خارطة طريق دمشق وخارطة طريق باريس على الساحة اللبنانية
الجمل: في إجراء دبلوماسي أعلن وزير الخارجية السوري عن قرار سوريا إيقاف اتصالاتها الدبلوماسية مع فرنسا فيما يخص الأزمة السياسية اللبنانية، وقد فسر المراقبون هذا الإجراء بأنه جاء رداً على الإجراء المماثل الذي أعلنته السلطات الفرنسية على لسان الرئيس نيكولا ساركوزي قبل ثلاثة أيام.
* حقيقة موازين القوى في المنطقة: أبرز التساؤلات:
ما يبدو على سطح الأحداث والوقائع –في نظر الكثيرين- أن دمشق وباريس تلعبان دوراً في لبنان، ولكن ما قد لا يخطر على بال الكثيرين أيضاً أن هناك تفاوتاً كبيراً بين دور دمشق ودور باريس، وعلى وجه الخصوص في ظل وعلى خلفية انقلاب موازين القوى التالية:
• ميزان القوى داخل لبنان.
• ميزان القوى الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط.
• ميزان القوى العالمي فيما يتعلق بالنظام الدولي الراهن.
بالنسبة لميزان القوى اللبناني الداخلي، فقد صعدت قوى وأطراف لبنانية جديدة إلى الساحة، بينما هبطت بالمقابل قوى وأطراف أخرى بحيث أصبح تأثيرها هامشياً بعد أن كان رئيسياً نافذاً، والفرق في هذه الجانب بين دمشق وباريس هو أن دمشق تراهن على القوى والأطراف الصاعدة بينما باريس ما زالت تراهن على القوى والأطراف الهابطة التي تآكلت مبررات وجودها بفعل التطورات المحلية والإقليمية والدولية.
أما بالنسبة لميزان القوى الإقليمي الخاص بمنطقة الشرق الأوسط، فقد أدى مجرى الصراع، خصوصاً خلال الفترة التي أعقبت هزيمة الجيش الإسرائيلي في جنوب لبنان على يد رجال حزب الله اللبناني صيف العام 2006م، إلى عملية فرز واستقطاب واسعة في المنطقة أدت إلى إعادة ترتيب خارطة التحالفات الإقليمية ضمت هيكلية جديدة:
• محور الاستقلال القومي والوطني الذي يضم سوريا وبقية الدول والحركات الرافضة للمشروع الأمريكي – الإسرائيلي.
• محور المعتدلين العرب الذي يضم حكومات مصر والأردن وحكومة السنيورة وقوى 14 آذار إضافة إلى السلطة الفلسطينية وحركة فتح اللتان أصبحتا أكثر تردداً إزاء الاستمرار في هذا المحور.
وبرغم محاولة التخفي خلف عباءة "الذرائعية السياسية" فقد كان واضحاً للغاية أن الرئيس الفرنسي، حليف إسرائيل والمعادي للعرب (خاصة خلال فترة توليه منصب وزير الداخلية في حكومة شيراك الماضية)، سوف تسقط ورقة التوت يوماً ما، ويظهر وجهه الحقيقي. بكلمات أخرى، سوف يتبين مدى انخراط ساركوزي في دعم وإسناد المشروع الأمريكي – الإسرائيلي، ومن ثم، وتحديداً بالنسبة للحالة اللبنانية فإن توجهات باريس التي تراهن على إضعاف محور الاستقلال الوطني والقومي وتعزيز محور المعتدلين العرب، خاصة حكومة السنيورة وقوى 14 آذار، للقيام بدور رئيسي في تفعيل المشروع الأمريكي – الإسرائيلي إزاء الشرق الأوسط ولبنان. هذه التوجهات أصبح الطريق أمامها مغلقاً بسبب من طاقة الرفض السياسي الكامنة في الشارع العربي، والتي لولاها لما توقفت مسيرة القوات الأمريكية في بغداد، التي كانت افتراضاً تمثل المحطة الأولى في مسيرة الشرق الأوسط الجديد التي كسرتها نتائج الحرب في جنوب لبنان صيف عام 2006م.
أما ميزان القوى العالمي الخاص بالنظام الدولي الراهن، فإن الأمر وإن كان الخوض فيه ينطوي على الكثير من التعقيدات فإنه من الممكن أن نشير إلى بعض المسائل المتعلقة بالمفاضلة والمعايرة بين أطراف محور باريس - واشنطن، وتأثير كل طرف منهما على منطقة الشرق الأوسط وتحديداً لبنان باعتباره المعني بقطيعة دمشق – باريس.
* فيما يتعلق بالأبعاد "البنائية" لمحور باريس – دمشق:
* على أساس القدرات البنائية لقوة الدولة، فإن واشنطن تتفوق على باريس اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً وديموغرافياً وتكنولوجياً.
* على أساس المؤسساتية الدولية فإن واشنطن تتفوق على باريس بالتواجد والحضور في كافة المناطق الإقليمية ودون الإقليمية.
* فيما يتعلق بالأبعاد "القيمية" لمحور باريس – واشنطن:
* تتبنى واشنطن مشروع القرن الأمريكي الجديد، ضمن منظور حشد القوى والموارد على النحو الذي يؤدي إلى تثبيت وفرض الهيمنة الأمريكية على النظام الدولي، أما باريس فليس لديها أي مشروع "عالمي".
* تتبنى واشنطن مشروع تعزيز السيطرة على أوروبا عن طريق "توثيق" أوروبا بحبال علاقات عبر الأطلنطي، وكانت النزعة الاستقلالية الفرنسية – الألمانية تشكل عائقاً أمام ذلك. وبالنسبة لألمانيا فإن واشنطن ما زالت تقيدها بعد هزيمتها في الحرب العالمية الثانية، أما باريس فقد اقتنع الفرنسيون بعدم جدوى هذه الاستقلالية بدليل أنهم صوتوا لصالح المرشح الرئاسي ساركوزي وأوصلوه إلى قصر الإيليزيه ليقوم بإكمال القضاء على النزعة الاستقلالية الفرنسية وإكمال تتبيع باريس لواشنطن.
* فيما يتعلق بالأبعاد "التفاعلية" لمحور باريس – واشنطن:
* تطبق واشنطن منظور الجمع بين عنصري التعاون والصراع في العلاقات الدولية التي تقول بأن العلاقات، أي علاقات، هي إما علاقات تعاون أو علاقات صراع، وقد بدأت واشنطن في فترة ما بعد 11 أيلول في استخدام الضربة الاستباقية من أجل القضاء على علاقات التعاون وإدماجها ضمن علاقات الصراع. بكلمات أخرى، الصراع الفرنسي – الأمريكي الذي برز في مرحلة ما قبل غزو واحتلال العراق تم إدماجه ضمن التعاون الفرنسي – الأمريكي ولكن حصراً ضمن المنظور الأمريكي وقد ترتب على ذلك أن بدأت باريس بعد صعود ساركوزي تعمل على تحويل تعاون دمشق – باريس إلى صراع، وبرغم أن هذا التحول قد بدأ منذ لحظة قيام الرئيس الفرنسي شيراك بدعم القرار الدولي 1559، فإن ساركوزي يحاول إكمال المهمة بتصعيد الصراع أكثر فأكثر في علاقات دمشق – باريس، وعلى ما يبدو فإن ساركوزي قد اختار أو بالأحرى حددت له واشنطن أن يكون لبنان هو ساحة المواجهة الأولى مع دمشق.
* الساحة اللبنانية: "خارطة طريق دمشق" و"خارطة طريق باريس":
تتميز دمشق بالاستقلالية في خارطة طريقها في الساحة اللبنانية، وذلك بعكس باريس التي لم تفقد استقلاليتها النسبية التي كانت تتمتع بها خلال فترة شيراك وإنما فقدتها تماماً لصالح محور واشنطن – تل أبيب بعد صعود ساركوزي إلى قصر الإيليزيه بدليل أن دمشق تفاجأت تماماً بموقف باريس لأنه، وبحسب ما ورد على لسان وليد المعلم وزير الخارجية السوري، فإن دهشة دمشق كانت بسبب أن قرار ساركوزي قد جاء بعد يومين فقط من اتفاق دمشق وباريس على التعاون بينهما لحل الأزمة اللبنانية وعلى ما يبدو فإن التصرف الفرنسي المفاجئ حدث بسبب عدم موافقة محور تل أبيب – واشنطن على بنود هذا الاتفاق، لأن استقرار لبنان هو الهدف غير الحقيقي المعلن لمحور واشنطن – تل أبيب، أما الهدف الحقيقي غير المعلن فهو عدم استقرار لبنان، وبالتالي فإن إي اتفاقيات أو تفاهمات تتوصل إليها باريس إزاء الأزمة اللبنانية يجب أن تندرج ضمن مسار هدف عدم استقرار لبنان لجهة التأثير سلباً على استقرار سوريا والمنطقة بشكل عام، بما يؤدي بعد ذلك إلى نشوء ثلاثة دوائر للاضطراب الإقليمي: دائرة الاضطراب السوري، دائرة الاضطراب العراقي ودائرة الاضطراب اللبناني، ثم العمل بعد ذلك على تجميعها ضمن دائرة الاضطراب الشرق أوسطي الموحدة.
هذا بالنسبة لحقيقة خارطة طريق باريس إزاء الساحة اللبنانية أما بالنسبة لخارطة دمشق فإنها تقوم على أساس اعتبارات تحقيق الأهداف التالية:
• تعزيز التوافق اللبناني – اللبناني.
• حماية تماسك لبنان الداخلي.
• حماية أمن وسلامة لبنان.
• حرمان إسرائيل من التغلغل داخل لبنان وتوظيف المزايا التي تحصل عليها في الساحة اللبنانية في تهديد أمن واستقرار سوريا.
• عدم التدخل في استقلالية القرار الوطني اللبناني.
• رفض الوصاية الأجنبية على لبنان.
• الاستمرار في مساعدة لبنان اقتصادياً واجتماعياً.
• الحفاظ على استقرار العلاقات السورية – اللبنانية التاريخية.
عموماً، المطلوب فرنسياً من الناحية المعلنة وإسرائيلياً – أمريكياً من الناحية غير المعلنة هو توظيف سوريا من أجل القيام بدعم وإسناد عملية دفع لبنان باتجاه الفوضى. بكلمات أخرى:
• كانت سوريا تحمي استقرار لبنان وقد تم الضغط عليها بواسطة مجلس الأمن الدولي وأمريكا وفرنسا وحلفاءهما اللبنانيين (قوى 14 آذار) لكي تخرج من لبنان.
• خرجت سوريا من لبنان.
• بدأت واشنطن وباريس وتل أبيب تنفيذ مخطط عدم استقرار لبنان.
• تزايدت المصاعب والعراقيل أمام واشنطن وباريس وتل أبيب في تنفيذ المخطط وأيقنوا بعد م القدرة والعجز.
بعد ذلك، ما العمل؟ أتت الإجابة المعلنة على لسان ساركوزي في ضيافة الرئيس حسني مبارك أحد زعماء المعتدلين العرب ليقول الجانب المعلن وهو أن تكف سوريا عن التدخل في لبنان. أما الجانب غير المعلن فقد كشفه وزير الخارجية السوري عندما صرح قائلاً "لقد طلبوا منّا بأن لا نتدخل في لبنان وفي نفس الوقت يطلبون منّا أن نتدخل في لبنان للضغط على حلفائنا اللبنانيين" وذلك بالطبع لكي يوافقوا على شروط خصومنا اللبنانيين من أصدقاء وحلفاء محور واشنطن – باريس – تل أبيب الهادف إلى تقويض استقرار لبنان ونقل العدوى إلى سوريا!!
الجمل: قسم الدراسات والترجمة
إضافة تعليق جديد