سوريا خارج التغيير التركي: العبث بالديموغرافيا والجغرافيا
لن تحيد سوريا من أن تكون بوصلة السياسة الخارجية التركية. فهي المعيار لسبر احتمالات ثبات هذه السياسة من تغييرها. ومهما تحّركت الديبلوماسية التركية في اتجاه إسرائيل، وهو تحركٌ يدينها أكثر من كونه يحقق لها مكاسب، أو في اتجاه روسيا، فإن العقل التركي مبرمجٌ على الحاسوب السوري دون غيره.
مجرد أن تسقط كل عناوين الحرب التركية على سوريا، فهذا كافٍ على أن هذه السياسة فشلت. فلا الرئيس بشار الأسد سقط، ولا المنطقة الآمنة تحققت، وأزمة اللاجئين خلقت مشكلات كثيرة لتركيا، والأمن في الداخل التركي مضطرب بسبب الحرب في سوريا.
وتتدرج الأولويات التي يعددها المراقبون من تطبيع العلاقات مع اسرائيل ثم مع روسيا، ثم تأتي مصر في المرتبة الثالثة، ومن بعدها سوريا.
التطبيع مع مصر يحتاج إلى اعتراف تركي بشرعية نظام عبد الفتاح السيسي، وإلى ثمن يدفعه أردوغان بوقف نشاط حركة «الإخوان المسلمين» المصرية على الأراضي التركية، حيث هناك وسائل إعلام إخوانية تبث من تركيا ومكاتب مختلفة لهم. الإشارات التركية لا تشجع كثيراً على إحداث خرق في العلاقات الثنائية. السعودية تسعى حثيثةً لذلك، لكن الموقف المصري لا يزال يقاوم الإغراءات الخليجية. وفي لحظة يكّف فيها أردوغان عن رفع إشارة رابعة بأصابعه الأربعة، يمكن القول حينها ان العد العكسي قد بدأ. لكن أردوغان لا يزال يرفع هذه الإشارة ويلّوح بها منتظراً ظهور نتائج ملموسة من التطبيع مع اسرائيل وروسيا وحينها لا يعود مستعجلاً التطبيع مع مصر إلا بتنازلات محدودة.
لكن بيت القصيد هو في المحطة الرابعة من سلّم الأولويات. الجميع يتحدث في تركيا عما إذا كان دور سوريا قد حان في إطار التغييرات في السياسة التركية الجديدة. وفي هذا السياق، ظهرت الكثير من الشائعات، أكثرها طرافةً وسذاجةً ان الرئيس التركي اتصل بالرئيس الأسد. يمكن أن يبلع أردوغان الضغوط للتطبيع مع اسرائيل وحاجة تركيا لإسرائيل التي هي في النهاية حليف عتيق لتركيا. ويمكن ان يتنازل ويعلن لبوتين اعتذاره (الأتراك يصرون على أنه أبدى أسفه لا اعتذاره، فيما الروس وحدهم هم الذين قالوا إنه اعتذر) لأنه بحاجة ماسة لعودة السياح الروس ورفع العقوبات الاقتصادية الروسية عن تركيا. ونجح فعلاً في ذلك من دون تنازلات كبيرة.
كما يمكن أن يتراجع أردوغان عن انتقاداته للسيسي، مغلباً الاعتبارات المذهبية والمونة السعودية والتمني الاسرائيلي الشريك المشترك لتركيا ومصر. لكن الموقف من سوريا لن يتغير إلا في حال إعلان الهزيمة الكاملة والرسمية لتركيا. لن تغير تركيا سياستها في سوريا إلا بالقوة، وعندما يندحر المشروع التركي نهائياً على الأرض في سوريا. والاحتمال مستبعد امام الخرق الذي يراهن الروس على إحداثه في السياسة الخارجية التركية في سوريا.
أنقرة لا تزال تراهن على إمكانية الإطاحة بالأسد. مجرد بقاء الأسد في السلطة هو رمز لهزيمة أردوغان ومشروعه. لذا لا يزال أردوغان يصارع طواحين الهواء علّه ينجح في خلع غريمه حرباً أو سلماً.
مساء السبت الماضي، أفطر أردوغان في مدينة كيليس الحدودية. وخطابه في الإفطار كان مؤشراً على توجهات سياسية تركية خارجية وداخلية.
لم يتغير خطابه حرفاً واحداً. وصف الأسد بالظالم والقاتل، وقال: «إنه ارهابي أكثر من ارهابيي حزب الاتحاد الديموقراطي وأكثر من ارهابيي داعش. وهو سيدفع الثمن باهظاً جداً سواء في هذا العالم او عالم الأبدية لأن هناك الكثير من آهات المظلومين تنتظره». ولا يقتصر الأمر على الرئيس التركي، بل يتعداه إلى رئيس الحكومة بن علي يلديريم الذي أطلق شعار «أصدقاء أكثر أعداء أقل». إذ قال إنه «لا اتصالات مع دمشق قبل إنهاء الظلم هناك».
ولا يقتصر الأمر على الخطابات، بل إن تركيا لا تزال منذ وقف النار تدفع بدعمها للمعارضة السورية إلى حدّه الأقصى من المسلحين والأسلحة سواء من منطقة إعزاز او من منطقة ادلب وجسر الشغور وعملت على هجمات مضادة في ريف اللاذقية الشمالي. كل هذا في وقت كانت الأوساط تنشغل بما يقال عن تغيير في السياسة الخارجية التركية بحيث لا يمكن أن تكون سوريا خارج المعادلة الجديدة.
من هذه الزاوية، فإن الانفتاح التركي على اسرائيل وروسيا وربما مصر لاحقاً، على كل أهميته الاستراتيجية لتركيا، فإنه مجرد تكتيك لتكثيف الضغوط على دمشق وتخفيف الضغوط عن تركيا. وإذا كانت اسرائيل حليفاً بديهياً لأنقرة، فإن روسيا كما مصر يفترض أن تحولا دون تمرير هذا التضليل، الذي لن يوفرهما في حال نجحت الخطة التركية في سوريا من وراء هذه الانفتاحات وهي التخلص من الأسد ومن نظامه، وتلقائياً من حلفائه الإيرانيين و «حزب الله».
وحتى لا يقع القارئ أيضاً في التضليل، فإن القول بأن عزل أحمد داود اوغلو كان توطئة لتغيير سياسات خارجية تركية ليس صحيحاً. فاتفاق التطبيع مع إسرائيل كان عرف تقدمه الكبير وبات شبه ناجز للتوقيع قبل عزل داود أوغلو، كذلك ففي العلاقة مع روسيا كان أردوغان هو في أساس التوتر. والرئيس الروسي فلاديمير بوتين لم يشر أبداً إلى داود أوغلو، بل كان يتهم أردوغان شخصياً ويعتبر أنه هو وليس داود اوغلو قد طعن روسيا قي ظهرها. كما من نافل القول ان أردوغان وإن كان يستفيد من أفكار داود اوغلو، لكنه كان الآمر الناهي والمقرر لكل سياسات تركيا الخارجية. والكل ينظر إلى عزل داود أوغلو على انه محطة من أجل ترسيخ النظام الرئاسي وهو ما حصل وليس من أجل تغييرات في السياسة الخارجية.
لم يقف عداء أردوغان للأسد عند هذا الحد، بل تجاوزه إلى إظهار العداء لكل سوريا. أمس الأول كان أردوغان قبل سفره الى وارسو للمشاركة في قمة دول حلف شمال الأطلسي، يطلق مواقف بالغة الخطورة وتعكس النوايا الحقيقية للنظام التركي. وعلى قاعدة «اليد التي لا تقدر عليها أدع لها بالكسر»، كان أردوغان ينطلق من أنه إذا لم تستطع الهيمنة على سوريا وإسقاط النظام، فاعمل على تخريبها وتدميرها وتفتيتها وصولاً إلى محو سوريا بالكامل عن الخريطة. فقد قال إن سوريا «بلد يتجه نحو الزوال من الخريطة».
إن نظرية أن تركيا تعارض تقسيم سوريا او العراق قد لا تكون دقيقة. فالبلد الذي يريد الحفاظ على وحدة جاره لا يتجاوز شرعية الحكومة المركزية كما حدث خلال زيارة داود اوغلو قبل سنوات الى كركوك. ولا يعمل على انتهاك السيادة واتمام صفقات نفطية مع أربيل من دون موافقة حكومة بغداد المركزية. ولا يعمل على شقّ صف الجيش السوري لينشئ ما يسمى بالجيش الحر. ولا يمعن فتكاً باقتصاد سوريا نهباً لمصانعها وبيعاً لآثارها وسرقة وشراء لنفط يستخرجه أكبر تنظيم ارهابي عرفه العصر الحديث. ولا يفتح حدوده لعشرات آلاف الارهابيين من كل العالم ولا يميز بين السوريين على أساس مذهبي واتني.
إن تركيا التي انكسر مشروعها عند أسوار حلب في محاولة فاشلة لتكرار مرج دابق لن يضيرها وفق النظرة الضيقة ان تتقسم سوريا الى دويلات تعتقد أنقرة أنها ستكون هي المهيمنة الأقوى والأكبر في ظل هذا الحجم من الدويلات التي تتمنى ان تؤول اليها. ليس من تفسير آخر لكلام أردوغان الذي بمواقفه هذه يعلن أن «الانفتاح» التركي على روسيا واسرائيل لا محل له من الإعراب في سوريا ولا في العراق ولا حتى مع إيران.
موقف آخر بالغ الأهمية والدلالة، ويعكس الشخصية الميكيافيللية لأردوغان المستعد لسلوك كل الطرق للتخلص من الأسد كذلك اتباع أي أسلوب من أجل ترسيخ سلطته الفردية من جهة وترجمة نزعته المذهبية والإتنية من جهة أخرى، ولو كان الثمن تخريب البنية الاجتماعية لتركيا.
إنه التجنيس والتوطين الذي رفعه أردوغان شعاراً جديداً في إفطار كيليس. تجنيس وتوطين اللاجئين السوريين الذين لجأوا الى تركيا هرباً او ترغيباً. كان يمكن توقع أي شيء إلا ان يقترح أردوغان توطين اللاجئين السوريين في بلد يعد ثمانين مليوناً، وليس بحاجة لهم وسط بطالة عالية لزيادة العدد.
لقد استغل أردوغان ورقة اللاجئين منذ اللحظة الأولى لنشوب الأزمة في سوريا. فتح المعسكرات وجهزها قبل أن يكون هناك أي لاجئ سوري، وقبل أن تكون معارك على امتداد الحدود التركية – السورية. اليوم وبعد خمس سنوات ونيف، يستخدم أردوغان هذه الورقة الانسانية في كل الاتجاهات وآخرها للضغط على أوروبا.
ويعد اللاجئون السوريون في تركيا رسمياً حوالي مليونين و800 ألف لاجئ. والبعض يرفعه الى اربعة ملايين، وهم من اعمار متفاوتة بطبيعة الحال.
ليس هناك من أي سبب يدعو الى خيار التوطين. فهذا من جهة سلبٌ للشعور القومي والوطني لسوريين اضطرتهم ظروف الحرب للنزوح. وأردوغان نفسه كان قال سابقاً إنه عندما تنتفي ظروف نزوحهم سيعودون كلهم إلى بلادهم. وتركيا بسبب فتح حدودها امام الجماعات المسلحة من كل العالم ساهمت بقوة في استمرار الحرب وفي مواصلة تهجير السوريين من منازلهم وسكناهم، وتدميرها حتى لا يعودوا إليها. وإذا كانت تركيا تريد حل أزمة اللاجئين، فليس أسهل من أن تغلق حدودها أمام الارهابيين ليحل السلام في سوريا.
ليس من أي مبرر علمي ومنطقي بل انساني لتوطين اللاجئين في تركيا. لكن الأهداف الحقيقية مكشوفة في تركيا والجميع يرونها:
1- منذ بداية الأزمة السورية منحت تركيا الجنسية للعديد من السوريين يقدر بخمسة آلاف بداية لكتلة من اللاجئين من ذوي الانتماء المذهبي السني. وكان الهدف توطينهم في لواء الاسكندرون من أجل البدء بإحداث توازن ديموغرافي مع الوجود العلوي في اللواء السليب. وقد أثار نواب حزب الشعب الجمهوري مرات عدة هذا الأمر علناً وفي وسائل الاعلام.
2- التغيير المذهبي في البنية الاجتماعية لتركيا هدفٌ دائم لحزب «العدالة والتنمية» الذي لم يجد مكاناً لإسكان اللاجئين السوريين الذين اعادتهم اوروبا سوى مناطق تتواجد فيها غالبية علوية في وسط الأناضول.
3- إن غالبية اللاجئين السوريين هم من الإتنية العربية. وأن غالبية هؤلاء موجودون في مناطق ومدن محاذية للحدود السورية مثل شانلي أورفة وغازي عينتاب والاسكندرون. ويهدف الأتراك إلى ان يشكل العنصر العربي عنصراً مخلاً بالتوازنات حيث توجد غالبية كردية. فرغم عمليات صهر العرب ومحو هويتهم، فإن أردوغان لا يتورع عن استخدامهم إشباعاً لفوبيا العداء للأكراد.
4- إن الراشدين من اللاجئين السوريين يقاربون المليون و800 ألف. والكل في تركيا يتحدث عن ان توطين اللاجئين يعني دخول مليون و800 ألف صوت صاف الى صندوق الاقتراع الخاص بـ «العدالة والتنمية».
لكن الهدف الأردوغاني أضيق من ذلك ويتعلق به شخصياً. فهولاء سيصبون له في حال إجراء استفتاء على النظام الرئاسي ويشكلون نسبة مئوية تقارب الأربعة في المئة كافية لتغيير النتائج.
بطبيعة الحال إن تجنيس اللاجئين السوريين يحظى بمعارضة واسعة، حتى من قبل قواعد حزب «العدالة والتنمية»، حيث تشير الاستطلاعات الى معارضة الغالبية لذلك. وحتى لا يمرر أردوغان هذا المشروع الشيطاني، فإن المعارضة تطالب منذ الآن بإجراء استفتاء على ذلك مع يقين مطلق ان احداً من الأتراك سوى أردوغان لا يريد ذلك.
يلعب النظام التركي بالنار في كل الاتجــاهات مراهناً على أن ذاكرة النــاس في هذه المنــطقة ضعيفة وأنها ستــنسى. لكن عدالة التاريخ ستلاحق الجناة عاجلاً ام آجلاً.
محمد نور الدين
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد