينيات كان لا بد من استخدام هؤلاء المرتزقة في مكان آخر!
• ما بعد انهيار المنظومة الاشتراكية:
اختلف الأمر ما بعد انهيار المنظومة الاشتراكية، ذلك بأن العالم افتقر إلى الدول الاشتراكية أو القومية التي تحمل مشروع تحرر وطني، فما كان من الرأسمالية إلّا توجيه الجماعات التكفيرية إلى “ترهيب” الشارع العربي مما يضمن بقاء حلفائها في سدة الحكم!
ومن جهة أخرى تذرعت القوى الغربية بـ “محاربة الإرهاب” مستخدمة الجماعات التكفيرية ذاتها لاحتلال بعض الدول كأفغانستان والعراق.
إذن فالرأسمالية العالمية لا تسعى إلى محاربة “الإرهاب”، هي ليست معنية لا باحتوائه ولا بالقضاء عليه، هي حريصة على وجوده بما يخدم مصالحها ومصالح حلفائها.
نار داعش لا تطال التحالف عليها، ما حدث كان أمر لا بد منه لتبرير انخراط الأردن في التحالف الدولي “مع داعش وليس ضده بالمناسبة”، ولتحقيق بعض المكاسب السياسية وغطاءاً سياسياً لبعض الأمور الداخلية، الجميع ضحى بمعاذ، المؤسسة التي ينتمي إليها، الحكومة، داعش، الولايات المتحدة، الجميع بلا استثناء، مسرحية هزلية انتهت بمأساة إنسانية يندى لها الجبين حتى مع العدو!!!
استراتيجية واشنطن تتقاطع مع داعش والقاعدة والإخوان أولاً بما يتعلّق بأولويات العداء، الولايات المتحدة والجماعات التكفيرية تعادي إيران وحزب الله وسورية بالمقام الأول، وثانياً بما سمّته وزيرة الخارجية الأمريكية في عهد بوش الابن “الفوضى والفوضى البنّاءة”، والذي سمّاه داعش بـ “النكاية والتوحش” أو “إدارة التوحش”.
نعم عناصر الجماعات التكفيرية لا تجتمع مع أوباما في البيت الأبيض في نهاية كل أسبوع، ولكن الولايات المتحدة وأتباعها يجيدون استخدام داعش بما يخدم مصالحهم، وعن التمويل، قد تبدو حجة “عن طريق الخطأ” واهية فيما يتعلق بإلقاء أسلحة من طائرات أمريكية لعناصر داعش، أما الدعم المالي فيتكفل به الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي ينتمي للإخوان!!
الإخوان، القاعدة، النصرة، داعش .. تعددت اللحى والتكفير واحد!
تتلقى الجماعات التكفيرية الدعم المادي واللوجستي والمعنوي من قبل الإمبريالية العالمية، وبطبيعة الحال فإن الفقر والتجهيل والتعليم والمناهج وغياب مفهوم الدولة وغلبة التدين والمحافظة ووجود الموروث الفقهي الرجعي، هي كلها عوامل أدت إلى خلق بيئات حاضنة للتكفيريين جميعاً في الوطن العربي.
تتشارك كافة الجماعات التكفيرية بدءاً بالإخوان وصولاً إلى داعش بكونها أغصان لشجرة واحدة، لا يغرنا من يبيّن الفرق بين هذا الغصن وذاك عبر شاشات التلفاز، فهي تتشارك بنظرتها لقوى اليسار والدول القومية أو الشيوعية، كما تتشارك بنظرتها لما يسمى بـ “إعادة القيم الدينية والتقاليد”، والنظرة إلى المجتمعات، وبالطبع أولويات “العداء”.
ليس صحيحاً بأن الإسلاميين على اختلاف تنظيماتهم ليسوا من دعاة التطرف وممارسيه، كلهم سواء، ولكن هذا لا ينفي حقيقة أن “الأقل تطرفاً” يستفيد من “الأكثر تطرفاً”، فـ “المعتدل” قد يشهد انشقاقات “متطرفة” في يوم ما، مما يؤكد على أن “الاعتدال” ما هو إلّا مجرد خدعة يراوغ بها الإخوان حتى يأتي “زمن التمكين”، وحينها سترون الإخوان يفعلون فعل داعش، يقطعون الرؤوس في الشوارع ويحرقون الكتب والمكتبات، بل ويدمرون تماثيل تعود لحضارات نشأت في هذه المنطقة قبل أكثر من 10 آلاف عام!
أسس حسن البنّا جماعة الإخوان المسلمين عام 1928 على عدة مفاهيم أساسية، الحاكمية والخلافة وقاعدة الولاء والبراء، وامتلك من الخداع والمراوغة ما مكنه وأتباعه من اللعب بتلك المصطلحات وتكييفها بما يخدم بقاءهم وبما يخدم حلفاءهم، سواء الداخليين أو الخارجيين!
داعش قام على ذات الأسس، مع فارق وحيد ومهم، هو البدء بالتنفيذ أو “ساعة الصفر”، أما الحاكمية والخلافة، فتعد أبرز النقاط التي تظهر أن الجماعات التكفيرية كلها واحدة، من الإخوان إلى داعش.
الحاكمية: “الحكم في هذا الكون كله لله من حيث التشريع القانوني والنظام السياسي وقيم المجتمع وتصوراته للكون وفنونه وآدابه، والمجتمع المسلم هو الذي يطبق شرع الله وليس غيره حتى لو كان به مسلمون عابدون، وإن أي شيء غير الحاكمية هي عبادة من البشر للبشر.
ترفض الحاكمية كافة اتجاهات لتاريخ وعلوم الفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع وكل العلوم الإنسانية، لأن مصدرها غير إسلامي، كما ترفض كل محاولات تقريب الإسلام من الاشتراكية، وتعترض على مفاهيم الدولة الوطنية أو القومية”.
