تركيا في سوريا وروسيا وإيران: الاستدارة المستحيلة!
لا يختلف اثنان على ان المحاولة الانقلابية العسكرية في تركيا تركت آثارها الكبيرة على مجمل المشهد الداخلي التركي كما على سياسة تركيا الخارجية.
رغم أن التطبيع بين تركيا وروسيا بدأ قبل الانقلاب العسكري، لكن الانقلاب منحه زخماً كبيراً، بحيث لم ينتظر الرئيسان التركي رجب طيب أردوغان والروسي فلاديمير بوتين انعقاد قمة دول العشرين الاقتصادية في بكين مطلع أيلول المقبل، بل تقصد أردوغان ان يقدم موعد الزيارة إلى التاسع من آب، وان يكون اللقاء من خلال زيارة خارجية أولى بعد الإنقلاب، إلى عرين خصمه في سان بطرسبورغ.
وتلى ذلك الكلام لقاءات ثنائية عسكرية واستخبارية وسياسية بين البلدين في موسكو، ومن ثم شاع كلام عن تفاهمات وبداية مرحلة جديدة من التعاون.
ومن تداعيات الانقلاب أن العلاقات مع إيران شهدت حرارة أعلى من قبل، وتجلّت في زيارة وزير الخارجية الإيرانية محمد جواد ظريف إلى أنقرة ولقائه مع المسؤولين الأتراك.
ويروي وزير الخارجية التركي مولود جاويش اوغلو كيف انه وظريف تواصلا أكثر من أربع مرات ليلة الانقلاب للإطمئنان على الوضع، ومن أن ظريف، بالتشاور مع قيادات إيرانية، شجع نظيره على الإسراع بإنزال الناس إلى الشوارع لإفشال الإنقلاب. وتحدثت أوساط الوفد الإيراني ووسائل إعلامية عن تطورات إيجابية قريبة في سوريا.
عندما يتحدث الجميع عن تحول ما في السياسة الخارجية التركية، تكون العين حتماً على سوريا التي تحولت إلى بندٍ أول وشبه أوحد في اهتمامات حزب «العدالة والتنمية».
مع مرور الوقت تحولت سوريا إلى عبء على تركيا وأمنها واستقرارها. تفجيرات وفوضى أمنية في كل مكان. تجدد الصراع المسلح بين الدولة التركية و «حزب العمال الكردستاني». مشكلة لاجئين متفجرة في تركيا ومع الاتحاد الأوروبي. وأخيراً وليس آخراً، نشوء بنية كيان كردي في شمال سوريا.
وبسبب سوريا، كان التدهور في العلاقات التركية ـ الأميركية. خلافات حول طبيعة الدور التركي وحدوده وسقوفه، وحول دور قوات الحماية الكردية في الأزمة السورية. خلافاتٌ كانت ذروتها في حصول محاولة انقلابية فاشلة.
لا شك أن اتهام انقرة لواشنطن بأنها متورطة في الانقلاب العسكري لا يشبه أي خلاف سابق بين تركيا وأميركا، خصوصاً في ظل وجود شخصية عنيدة ومكابرة مثل أردوغان في رأس السلطة السياسية في أنقرة.
الخلاف مع أميركا بسبب المحاولة الانقلابية سيترك جرحاً عميقاً في العلاقات بين أنقرة وواشنطن، ومن غير المتوقع ان تشهد تحسناً ملحوظاً قبل انتهاء ولاية باراك اوباما، وقبل أن تتبلور السياسة الخارجية الجديدة للرئيس الجديد.
لقاءات تركيا مع روسيا وإيران انعكست سقفاً عالياً جداً من التوقعات لجهة إقامة أحلاف او تفاهمات حول القضايا الإقليمية، ولا سيما في سوريا. توقعات هي أقرب إلى التمنيات منها إلى أي شيء آخر.
