الحيطان كتابة عـ«الواقف» لرسائل عـ«الماشي»

26-12-2009

الحيطان كتابة عـ«الواقف» لرسائل عـ«الماشي»

منذ خطّ الإنسان الأول أوّل حرف في أبجدية الحضارة على جدران كهفه وإلى الآن؛ حافظ الجدار على مكانته المرموقة، كأكثر وسائل التعبير شعبية، لم تنل منه كلّ منجزات الحضارة، منذ اختراع الورق حتى آخر «موبايل» عصري من الجيل الثالث وما بعده، فتحول إلى شاشة تعكس هموم الشباب وقلقهم في بحثهم عن ذواتهم، من خلال من يحبّون، أو ما يريدون، فماذا ينفع العاشق إذا أغلقت حبيبته في وجهه كلّ وسائل الاتصال، حتى شباكها، في عالمٍ تحوّل إلى قرية صغيرة أو كبيرة.

أليس الجدار المكان الأنسب والأصلح والأبقى كي يقول لها ما يريد، حتى ولو كانت كلمته الأخيرة «اذكريني.. أو وداعاً»..
-  في طرطوس لم يحافظ الجدار إلا على كونه وسيلة للتعبير لشبابٍ ضاقت بهم مدارسهم، فأصبحت الجدران بالنسبة إليهم «فشة خلق» لا أكثر، وساحة لمعاركهم الوهمية، رياضية كانت أم عاطفية، فهذا مع الريال وآخر مع برشلونة.. والضحية هو الجدار، عاثت فيه أيديهم تشويهاً وقباحة، سبّاً وشتائم، تخجل الأذن منها، فكيف العين! شباب ضاقت بهم منازلهم، فكان الشارع ملاذهم وملعب حرّيتهم الجريح من بطشهم وطيشهم..
مرآة لا تعكس سوى ما في القلوب، وما على الشفاه وما لم يقال، إنّها جدران مدينتي التي لم تختلف عن أبنائها، من الحب والفراق حروفها، وبالتمنيات خطّت سطورها، وعلى أطرافها كتبت «الأنا» التي يبحثون عنها، بينما شكلت إحدى زواياها تفاصيل حياة بسيطة أو غيرها..
كالأطفال، مهما كانت الأعمار، يكتب أبناء طرطوس على جدرانها لتقوم البلدية أو التربية بإعادة طلائها دون جدوى.. فالحائط أبيض يغري مَن في داخله كلام لم يقل بأن يقوله.. إذ يبدو أمام ناظره كالورقة البيضاء الحقيقية الشهيّة لكتابة شيء ما يجول في الخاطر أو في القلوب..
«سعيد» كان يكتب على الحائط، سألناه لماذا وماذا يكتب، فقال: «أكتب لحبيبتي التي ستخرج من المدرسة، لترى بأمّ عينيها أني كتبت لها ما أحسّ به على الحائط، علّها تقتنع بأنّي أحبها حقاً، فهي لا تصدّقني.. وسأكتب لها «حبيتك وبعدني بحبك ورح ضل بحبك».
(«أبو رفش المعلم بدو دفش»، «ما في وفا»، don t play with me m+h=love، «الصقر الجارح ..إهداء خاص إليك يا من علمتني الحب.. سأبقى أذكرك في القلب».. «البرازيل وبس وألمانيا هي الخس»)..
والكثير الكثير من الجمل التي لم تخرج على سياق الحياة الرتيبة التي تفيض بحاجات الشباب الآنية.. والتي لن تخلد إلا ذكرى لحظة تعبٍ سيرميها صاحبها خلفه بعد زمن قليل..

لكن.. الجدران لم تشكل وسيلة لتعبير الشباب فقط ، وإنّما لكتابة الشعارات، سواء الحزبية أم الخدمية أم الإعلانات التجارية وغيرها من الجمل الهادفة إلى شيء معين.  
 جدران الفن..