الخلافة: “الخلافة وتحكيم شرع الله هي الأهداف المركزية، والخلافة هي رمز الوحدة الإسلامية، ومظهر الارتباط بين أمم الإسلام، وهي شعيرة من الشعائر الإسلامية”، قد نحتاج عقب التعريف لاقتباس من حسن البنا في “رسالة المؤتمر الخامس” تحت عنوان “الإخوان المسلمون والخلافة”: “لا تدع مجالاً للشك في أن من واجب المسلمين أن يهتموا بالتفكير فى أمر خلافتهم منذ حورت عن منهاجها، ثم ألغيت بتاتا إلى الآن”.
تلك النقتطين تحديداً توضح بأن منهج الجماعات التكفيرية واحد، فهم يتفقون على ذلك، وإن اختلفوا قليلاً في مبدأ “زمن التمكين”، نعم، آن لنا أن نقول بأن جماعة الإخوان هي جماعة تكفيرية، حالها حال القاعدة والنصرة وداعش!
لا تختلف كتابات سيد قطب وابن تيمية وحسن البنا ومحمد بن عبدالوهاب كثيراً، جميعها تتحمل انتشار ظاهرة التكفير، وهي نواة كافة الجماعات التكفيرية الموجودة حالياً، مجدداً، من الإخوان وصولاً لداعش.
الأردن .. الكساسبة ضحية الجميع!
جريمة داعش بحرق الطيار الأردني معاذ الكساسبة هي جريمة وحشية بلا شك، ولكن احذروا من الوقوع في الفخ، فالتعاطف مع قضية معاذ ليس تعاطفاً مع السلطة أو مع المؤسسة التي ينتمي إليها معاذ!
“هي شبكة العلاقات من الفرد إلى المؤسسة إلى السلطة السياسية وتحالفاتها، تمكننا من اتخاذ موقف مركب عند الحديث عن معاذ” – مادة لكمال فريد نشرت عبر مجلة راديكال قبيل إعدام داعش للكساسبة.
في البداية عارضنا دخول الأردن في حرب ضد داعش، ليس لأنها “ليست حربنا”، هي حربنا على أية حال، ولكننا عارضنا دخول الأردن في تحالف دولي تقوده الولايات المتحدة ضد الجماعات التكفيرية في سورية والعراق، وكان موقفنا واضح، إذا دخلنا الحرب على داعش فلا بد أن تكون بالتحالف مع من يحارب داعش حقاً كالجيش العربي السوري وحزب الله، لا مع من يهمّه وجود داعش، ويسعى صورياً لمحاربتها للعب في خانة السياسة أكثر.
سارعت الحكومة الأردنية إلى الإفراج عن أبو محمد المقدسي فور إقدام داعش على قتل الطيّار معاذ الكساسبة، وأبو محمد المقدسي هو “منظّر” السلفية الجهادية في الأردن، ويعرف بأحد أبرز “منظري فكر القاعدة” بشكل عام دون أن يكون عضواً في التنظيم!!! أما الآن فهو يساند جبهة النصرة (التابعة للقاعدة)، فكيف بقي من يظن بأن الأردن تسعى لمحاربة “التطرف” أو “الإرهاب”!
هي تغذيه، وتعرف كيف تتعامل معه مما يعزز وجودها وسيطرتها على الجماهير، تماماً كما تتقن الولايات المتحدة فعل ذلك!
المقدسي هو الأب الروحي لأبي مصعب الزرقاوي بعد أن شكّل تنظيم “التوحيد والجهاد” في العراق وحتى بعد اندماج ذلك التنظيم مع بقية الجماعات التكفيرية ضمن ما كان يعرف بـ “مجلس شورى المجاهدين” والذي انبثق عنه “دولة العراق الإسلامية” التي تطورت فيما بعد لتصبح “داعش”!
الأردن كان في وقت سابق قد سهّل دخول مرتزقة الجماعات التكفيرية إلى سورية، بل وكان الممر الرئيس لهؤلاء، والتدريب كان يجري على أراضيه، كل ذلك يدل على أن الأردن ليس معنياً بالفعل بمحاربة التكفيريين.
الأهم من ذلك أن في الأردن بيئة حاضنة لداعش، في معان تحديداً، والخشية من التوتر الداخلي على الرغم من إجادة استخدام الأردن لتلك الجماعات -كما هو الحال بالنسبة للولايات المتحدة- بما يخدم مصالحه قد تفسّر السلوك السريع للسلطة الأردنية في الإفراج عن المقدسي.
لا ينفصل الأردن في قراره السياسي عن الولايات المتحدة، القرار الرسمي الأردني تابع بامتياز، لا وجود لجماعات تكفيرية أو أحزاب إسلامية “معتدلة”، هي كلها سواء، لو أتيح للإخوان ما أتيح لداعش، لرأينا عناصر الإخوان تقطع الرؤوس في كل مكان.
لطالما رفض إخوان الأردن وصف داعش بـ “الإرهاب”، ولم نسمع منهم إدانة حتى لجرائم داعش المتعددة، أما المقدسي -الذي أفرجت عنه السلطات الأردنية- فكان قد خاطب البغدادي بـ “أمير دولة العراق والشام الإسلامية الشيخ أبي بكر البغدادي حفظه الله” للتوسط لإطلاق سراح معاذ قبل إعدامه!!!
إذا كانت الدولة الأردنية جادة في محاربة الجماعات التكفيرية فلتحارب الإخوان والقاعدة والنصرة وداعش بتحالف مع القوى التي تحارب تلك الجماعات حقاً، مع الجيش العربي السوري وحزب الله
طلال عبدالله: الحوار المتمدن
إضافة تعليق جديد