ذلك ان الحديث عن تغيير جدي او استدارة في الموقف التركي تجاه سوريا والمنطقة تفترض تحكيم معايير معينة للفصل في إمكانية حدوث هذا التغيير. من هذه المعايير:
1 ـ طبيعة المشروع التركي في سوريا والمنطقة. هذا المشروع بدأ بطموح الهيمنة تحت عنوان العثمانية الجديدة، وكان مُنظّر هذه العثمانية احمد داود أوغلو المحرك الأساسي لهذا المشروع. ولأن طبيعة المشروع تفترض الهيمنة على المنطقة، فإن انكساره يعني فشله. وحتى الآن لا يتجرأ أردوغان على إعلان فشله والتصالح مع الواقع، لأن التصالح لن يكون سوى عنوان فشله وانتفاء مبرر وجوده كل تلك السنوات الماضية، فكيف بأن يبقى بعد إعلان الفشل.
وهنا نشير إلى ما عرضه رئيس وزراء تركيا بن علي يلديريم من خطة من ثلاث نقاط لحل الأزمة في سوريا، والتي لا تحمل جديداً يمكن البناء عليه سوى انه يقبل بوجود الرئيس السوري بشار الأسد مؤقتاً، على ألا يكون له مكان على المدى البعيد. وهي خطة لم تشر أبداً إلى العمل المشترك لضرب التنظيمات الإرهابية. كما أنها لا تزال تحمل تلك «السوسة» التي لم يتخل أردوغان عنها وانتقلت إلى يلديريم، وهي الاستمرار في رمي الإملاءات على الشعب السوري حول ما الذي يجب فعله وما لا يجب فعله كما لو انه شأن داخلي تركي. ولا يختلف يلديريم كثيراً إلا بالكلام الإنشائي عما كان يتكرر في عهد داود اوغلو سابقاً.
2 ـ شبكة علاقات أردوغان البنيوية مع «داعش» والمتشددين. كانت العلاقة مع التنظيمات المتطرفة ومنها «داعش» و«جبهة النصرة» إحدى ادوات أردوغان لتنفيذ مشروعه في سوريا والعراق. وكانت رعايته وحضانته لهذه التنظيمات سبباً في نشوء بيئة حاضنة لها داخل تركيا وداخل حزب «العدالة والتنمية». وأردوغان لا يزال يراهن على دور ما لهذه التنظيمات، وتجلى ذلك في معركة حلب الأخيرة والدورالمركزي لـ «الحزب الاسلامي التركستاني» (اويغور الصين). كما أن تخلي أردوغان عن هذه الرعاية ستحمل له من المخاطر المتعددة داخل تركيا ما هو ليس مضطرا له في هذه المرحلة التي لم تصل بعد إلى حد التوصل الى حل سياسي للأزمة السورية.
3 ـ لن يبادر أردوغان إلى أي خطوة جذرية او حتى نصف استدارة في ظل العلاقات التحالفية مع دول مؤثرة مثل قطر والسعودية. فأي تحولات تجاه إيران وروسيا وبالتالي انعكاسها على سوريا يحتاج أيضاً إلى تنسيق مع السعودية تحديداً. وفي ظل العلاقات المتوترة بين السعودية وإيران وانتقاد السعودية الشديد لروسيا والدور السعودي العالي في سوريا الهادف لإسقاط الرئيس السوري، فإن هذا الواقع لا يساعد على إحداث تغيير ما في الموقف التركي من سوريا ولا في الاندفاع نحو علاقة تحالفية مع ايران او روسيا.
4 ـ طبيعة العلاقات التركية ـ الأميركية. وهذا برأينا هو بيت القصيد في هذه المرحلة. فتركيا بعد الانقلاب وتوجيه الاتهام لواشنطن بحماية فتح الله غولن بل تورطها في الانقلاب، ادخل الى العلاقات الثنائية معطى جديداً غير مسبوق في تاريخ العلاقة الثنائية. معطى لا يمكن ان يقفز عنه أردوغان بسهولة، وهذا المعطى سوف يبقي العلاقات الثنائية متوترة إلى وصول رئيس أميركي جديد قد يجد حلاً لهذه المشكلة. وربما يكون وصول دونالد ترامب وتأكيده مشاركة ضباط من الاستخبارات الأميركية في الانقلاب هو ما يريده الأتراك ويتمناه أردوغان ويساعد حينها، ربما في تسليم غولن إلى تركيا. وحتى ذلك الحين، فلن تغامر تركيا في اتخاذ أي موقف تغييري جذري تجاه سوريا. فهي لا تستطيع ذلك بمفردها، وتحتاج إلى تغطية أميركية لن توفرها إدارة اوباما في انتظار الإدارة المقبلة.