مع الزمن استعار الفنانون والشعراء هذه الشاشة الجدار، كعناوين لأعمالهم الفنية والأدبية، فالشاعر محمود درويش سمّى قصيدته «الجدارية»، والفنان التشكيلي أحمد معلا وغيرهما الكثير، وفي السينما العالمية شريط «البينك فلويد» (الجدار) لا يمكن نسيانه، بالإضافة إلى اللوحات الغرافيكية المنتشرة على جدران مدن وعواصم العالم، التي تحولت إلى فنّ قائم بذاته يطلق عليه «الهب هوب»، وتوجد مسابقات عالمية له..
 الكتابة على الجدران لها عشّاقها في دير الزور

جدران مدارس دير الزور ما زالت المرتع الخصب والأكثر استخداماً من قبل هواة الكتابة على الجدران فيها، ورغم قدم هذه الظاهرة وشموليّتها والتشوّه البصري الذي تخلّفه، إلا أنّها بقيت عصيّة على الحلّ حتى الآن، وما يثير الانتباه في هذا المجال أنّ الكثير من المواطنين لا يرون في هذه الظاهرة مشكلة ما، بل إنّ البعض منهم يؤكدون أنّ قراءة ما هو مدوّن على الجدران هواية ومتعة لهم، وإن كان لا يمارس هذه الكتابة.
أحد المواطنين قام منذ فترة وجيزة بطلاء الجدران الخارجية لمنزله، للتخلّص من العبارات و «الخربشات» المكتوبة والمرسومة عليها، إلا أنّه صدم بعد الطلاء الجديد بعبارة مكتوبة بالخط العريض، وتقول له.. «مبروك الدهان»..!!
هذه الظاهرة تعدّدت أسباب تفشيها، وتنوعت الآراء حولها، وتقول السيدة إيناس السفان، الموظفة في أحد القطاعات الحكومية، إنّ السبب الأساسي هو الرغبة في ترك الأثر، من خلال كتابة ذكرى تتضمّن اليوم والتاريخ وحتى الساعة أحياناً، وطلاب المدارس والجامعات بطبيعة الحال هم الأكثر رغبة في ذلك، حتى لا يكاد يخلو مقعد دراسي من ذكرى فلان وفلان، وأضافت أيضاً أنّها لا تضايقها كثيراً رؤية الجدران المشوهة بكل أنواع العبارات، لكنّها تطلب من كتّابها وروّادها الالتزام بالمعايير والجمل الأخلاقية.
جدران مدارس البنات في ديرالزور هي الأكثر تضرراً، ورغم التشدد الحاصل من قبل القائمين على هذه المدارس، إلا أنّ الكتابة على جدرانها الخارجية ما زالت مشوّهة برسومات وجمل الغزل، ومنها ما تجاوز الحدود بطريقة غير مقبولة، وقد تصل التعديات في هذا الإطار إلى داخل المدرسة أحياناً، كما حصل مع إحدى ثانويات البنات المعروفة في المحافظة، والتي لم تكد تفرح بطلاء جدرانها الداخلية حتى فوجئت بعد ذلك، وبفترة قصيرة جداً بعبارات كبيرة الحجم، وفي مختلف الأمكنة، وكلّ عبّر عمّا داخله، وهنا ألقى مدير المدرسة التهمة على الشباب الطائشين الذين يتسللون إلى داخل المدرسة مساء ليكتبوا على الجدران ما يشاؤون.
عبدالله عبد العزيز، طالب في جامعة الفرات، ويرفض هذه الظاهرة بتاتاً، ويصفها بالجريمة الذوقية التي يجب الخلاص منها، خاصة أنّها لا تفرّق بين جدران دار عبادة أو مرفق عام، كما يؤكّد أنّها تشكل حالة من التعدي على حرمات الآخرين، عندما تشمل جدران الدور السكنية والمحلات التجارية.
المرافق العامة والمنشآت السياحية نالت نصيبها الأكبر، والجسر المعلّق من أكثر الأمثلة وضوحاً، فرغم حلّة الطلاء الجديدة التي لبسها منذ أشهر معدودة فقط، والتي جاءت ضمن مشروع ترميمه، إلا أنّ الجمل والرسومات عادت إليه من جديد، وكما يبدو استغل فاعلوها فترات المساء المتأخرة لممارسة هواياتهم، دون رادع أو حسيب أو رقيب، ولعل وجود حارس للجسر من المتطلبات الأساسية التي يتطلّبها أحد أهمّ المقاصد السياحية في المنطقة الشرقية، وبالتالي حمايته من العبث والتشوهات التي يعمد إليها البعض.
انتهاء هذه الظاهرة يبدو من المستحيلات، وتعاني منها المدن جميعها والدول، لكن عندما يتجاوز الأمر حدّه فإنّ ذلك يتطلب إيجاد حلول واقعية منطقية تستطيع التخفيف من حدّتها وتجاوزاتها غير الأخلاقية أحياناً، وهذا يحتاج إلى خلق ثقافة مجتمعية المساهم الأكبر فيها المنزل والمدرسة، ويتزامن ذلك مع بعض العقوبات الرادعة لكلّ من يُدان بالتعدّي على الذوق العام.

جدران حلب.. ابتسامة سلبية لواقع لن ينتهي!!

«الطلاء سوف يزيل كلّ شيء»، عبارة قد لا يأبه لها كاتب العبارات العاطفية بأقلام الحبر العريضة أو «البخاخ اللوني»، لأنّه سيخلد عناوينه الرنانة في ذكرى على أسوار المدارس، فمن كتابات الشعر التي تصطفّ إلى جانب بعضها، إلى شيطان الحب أو أميره، وفقاً لختم الكاتب على السور، بعد تنويعه أبيات المديح لنفسه وللفتيات، مع رقم الهاتف أو البريد الإلكتروني، كما بدأ يشاع في الوقت الحاضر على أسوار مدارس حلب وأبوابها، مروراً بكوّة الهاتف القديمة، التي ما زالت قائمة، والتي ينتشر دليل أرقام الهواتف الحلبية عليها، ويكون الهدف إمّا نشر الرقم بين الفتيات، وإما ذمّ إحداهنّ على فعلتها أو غضبه منها، ولم تخل مدرسة من مدارس (البنات) خصوصاً من تلك العبارات، لتكون مدرسة «نابلس» في الحي الراقي عنواناً صارخاً لانتشار مثل هذه الظاهرة، وبالانتقال إلى شوارع حلب الرئيسية والثانوية والفرعية، العشوائية منها وغير العشوائية، والتي ستكون حاوية القمامة وغيابها أمام بعض البيوت سبباً لاندفاع صاحب الحديقة، الذي تقبع أمام منزله القمامة، إلى أن يكتب على الجدار «لا ترم القمامة يا مزوق أو يا أبن» ... وترافق تلك العملية الكتابة على جدران الحديقة، ومن دون قمامة أيضاً، وذلك لغياب دورات المياه، فتكون الجمل الرنانة جاهزة لتطلب من الجدار أو السور احتضانها، كذلك سوف يندفع من تعصّب لفريق معيّن إلى أن يشتم الفرق الأخرى، من خلال الكتابة على الجدران.. ولا يخفى على أحد أنّ جامعة حلب تمتلئ جدران قاعاتها ومدرجاتها بكتابات علمية، ولا سيما أثناء الامتحان، وسترى حين الدخول إليها المناهج الدراسية كاملة على الجدران، وكذلك تتمثل تلك القضية داخل المدارس، التي ينشر أطفالها الذكريات لتخليد صداقتهم، أو لنقل عذاباتهم أو لإثبات رجولتهم أو أنوثتهنّ، إن كنّ فتيات، وبعيداً عن تحليل علماء النفس لتفسير هذه الظاهرة، باعتبارها ظاهرة نفسية انفعالية غير شعورية، يجيب أحد الذين مارسوا الكتابة على الجدران، إنّها ظاهرة استطعنا من خلالها لفت النظر، والغش في الامتحان، وتخليد قصص الحب، التي لم نستطع نقلها عبر المنابر ليراها الناس، ويضيف ممازحاً، أنّه بعد 5000 عام سوف يستطيع عالم الآثار تحليل حضارتنا، واكتشاف حياتنا ليقول: كان أجدادنا الحلبيون يكتبون على الجدران الحب والحقد والعلم.. ؟

في الرقة الجدران منابر للمكبوتين؟!
«ذكرى أبو رعد» ـ «الحب عذاب» ـ  «حارة الضبع» ، «أبو شهاب».. وعبارات أخرى منقوشة على الجدران، ووراء كلّ عبارة حكاية ورمز ومفهوم يعكس الحالة النفسية لكاتب العبارة، وظاهرة الكتابة على الجدران منتشرة بشكل كبير في معظم المدن، سواءٌ في الشوارع العامة أم على جدران المباني والمدارس والحمامات العمومية، فما أسباب انتشار هذه الظاهرة؟ و كيف يمكن القضاء على هذه الظاهرة، التي تشكل تلوثاً بصرياً يضاف إلى أنواع التلوث الأخرى، ويسيء إلى جمالية مدننا؟
إنّ البحث عن أسباب تفشي هذه الظاهرة يعود بنا إلى منبعها الأصلي، في المدارس، حيث يبدأ الطفل تعلّم المبادئ الأولية للكتابة والقراءة في المدرسة، ويبدأ الطالب بنقش اسمه على مقعد الدراسة، ثمّ على جدار القاعة الصفية، لتصبح بعدها عادة ترافق الشخص، وليتحوّل الجدار إلى لسان حال كثير من الشباب الذين يعانون من مشاكل اجتماعية.
ويقول حسين محمد: في المراحل الأولى للدراسة، كنت ألجأ إلى الكتابة على جدار المدرسة، لأعلن من خلاله غضبي على مدرّس مادة الرياضيات، حيث كان أسلوبه القمعي مع الطلبة يخلق شعوراً بالخوف لدى معظمنا، فكنت أكيل له الشتائم، وأكتبها على جدار المدرسة، ولعلّ سبب لجوئنا إلى هذا الأسلوب قلَّة الأنشطة اللا صفية، والشرخ الكبير بيننا وبين أهلنا من جهة، وبيننا وبين مدرسينا من جهة أخرى، ما يخلق لدينا فراغاً فكرياً ونفسياً، نقوم بتفريغه عبر شحنات سلبية، من خلال تصرفات تثير حفيظة من هم أكبر منّا سناً، فيبدؤون بالتأنيب والتوعّد والترهيب، ولا يفكّر أحد منهم في أن يسألنا، ما الذي دفعكم إلى فعل مثل هذه الأشياء؟
ويرى الدكتور رشيد حاج صالح، عميد كلية التربية في الرقة، أنّ الكتابة على الجدران وسيلة يلجأ إليها الكثير من الناس للتعبير عن مكنونات ذواتهم، والإفصاح عن مشاعر دفينة، سواء كانت مشاعر حبّ أم حقد وكراهية أم إعجاب.. وهي بالتالي ردة فعل عكسية تجاه شخص أو فئة أو مجتمع بكامله.
وأضاف الصالح، قائلاً: ولعلّ العبارة المكتوبة على الجدار ترسم خلفها ملامح بارزة عن نفسيّة كاتبها، حيث تُظهر مجمل هذه العبارات أنّ أصحابها يعانون من كبت أسري، والدليل على ذلك أنّ العبارات العاطفية، ورسم قلوب الحب والأسهم، تشغل أكثر من70 % من الكتابات على الجدران، وذلك لأنّ هناك تربية جنسية خاطئة ما زالت تسود في مجتمعاتنا، وهذا يدل على نقص واضح في الثقافة الجنسية، خاصة لدى الطلاب، فمجالات العاطفة والجنس من المحرّمات داخل المدرسة والعائلة، والحديث في هذا الأمر حديث غير مرغوب فيه عند الأهل، وهذا خطأ جسيم في التربية، لأنّه يؤدي إلى وصول المعلومة بطرق أخرى غير سليمة، وذلك بدوره يؤدي إلى تشويه وعي الطالب، وينعكس هذا التشوّه على جدران البيت والمدرسة والشارع.
أمّا المحامي عيسى الرضي؛ فيؤكد أن هذه الظاهرة انعكاس لقلة الوعي لدى ممارسيها، وهي تعبير عن تراجع كبير في المنظومة الأخلاقية لدى هؤلاء، وبالتالي يجب أن يتصدّى المجتمع بأطيافه كافة لهذه الظاهرة، وذلك من خلال تنظيم ورشات عمل توعوية، تشير إلى مخاطر هذه الممارسة وانعكاساتها السلبية في فقدان المدن لجمالياتها، ما يؤثر في توجهاتنا في جذب الاستثمارات السياحية.

في الحسكة.. ما بين العشاق والإعلان
تحولت الحيطان في محافظة الحسكة من منابر للمجانين لتصبح وسيلة يعبّر بها العشاق عن حبّهم ولوعتهم واشتياقهم للمحبوب، وما أسرع هؤلاء في رسم قلوب الحب والعشق والهيام، وفي تسطير كلمات الامتنان والمحبة والغرام، فها هو حائط إحدى المدارس يتحوّل بين ليلة وضحاها من حائط جميل يليق بالعملية التربوية إلى حائط عبر فيه عشاق الكتابة عن حبّهم لأشخاص معهم على مقاعد الدراسة، برسم أشكال مختلفة وكتابة جمل رنانة، فيما حاول البعض التعبير عن ندمه لترك المحبوب الذي نسيه مع مرور الزمن، وذلك من خلال كلمات اختارها هؤلاء «الحبّيبة» (بالقلب ما نسيناكم)، فيما استشهد بعضهم بالأغاني العصرية التي تحابي قصصهم ومعاناتهم مع المحبوب «بنفكر بالناس ولا حد فكر فينا......؟»
أمّا في الأحياء الشعبية لمدينة الحسكة؛ فقد تحولت الحيطان إلى وسيلة من وسائل الدعاية والإعلان، كون هذا المصطلح أشبه بالمجهول عن المحافظة، فترى هذه الحيطان مكتوباً عليها «دكان على بعد 50 متراً»، أو «يوجد لدينا لبن غنم صافي»، أو «لبن على بعد 100 متر».
ويروي لنا سامر حكاياته مع الحيطان، وكيف استطاعت ارجاع وليفه إليه، ذلك أنّه، وبعد أن تركته حبيبته، قام بالتسلل إلى باحة مدرستها ليلاً، ليكتب على حيطان المدرسة كلمات ينتفض لها القلب، معترفاً بحبّه العميق من «ارجعيلي»، و»أحبك جكر بالناس»، و «يا حسافة نسيتونا»، مع رموز تدلّ على أنّه الكاتب، «حفاظاً على حقوق النشر والطباعة»، كما هو يعتقد.. يتابع سامر، فيقول: «ما إن قرأتها حتى عاودت الاتصال، والفضل يعود إلى تلك الحيطان التي أوصلت الرسالة».
وفي حكاية طريفة رواها لنا سكان قرية «أبو راسين»، أنّ سكان القرية كانوا من المتابعين للمسلسلات التركية، وعندما عرض مسلسل «أسمر» كانت القرية تعود إلى منازلها لمتابعة المسلسل، وما حصل هو أنّ أحد السارقين سطا على أحد البيوت، وسرق بقرتهم، تاركاً أثره على الحائط بخطّ عريض كاتباً «خلي أسمر يرجعلكن البقرة»، وهنا نلاحظ أنّ الكتابة على الحيطان أخذت منحى آخر.
فيما يرى العديد من الناس أنّ الحيطان قد تكون وسيلة من وسائل تفريغ الشحنات لدى الطلبة، ممن يتابعون وسائل الإعلام والقنوات الفضائية، فتراهم يسطرون كلمات اعتاد الكل على ترديدها في الآونة الأخيرة، مثل «أيوة يا وديع»، و «بس خلاص فهمت يا وديع»، وفي نهاية المطاف لا بد من الإشارة إلى أنّ العديد من المغرضين قد يقومون بكتابة بعض الكلمات الاستفزازية في أماكن معيّنة، والغرض منها التشهير المتعمد، والتلفيق بغرض تحقيق غايات تخريبية، في محاولة منهم للدخول على الخط  (فيما يخص الفتيات)، وتبيان أنهم حملان وديعة لا تعرف التخريب والتلفيق.   
«شخبط شخابيط».. في القامشلي

يمارس الجزراويون «شخبطاتهم» على جدران المدارس, لتجدهم ينفثون ما في دواخلهم من كبت ولعنات وحالات حب, لنجدهم يحيلون جدران المدارس إلى لوحات تشكيلية, في تداخل الخطوط والحروف, إمّا على شكل قلوب أو وجوه للأطفال أو دعايات مجانية لـ «سوبرمانات» وهمية، أو لوحة للإعلان عن المباريات الشعبية لكرة القدم، التي تكاد تكون في أطراف مدينة القامشلي تماثل البرازيل، لنجد رغيف الخبز في يد، وكرة القدم في اليد الأخرى, مظاهر متعددة لتلك «الشخابيط»، بدءاً من المدارس، وحتى في «السرافيس» وباصات النقل الداخلي، «جدران جنون متحركة»، وعلى كراسي القطارات أيضاً.

جدران الحيطان والمراحيض.. «هايد بارك» مختلف
مظاهر أخرى للـ»شخبطات» نجدها في كتب الاستعارة في المكتبات المدرسية، والمراكز الثقافية, إذ يلاحظ أنّ المستعير يقوم بتسجيل سؤال للقارئ الذي سيأتي من بعده: «إذا كنت تريد معرفة اسمي افتح الصفحة كذا؟» وبعد انتقالك إلى تلك الصفحة تفاجأ به يكرّر السؤال ويحيلك إلى صفحة أخرى، كاللعبة لتكتشف أخيراً أنه كالطفل يلعب، وفي المقابل يخلّف وراءه الكثير من الصفحات المكتوبة، ما يسيء إلى الكتاب.
   الواقعان الاقتصادي والمناخي المترديين في السنوات الأخيرة، زادا من كتابات الناس على ما يلاقونه أمامهم، ولا سيما على جدران المراحيض العامة في الجوامع أو على كراسي القطارات و»السرافيس»، يتبارزون بالرد على بعضهم، فهذا يتحدث عن الاقتصاد وآخر عن السياسة، وعما يعجبه ولا يعجبه، وآخر يناقش ويفتح المجال للرد.
الجزيرة عموما مختلفة بلهجاتها وتقاليدها, لنجد حوارات كتابية هادئة، وأخرى متوسطة اللهجة، وقد نجد حوارات مليئة بـ «مسبّات» من طراز مغاير، أشبه ما تكون ببرنامج «الاتجاه المعاكس» في الأطروحات, تناقش الأفكار الكبيرة والصغيرة، والظروف المادية والهجرة، لتجدهم يرسمون أجنحة وطائرات, يشير بعض الناس، إلى أنه، نظراً إلى البعد عن المركز، تفشت ظاهرة استحضار الجدران كمنابت لأفكارهم, فبعدهم عن المنابر الإعلامية في المركز (دمشق)، وبقية المدن الكبرى، (التلفزيون والإذاعات والصحف) ليكون الجدار صحيفتهم اليومية، ومربط أفكارهم، ومحط خيالاتهم، و»فشة خلق» للظروف التي يعانونها، ولظروف الجفاف التي مرّت بها المنطقة عموماً.

المصدر: بلدنا

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...