السياسة تذكي اللهيبَ الطائفي
الجمل- شيرين هنتر*- ترجمة: د. مالك سلمان:
شهدت السنوات القليلة الماضية تنامياً في النزاعات الطائفية بين المسلمين السنة والشيعة في الشرق الأوسط. كما ظهرت إلى السطح توترات مشابهة في جنوب آسيا, وخاصة في باكستان, لأكثر من عقد الآن. ففي الشهر الماضي, مثلاً, أودت النزاعات الطائفية بحياة ما يقارب 1,000 شخصاً في العراق. وكانت الأغلبية الساحقة من الضحايا من الشيعة.
كما امتدت التوترات الطائفية إلى بلدان مثل مصر وتركيا اللتين, حتى وقت قريب, لم تشهدا نزاعات كهذه. ففي شهر حزيران/يونيو, تعرضَ أحد رجال الدين الشيعة في مصر, الإمام حسن شحاتة, إلى الضرب المبرح والقتل على يد عصابة من السلفيين.
عزى معظم المراقبين والمحللين, وخاصة في الغرب, هذه الظاهرة إلى الخلافات الفقهية والسياسية القديمة بين الأغلبية الإسلامية السنية والأقلية الإسلامية الشيعية. ومن الواضح أن هذه التباينات والعداوات الناتجة عنها تخلق تربة خصبة لإعادة إذكاء العصبيات الطائفية.
لكن هذه التباينات, بحد ذاتها, لا تفسر تنامي التوترات الطائفية في الآونة الأخيرة. فقد وجدت التباينات والخلافات العميقة منذ بداية الإسلام نفسه, لكنها لم تؤدِ إلى نزاعات طائفية إلا في فترات محدودة. وفي الحقيقة, كانت التوترات كامنة منذ ما يقارب ثلاثة قرون, لكن النزاعات السابقة لم تكن بشراسة وقسوة هذا النزاع الأخير. ولذلك علينا أن نتساءل عن أسباب هذا النزاع المفاجىء وتوقيته.
تكمن الإجابة بشكل رئيسي في الديناميات السياسية المتغيرة للبلدان الإسلامية, بالإضافة إلى التطورات الإقليمية والدولية التي تلت أفولَ الاتحاد السوفييتي.
أولاً, منذ أواخر الستينيات من القرن الماضي, ظهر الدين مرة أخرى كعامل سياسي في المجتمعات الإسلامية بمثابة ردٍ على الأداء المخيب للحكومات والإيديولوجيات العلمانية. وقد تجلت هذه الظاهرة في الثورة الإيرانية (1979) وسياسة الأسلمة التي اتبعها الرئيس الباكستاني ضياء الحق والتي بدأت في سنة 1978. وقد أدت الثورة الإيرانية بإيديولوجيتها الشيعية إلى إعادة التأكيد على الهوية الشيعية والمطالبة بحقوق أكبر للأقليات الشيعية, بما في ذلك في باكستان. أما سياسة ضياء الحق في الأسلمة, والتي كانت مجحفة بحق الشيعة, فقد أدت إلى استنفار التوترات الطائفية.
وبطريقة مماثلة, ولدَ الخطاب الثوري الإيراني مخاوف العدوى بين بعض البلدان الإسلامية, وخاصة البلدان العربية في الخليج الفارسي. وقد أدت هذه اليقظة الشيعية المتجددة والمخاوف السنية إلى تصعيد الخصومة العربية- الفارسية التقليدية والتنافس السعودي- الإيراني الذي كان قد بدأ سلفاً في نهاية الستينيات من القرن الماضي.
ثانياً, إن صعودَ السعودية كقوة إقليمية في أواخر الستينيات من القرن الماضي واعتمادها المتزايد على الدين, وخاصة الإسلام الوهابي, كأداة تستخدمها في سياستها ساهم بشكل كبير في إذكاء التوترات الطائفية. فعلى النقيض من المدارس السنية الأخرى, مثل الحنفية والشافعية, تعادي الوهابية الشيعة بشكل كبير إلى درجة أنها لا تعتبر الشيعة مسلمين وتبيح سفك دمائهم. وقد ساهم بروز قطر اللاحق, وهي مشيخة خليجية وهابية, في إذكاء التوترات السنية- الشيعية.