5 ـ طبيعة التهديدات الاستراتيجية المحيطة بتركيا عبر التاريخ. حيث تتحدد طبيعة هذه التهديدات من خلال المحطات التاريخية والتجارب والحروب وغير ذلك من عوامل، ولا تتحدد وفق عوامل مستجدة او عابرة. من هذه الزاوية، فإن تركيا تصنف العناصر الروسية والسلافية والعربية والفارسية والكردية والأرمنية واليونانية والقبرصية على أنها تهديدات مؤكدة للهوية التركية وللأمن القومي التركي. لذا فإن أي استدارة تركية نحو هذه العناصر اليوم غير ممكنة، لأنه لا يمكن مد اليد إلى عناصر تعتبر تهديدات استراتيجية ومنها روسيا وإيران، رغم كل ما يرى أنه علاقات ممتازة لتركيا مع إيران وروسيا. والدليل على ذلك أن مجرد إسقاط طائرة روسية من قبل تركيا كاد يؤدي إلى حرب بين البلدين. بينما تورط اميركا في الإنقلاب العسكري الأخير لم يدفع أردوغان إلا إلى انتقادها ودعوتها لتسليم غولن، فلم تسحب انقرة سفراء ولم تقطع العلاقات ولم تفرض عقوبات. وذلك لأن العلاقات مع اميركا والغرب هي الاستراتيجية لتركيا من كل النواحي.
مثال آخر وذو دلالة مثيرة هو انه رغم وجود كل المبررات الأخلاقية والدينية والانسانية والقانونية والإيديولوجية لكي لا تكون إسرائيل صديقة فكيف بحليفة، فإن تركيا تنظر إلى إسرائيل على انها «ذخر استراتيجي» في مواجهة التهديدات الثابتة في المنظور التركي. ورغم كل شيء تعود تركيا إلى علاقات طبيعية واستراتيجية مع إسرائيل التي لم تغير قيد أنملة سياستها العدوانية والتوسعية ضد الشعب الفلسطيني والمنطقة. وعندما تكون إسرائيل حليفة استراتيجية لتركيا، فإن الكلام لا معنى له عن استدارة تركية، لا في اتجاه سوريا ولا إيران ولا العراق. ولا ننسى ان إسرائيل هي التي تعاونت مع اميركا لاعتقال عبد الله اوجلان عام 1999، وأن أميركا هي التي لا تزال تكبح السعي الأرمني للإعتراف بالإبادة من قبل البيت البيض. والأمثلة الأخرى كثيرة.
6 ـ واقع الوضع الداخلي في تركيا ومدى قدرة تركيا على التحرك الخارجي في ظل الانشغال الداخلي لسلطة حزب «العدالة والتنمية». فحتى الآن، لم تتضح جوانب كثيرة من الانقلاب العسكري. مَن المشاركون ومن وراؤه (عدا التهمة لفتح الله غولن الذي تحدى تركيا ان تثبت أن له نسبة واحد في المئة نصيب في الانقلاب). وسيمر وقت طويل قبل أن تستقر الدولة التركية على قدميها من جديد. فأردوغان لا يعمل فقط على ترتيب ركائز سلطته وسلطة حزبه، بل يعمل على إعادة بناء الدولة، كل الدولة. وهذه مهمة شاقة وطويلة وغير معروفة النتائج ولا سيما على صعيد بنية المؤسسة العسكرية. وليس من المتوقع ان تعمد تركيا إلى اتخاذ قرارات استراتيجية كبيرة في الخارج قبل أن تتضح ملامح صورة الوضع في الداخل التركي وهذه ستأخذ وقتاً طويلاً.
محمد نور الدين
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد