ضم لبنان إلى مشروع فلسطين والعراق
إن أول ما يجب أن يحسم في تقدير الموقف حول العدوان الإسرائيلي على لبنان هو إسقاط النظرية التي تعتبره ردا على أسر الجنديين الإسرائيليين في معركة "الوعد الصادق" التي شنتها المقاومة الإسلامية في جنوب لبنان.
فقد تبين من حجم الهجوم الإسرائيلي وطول أمده واتساع أهدافه التي شملت لبنان كله، وكما تبين كذلك من الموقف الأميركي الداعم للعدوان والرافض لوقف إطلاق النار قبل أن يحقق الجيش الإسرائيلي أهدافه، أن أسر الجنديين مجرد ذريعة استخدمت لتغطية ما أعد له وبيت، مع هجوم واسع كما ترجم عمليا، لأن شروط وقف إطلاق النار تفضح ذلك أيضا.
وهنالك بالطبع أدلة أخرى على أن قرار الهجوم العسكري الجاري على لبنان كله متخذ وقد أعد له منذ مدة، وكان التنفيذ مسألة وقت ومناسبة.
ويجب أن لا يغفل هنا أنه كان مؤجلاً إلى حين رد إيران على العرض الأوروبي الأميركي بخصوص وقف التخصيب النووي قبل البدء بأية مفاوضات.
ومن هنا لم يكن من قبيل المصادفة أن يبدأ شن العدوان الإسرائيلي فور انتهاء اللقاء الإيراني الأوروبي في بروكسل.
صحيح أن عدم إعطاء الذرائع في إدارة الصراع مسألة ضرورية عموما، وكان حزب الله يراعيها دائما، ولكن إعطاء الذريعة لا يجوز أن يتحول إلى سبب أو وهم بأن عدم إعطائها يغلق الباب في وجه العدوان.
فهنالك مثلاً وفي جنوب لبنان على التحديد، مرت عدة مناسبات بمستوى عملية "الوعد الصادق" لم توصل إلى حد شن حرب واسعة النطاق مثل التي شهدناها منذ 13/7/2006.
والذين اعتبروا أن مسؤولية اندلاع هذا الهجوم تقع على عاتق حزب الله في لبنان وحماس في فلسطين إنما أسقطوا من حسابهم ما يقوم به الاحتلال الإسرائيلي ومن ورائه السياسات الأميركية في فلسطين ولبنان.
ومن ثم فإن اتساع عمل العدوان على قطاع غزة كما على لبنان إثر عمليتي الأسر جاء تتويجا لممارسات وسياسات إسرائيلية أميركية، وليس مجرد ردة فعل على عمل "مغامر"، علما أن أسر الجندي في قطاع غزة والجنديين في جنوبي لبنان هما بالتأكيد ضمن سياق المقاومة.
فإذا كانت مقاومة الاحتلال مشروعة فليس من الممكن اعتبار عملية عسكرية بحتة ومحدودة جداً عملاً مغامراً أو خارجاً عن السياق العام للمقاومة.
وعلى أية حال فإن مجريات العدوان وما وضع له من أهداف ضد حماس وحزب الله يحسم الموضوع من الناحية النظرية، ويسقط مقولة تحميل حماس وحزب الله مسؤولية تلك المجريات.
وقد اتجهت الصحافة الإسرائيلية إلى القول إن المواقف الرسمية العربية الرئيسية اختلفت هذه المرة عن مواقفها السابقة في كل الحالات المشابهة، وبعضها اعتبرها غطاء إلى جانب الغطاء الدولي للعدوان بالحجم الذي اتخذه.
وبالمناسبة لم تشن حرب عدوان إسرائيلية منذ 1948 حتى اليوم إلا واحتجت بذريعة لتسويغ البدء فيها.
ولكن لم يسبق للموقف العربي أن اعتبر ما اتخذ ذريعة للعدوان سببا مقبولا له، أو حمله مسؤولية النتائج المترتبة، فهذا لم يحدث في حرب 48/49 ولا عدوان 1965 ولا في 1967 ولا في 1982، أو ما بين ذلك من اعتداءات إسرائيلية بما يضع تلك المواقف العربية أمام سؤال يدور حول ما آلت إليه السياسات العربية في هذه المرحلة، وما قد يترتب على ذلك من نتائج وخيمة على الوضع العربي كله، بما في ذلك أصحابها أنفسهم.
والسبب أن هذه السياسات من غير الممكن أن تكون مقبولة لدى شعوب المنطقة، ولا حتى من قبل قوى داخل الأوساط الحاكمة فيها نفسها.
ولهذا فإنه من المتوقع أن تبدأ تلك المواقف بالتوازن أمام تفاقم العدوان وانكشاف أبعاده الحقيقية، فهي غير قادرة، وليس في مصلحتها أن تستمر على موقفها الأول.
وهي تعلم أن الموقف العربي لو جاء قوياً وصريحا ضد العدوان وفي نصرة لبنان وفلسطين لما خرج ذلك البيان الإسرائيلي على لسان مجموعة الدول الثماني الصناعية من بطرسبرغ في 16/7/2006 الذي سيطيل العدوان على قطاع غزة ولبنان أسبوعاً آخر أو أسبوعين أو أكثر.
إن بيان مجموعة الدول الثماني وهزال البيان الصادر عن مجلس الجامعة العربية اعتبر من وجهة النظر الإسرائيلية أنهما يسمحان كما أعلن رسميا في صبيحة 18/7/2006 بإمكان استمرار الجيش الإسرائيلي في عمليته ضد لبنان أسبوعا آخر على الأقل. وقد قيل علنا إن الجيش الإسرائيلي لا يتعرض لضغوط دولية ولا عربية كما كانت الحال في السابق.
صحيح أن مواقف مجموعة الدول الثماني ليست في حقيقتها متفقة كما عبر عن ذلك بيانها، لأن إدارة بوش دفعت ثمن صدور هذا البيان لروسيا وحتى لفرنسا وإيطاليا على تلك الصورة التي تضمنت كل الشروط الإسرائيلية، واقتصرت بطلب مراعاة عدم الإفراط من إسرائيل حرصا على مصالحها، وليس حرصا على الفلسطينيين واللبنانيين، ولا على مشاعر عشرات الملايين من العرب والمسلمين والرأي العام العالمي.
ولهذا فإن هذا البيان يجب أن لا يكون له تأثير معنوي في الموقف الفلسطيني أو اللبناني أو العربي والإسلامي، إذ سرعان ما ستبرز الاختلافات في مواقف الدول الكبرى.
فحتى تصريح رئيس وزراء فرنسا دوفيلبان بعد يوم واحد جاء مطالبا بهدنة فورية لأسباب إنسانية، فيما ذهب بيان الدول الثماني إلى ربط وقف إطلاق النار بتلبية الشروط، في حين فشل مجلس الأمن في المطالبة بوقف إطلاق النار أصلا.
لهذا فإنه من الضروري عقد القمة العربية المقترحة وصدور بيان قوي في إدانة العدوان، وشجب تأييده الأعمى من بعض الدول، وعلى التحديد الولايات المتحدة الأميركية التي يجب أن تذكر بالاسم، لا تحت تسمية "بعض" ما دامت قد أعلنت صراحة أن الحرب يجب أن تستمر إلى أن يحقق الجيش الإسرائيلي أهدافه، مما يعني أنها طرف معلن في تلك الحرب.
إن صدور مثل هذا البيان عن القمة العربية سيغير في المعادلة إذ لا ينبغي أن يسمح لإسرائيل بأن تجني مكاسب من وراء ما ارتكبته بحق لبنان شعبا ودولة من تدمير وجرائم حرب.
فقد اتجهت خطتها في أسبوعها الأول إلى أن تحارب حزب الله نصف حرب بدليل سقوط أربعة شهداء منه حتى 18/7/2006، وأن تحارب لبنان بلا استثناء حرباً كاملة بدليل ضرب البنى التحتية والحصار المطبق والتدمير في الضاحية وجونية وجبيل وبيروت ومواقع الجيش مثلا.
وهذا الأمر لا يترك مجلا للشك في أن لبنان كله أدخل في المشروع الذي أدخل فيه العراق وفلسطين من قبل حين استهدفت الدولة أو السلطة من حيث أتى. وهذا وذاك ليسا ببعيدين عما يهيأ للسودان والصومال فضلا عن سوريا وإيران ومن ثم كل الدول العربية. ولا يجوز لأحد أن يضع رأسه في الرمال مهما اتسعت الابتسامة الأميركية أو الإسرائيلية له الآن، أي مؤقتا.
حقيقة السياسة وحقيقة الإستراتيجية تقرآن من خلال الممارسة وما يجري على أرض الواقع، وليس من خلال ما يعلن من تصريحات أو يقدم من طمأنة أو من خلال الذرائع التي تتخفى وراءها الأهداف الحقيقية.
إلى هنا يمكن التوقف لتقويم الوضع عسكريا، فحتى صباح 18/7/2006 فإن أول ما يلفت الانتباه هو أن اتجاه العمليات العسكرية الإسرائيلية اعتمد اعتمادا كليا على النيران من دون الحركة التكتيكية للقوات. وتركز على الأهداف المدنية وأساسا الجسور والمعابر والطرقات وتقطيعها والموانئ والمطار ومحطات بيع النفط، فضلا عن ضرب الأحياء والقرى وتسوية بعض العمارات السكنية بالأرض.
وبديهي من الناحية العسكرية أن الاعتماد على النيران في استهداف المدنيين ووسائط معيشتهم وتنقلهم وسكناهم دون الحركة التكتيكية للقوات البرية أو البحرية أو الجوية يعتبر من الغباء العسكري الذي لا يمكن أن يكسب حربا، وهو بالمناسبة مخالف لتقاليد الجيش الإسرائيلي تاريخيا.
وقد كان من الممكن أن تتحقق هزيمة مؤكدة لمثل هذه الخطة لولا ضعف الموقف العربي الجماعي الرسمي ولولا الانحياز الدولي لتغطية العدوان وعدم الالتفات إلى الضحايا المدنيين الفلسطينيين واللبنانيين.
ومع ذلك فإن اقتصار الخطة على هذا الاتجاه والإمعان فيه، ومن ثم عدم التحول إلى الاجتياح البري سوف ينتهي بالفشل رغم العاملين آنفي الذكر، لأنهما غير قابلين للاستمرار مع الأسبوع الثاني أو الثالث للعدوان.
إن هذه الخطة المعتمدة على النيران والتدمير وإرهاب المجتمع والدولة لا يمكن أن تنجح مع تصميم حزب الله على المواجهة، ومع الصمود الشعبي عموما وعدم تلبية الشروط حتى بالنسبة لأكثر القوى اعتدالا أو ابتعادا من حزب الله.
من يراقب الخطة المقابلة التي يواجه بها حزب الله العدوان الإسرائيلي يلحظ أنها تتسم بالشجاعة ورباطة الجأش من جهة، مع الرد المدروس والمؤثر في العمق الذي وصل العفولة مارا بنهاريا وصفد وعكا وحيفا.
ولكن مع الاحتفاظ بالإمكانات والقوى الرئيسية باليد كما يقولون في علم الحرب وذلك بانتظار انجلاء الخطة الإسرائيلية تماماً وعلى التحديد هل ستستخدم الاجتياح من خلال القوات البرية جزئيا بحدود عشرة إلى عشرين كيلومترا أو أبعد من ذلك من جهة أخرى.
وبالمناسبة، لقد حقق حزب الله عندما لم يرم بكل ثقله في المعركة ووضع سقفا متحركا على ضوء السقف الإسرائيلي أو قريبا منه أول معادلة للعبة الجديدة، بتحييد محطات الكهرباء الرئيسية في لبنان مقابل عدم ضرب مراكز تكرير النفط في حيفا.
وهذا معنى البيان الإسرائيلي الرسمي الذي حذر من ضرب تلك المراكز في حيفا وإلا سيضرب كل محطات الكهرباء الرئيسية في لبنان.
وبهذا يكون حزب الله قد احتفظ بدوره بزمام المبادرة حتى الآن متهيئا لمواجهة تطورات الخطوة الإسرائيلية التالية إذا ما عاد الربط بين النيران وحركة القوات على الأرض.
ومن هنا فإن أبعاد الحرب من ناحية العمل العسكري ما زالت تراوح مكانها، وتدخل في العبث من جهة الخطة العسكرية الإسرائيلية حتى الآن.
وقد يزيد تأزمها مع فشل الوساطات الدولية التي أطلقت حتى الآن، لتحمل للبنان مع تجاهل ما يجري في فلسطين، شروط الاستسلام.
وهذا الأمر سيجعل الأسبوع الثاني من العدوان على لبنان أسبوع تغيير شروط الوساطات السياسية أو بالأحرى إسقاط شروطها والاقتصار على وقف إطلاق النار بلا شروط، وإلا يجب أن يكون أسبوع التحرك البري من جنوبي لبنان أو تصعيد القصف المتبادل إلى مستويات أعلى فأعلى: المجازر والحرائق.
وبكلمة فإن المستوى الحالي من العمليات العسكرية والوساطات الدولية غير كاف لوقف إطلاق النار أو تحقيق أهداف العدوان أو ردعه.
ومن ثم فإن الاستمرار على المنوال نفسه عسكريا وسياسيا سيكون مثل الدوران في المكان نفسه، وهو ما لا يسهل احتماله من جانب الدولة العبرية ومناصريها الدوليين أو الذين حيدوا أنفسهم لأسبوع آخر سيرفع من مستوى الفضيحة في أكثر من اتجاه مما سيعزز موقف حزب الله وكذلك حماس، أو في الأدق يعزز الجبهة المناهضة أو الرافضة للعدوان في لبنان وقطاع غزة فلسطينيا ولبنانيا وعربيا وإسلاميا ودوليا.
من هنا كان لا بد من أن يتغير الموقف العسكري أو الوساطات الدولية والموقف العربي والإسلامي والرأي العام العالمي بعد أن أعطى الوقت الكافي على حد تعبير إدارة بوش للجيش الإسرائيلي ليحسم الموضوع أو يفرض وضعا عسكريا يسمح بحسمه سياسيا.
هذا الحسم العسكري لن يتحقق ما لم يحدث الاجتياح، وقد يقود في ما قد يقود إليه إلى أن يفرغ حزب الله كل حمولته من الصواريخ بلا قيود فضلا عن خسائر الالتحام والاشتباك والتعرض للمهاجمين وكيانهم.
منير شفيق
المصدر: الجزيرة
إضافة تعليق جديد