ثالثاً, مع نشوب الحرب السوفييتية- الأفغانية, أدى النفوذ المتنامي للسعودية بإسلامها الوهابي في دلك البلد وفي باكستان المجاورة إلى تسعير التوتر الطائفي. كما ظهرت عوامل مساعدة أخرى مثل الحرب الأهلية الأفغانية التي دامت عقداً من الزمن, وصعود طالبان, وتعزيز الخصومات الإقليمية, وخاصة بين إيران والسعودية.
رابعاً, ساهم تشديد السياسة الأمريكية تجاه إيران في التسعينيات من القرن الماضي وما بعدها, وبشكل خاص سياسة إدارة جورج الهادفة إلى تغيير النظام في إيران, في إشعال التوترات الطائفية, حيث استخدمت الولايات المتحدة مجموعات مثل طالبان (حتى 9/11), والمتطرفين السنة الباكستانيين, والأقلية السنية الإيرانية للضغط على ذلك البلد.
خامساً, تمثلَ أحد أهم محفزات التوتر الطائفي في الغزو الأمريكي للعراق والديناميات التي خلقها. ومن أهمها التغير في توازن القوى الإقليمية لصالح الحكومة العراقية الجديدة التي يهيمن عليها الشيعة. وقد أدى الهجوم الإسرائيلي على لبنان في سنة 2006 والمقاومة المذهلة التي أبداها حزب الله في وجه القوات الإسرائيلية إلى تعميق مفهوم تغير توازن القوى لصالح إيران والشيعة في المنطقة.
سادساً, وربما الأكثر أهمية, محاولة السياسة الأمريكية خلق ائتلاف سني- إسرائيلي لمواجهة النفوذ الإيراني وحرف الانتباه من النزاع العربي- الإسرائيلي إلى النزاع السني- الشيعي.
وأخيراً, هناك الحرب الأهلية في سوريا التي كانت بوتقة لكافة هذه العناصر معاً.
باختصار, إن السبب الرئيس لتنامي التوترات الطائفية السنية- الشيعية هو السياسة وليس الدين, بالإضافة إلى استخدام الدين كأداة سياسية. وقد لجأت القوى السنية إلى استخدام الدين لأغراض سياسية أكثر مما فعلت إيران أو العراق. كما أن الشيعة في كل مكان – من العراق إلى باكستان, حيث أصبح قتل الشيعة الرياضة المفضلة للوهابيين – قد تحملوا تبعات هذه الحرب الطائفية.
لكن البلدان السنية لن تفيدَ من تنامي التوترات الطائفية, بما أن العديد منها يحتوي على أقليات شيعية لابأس بها تعاني من الإهمال والحرمان. كما لن يتم العمل على إحلال السلام الإقليمي. ولذلك فإن تنامي التوترات السنية- الشيعية لن يقودَ إلى السلام بين إسرائيل والفلسطينيين. هذا بالإضافة إلى أنها ستعمل على تعقيد المشاكل الداخلية لعدة بلدان وتقتات على أسباب التوترات الإقليمية الأخرى.
في مرحلة ما, يمكن لهذا الاستخدام المتنامي للدين لأغراض سياسية أن يولدَ تأثيراً سلبياً كبيراً على المصالح الغربية, وهي نقطة يجب على الغرب التفكر فيها ملياً وبشكل جدي في تشكيل سياساته تجاه الشرق الأوسط وجنوب غرب آسيا فيما يخص المكاسب الجيوسياسية التي يمكن أن يحققها من التوترات السنية- الشيعية والعمل المستمر على إذكائها وتصعيدها.
----------------------------------------------------------------------------
* شيرين هنتر: بروفسورة زائرة في "مركز الأمير الوليد بن طلال للتفاهم الإسلامي- المسيحي", في جامعة جورج تاون في واشنطن العاصمة (الولايات المتحدة). وهي أيضاً باحثة متميزة (غير مقيمة) في "مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية" في واشنطن العاصمة.
http://www.atimes.com/atimes/Middle_East/MID-02-070813.html
تُرجم عن ("إيشا تايمز", 7 آب/أغسطس 2013)
الجمل
إضافة تعليق جديد