الليرة السورية بين الصمود والانهيار

21-08-2013

الليرة السورية بين الصمود والانهيار

سقطت قيمة الليرة السورية في الآونة الأخيرة بشكل كبير وسريع ومفاجئ. كيف تم ذلك؟ قد يجيب الاقتصاديون، وهم محقون، ان هذا يحصل عادة نتيجة المضاربة، والحرب الدائرة، وأخطاء البنك المركزي... إلا ان هذه التفسيرات لا تكفي، ولا تبرر الانتقال من الضعف التدريجي لليرة السورية الى انهيارها الحالي، وما سيلي مما يمكن توقعه. فما مقدار البرمجة والتخطيط، أو الحرب من نوع أخرى الدائرة على هذا الصعيد؟

عن سابق إصرار وتصميم

صمدت الليرة السورية نسبياً لمدة سنتين، أي انخفضت قيمتها تدريجيا كما تنخفض أي عملة لبلد بظروف اقتصادية وسياسية صعبة، كما حدث للبيزوس الأرجنتيني والمكسيكي في التسعينيات. إلا انه منذ بدأت الحلول السياسية تقترب (جنيف 2) وبعد أن ضعف دور قطر وتركيا، بدأت الليرة السورية تنهار بسرعة مذهلة وكأن ثمة «كلمة سر» أعطيت. ولو كان التداول بالليرة السورية محصورا بالأراضي السورية والمصارف السورية فقط، كما كان الوضع هناك منذ 10 سنوات، وكما هو حاليا في الصين وكوبا وفنزويلا... لكان من الصعب التدخل في تسعير الليرة، ولكان من الممكن منع انهيارها. إلا ان قسماً كبيراً من الليرات السورية موجود خارج البلاد وبالتحديد في لبنان والأردن والمملكة السعودية، ويتم التداول بها عبر الصيارفة. وهناك قسم آخر موجود كودائع وتسليفات في المصارف اللبنانية والعربية العاملة في سوريا، بالإضافة إلى المصارف السورية طبعاً.

آلية انهيار الليرة: المصارف

لكي تنهار عملة ما، يجب ان يزداد عرضها على طلبها بكثرة وبسرعة. فالطلب بذاته على الليرة لا يتغير كثيراً في وقت قصير. السر إذاً في ازدياد العرض بشكل مفاجئ. لم يعمد البنك المركزي السوري إلى رفع حجم الليرات بشكل مفاجئ في السوق بضخ المليارات خلال أيام قليلة، كما تفعل أحيانا المصارف المركزية، وهو ما حدث بعد 9/11/2001 في الولايات المتحدة، كما في اليابان بعد كارثة مفاعل فوكوشيما مثلا. فمن هو إذا المسؤول عن ازدياد العرض المفاجئ ؟ الجواب يكمن في المصارف، وخاصة المصارف العربية المتواجدة في سوريا، والصيارفة في الدول المجاورة.
تستطيع المصارف ان تخلق من الليرات السورية أضعاف ما هو موجود حالياً وفي وقت قليل جداً وذلك من خلال تحويل القروض المعطاة بالدولار والقطع النادر الأخرى لزبائنها، إلى قروض بالليرة السورية، بالإضافة إلى منح قروض جديدة بالليرة السورية. فيصبح التاجر أو الصناعي السوري مدينا بالعملة الوطنية بدلا من ان يكون مديناً بالدولار. وهذا يخفض اتوماتيكيا من قيمة الليرة السورية إذ يتم «خلق» مليارات من الليرات السورية وبشكل مفاجئ.
ويتم كل ذلك تحت أعين البنك المركزي السوري من دون ان يفعل شيئا، لأن كل ذلك «قانوني». ويؤدي هذا التصرف إلى انخفاض دين الزبائن من 100 دولار مثلا إلى حوالي 17 دولار، إذا اعتمدنا انخفاض سعر صرف الليرة في الآونة الأخيرة من 50 ل س/ للدولار إلى 300 ل س/للدولار. وينخفض بالتالي، وأيضا، قرض المصارف بمقدار القيمة نفسها. المستفيد إذاً هم بالتحديد المصارف والزبائن الذين استدانوا بالدولار.

كيف يدير الصيارفة العملية؟

كيف يستفيد الصيارفة من انخفاض سعر صرف الليرة؟ إذ سيصبح لديهم بالتأكيد كميات كبيرة من الليرات السورية، تزداد يوما بعد يوم، وتنخفض قيمتها بشكل ميكانيكي. فكيف يتخلص هؤلاء من هذه المشكلة؟ أي كيف يتخلصون من الليرات السورية بدون خسارة، طالما ليس هنالك شراء طبيعي لتلك الليرات! الجواب يكمن في أحد الاحتمالين: يتدخل المصرف المركزي السوري لشراء الليرات بهدف رفع قيمتها وتخفيض قيمة الدولار، وهذا يتطلب وجود مخزون كبير من الدولارات لدى البنك المركزي، وامكانية التدخل لدى الصيارفة. وقد تكون هذه التقنية مجدية لو ان الصيارفة تحت سيطرة البنك المركزي، الا ان ذلك العمل يبقى محدوداً نتيجة وجود قسم كبير من الليرات السورية خارج الحدود وخارج سيطرة الدولة. إذاً، لمن يبيع الصيارفة الفائض من الليرات السورية؟ الجواب هو لمؤسسة او دولة تستطيع ان تتحمل هذا النوع من الخسارة، أي بضعة مليارات.
لا يملك كاتب هذه المقالة أية أدلة ملموسة على وقوع هذه العملية، وإنما يستند الى تجربتين، في لبنان وفي تايلندا. في أواخر الثمانينيات، وقبل اتفاق الطائف بقليل ، بدأت المصارف اللبنانية (وخاصة منها تلك الموجودة في الخارج) بتحويل كل قروض الزبائن من الدولار والعملات الصعبة إلى الليرة اللبنانية. حدث ذلك في لبنان وخارجه، من دون ان يتمكن البنك المركزي اللبناني من التدخل، وحدث ذلك بعلم بنوك مركزية أوروبية. فنتج انخفاض هائل في الليرة اللبنانية، اذ تعدى الدولار الـ 3000 ليرة في أكتوبر 1992 بعد ان كان طويلا يدور في فلك الثلاث ليرات للدولار الواحد وذلك حتى 1982، وراح يرتفع رويدا ليصل الى بضع مئات من الليرات قبل ذلك بقليل. استفاد كل المدينين الكبار بالدولار إذ انخفض دينهم عدة أضعاف في أسابيع قليلة.
اما في تايلندا، في أواخر التسعينيات، فلقد استطاعت المحافظ الأميركية الكبيرة ان تبيع الـ « Baht» باتفاقات ثنائية خارجة عن الاسواق، تحت ستار التغطية، ما أدى إلى هبوط سريع للعملة وافلاس أكثر المصارف التايلندية آنذاك، ما أجبرها بعدئذ على فتح رأسمالها للمصارف الأجنبية.
في كلتا الحالتين، تمت «دهورة» العملة بشكل سريع، ومن الخارج، وكانت تلك هي الأرضية الصالحة لبناء نظام اقتصادي ليبرالي من نمط جديد مبني على الدين الخارجي، وهو ما سمح لقيادات جديدة آتية من الخارج (الجغرافي والسياسي) أن تشارك في السلطة، بل ان تسود فيها.

خلاصة

مهما كانت نتائج الأزمات السورية والمصرية والعراقية الخ... فالنتيجة واحدة: ديموقراطيات سقفها «الديموقراطية اللبنانية» مرهونة للخارج، مع ارتفاع ديونها إلى مستوى غير محمول، ودولرة عملتها، كما حصل للبنان ولتايلندا. إن أي إعادة رسم لخارطة المنطقة يحتاج لإضعاف الدول والتماسك الاجتماعي معاً وتسييد انتليجنسيا وطبقة سياسية من نمط جديد، ليبرالية اقتصاديا، سواء أكانت من نمط أخوان تركيا ومصر أو من صيغ أخرى.

شبل سبع

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...