عن «عمر الشيشاني» الذي لم يُقتل!
لم يقتل عمر الشيشاني .. كما لم يقتل من قبله الأنباري أو البيلاوي أو التركماني. وقبل ذلك، لم يقتل أبو عمر البغدادي، الزعيم الأول لـ «دولة العراق الاسلامية». في الشرقاط جنوب الموصل، سقط رجل يُدعى طرخان باترشفيلي، قادته قناعاته وظروفه للدخول ضمن منظومة البيعة في ما سُمّي منذ نيسان 2013 باسم «الدولة الاسلامية في العراق والشام»، قبل أن تتحوّل بعد إعلان الخلافة في حزيران 2014 إلى «الدولة الإسلامية».
منذ البداية، لم يفكر باترشفيلي بإخفاء صورته، فكان يظهر على جبهات القتال وبين أنصاره بوجهه الحقيقي، لكنه اختار تغيير اسمه ليصبح عمر الشيشاني، استجابةً لتقاليد جهادية معروفة. قضى أشهراً عدة في سوريا يقود كتيبة صغيرة من المقاتلين الأجانب من دون أن يسمع به أحد، إذ كانت تلك الفترة تشهد ظهور أسماء المئات من قادة الكتائب التي كانت تتوالد كالفطر في ظلال الأزمة السورية الناشئة. خبرته العسكرية لم تكن أوسع من خبرة المنشق عنه صلاح الدين الشيشاني الذي أصبح نسياً منسياً، أو سيف الله الشيشاني الذي قُتل في معركة سجن حلب بعد مبايعة «جبهة النصرة» بحوالي شهر فقط. وبالتأكيد هي ليست أوسع من خبرة مسلم الشيشاني، قائد «أجناد الشام»، الذي ما زال يصول ويجول بين اللاذقية وحلب مستنداً إلى خبرة عسكرية واسعة اكتسبها منذ القتال في أفغانستان، وبعدها في الشيشان، حيث تتلمذ على يدي «القائد خطاب» (ثامر سويلم).
لكن باترشفيلي خرق جدار الشهرة سريعاً، وأصبح اسمه يتصدر عناوين الأخبار، وراحت الشائعات تلاحقه في كل وقت وفي كل مكان، حتى أنه أُعلن عن مقتله عشرات المرات، مع نسج القصص الخيالية عن خبراته وإمكاناته ما لم يكن هو ليحدّث نفسه بها يوماً.
ليس من سبب يفسر تباين مستوى الشهرة واختلاف حجم الاهتمام الإعلامي بين الشيشانيين الثلاثة، سوى أن باترشفيلي رفض في منتصف العام 2013 أن يبايع «جبهة النصرة» رغم محاولاتها المتكررة لاجتذابه إليها، وقرر أن يضع يده بيد «تسونامي الجهاد» أبي بكر البغدادي الذي كان في تلك الآونة قد شرع باكتساح الساحة السورية. ومنذ تلك اللحظة، بدأ نجم الرجل بالصعود، خصوصاً بعد تعيينه قائداً عسكرياً عاماً للتنظيم في عموم الأراضي السورية، وما تلا ذلك من نجاحه في الانتصار بمعارك عسكرية ضد جهات مختلفة. فهو من قاد الهجوم الضخم ضد «اللواء 66» للجيش السوري في ريف حماة، في أيلول من العام 2013، كما قاد الهجوم على مدينة الباب في ريف حلب وسيطر عليها من يد الفصائل المسلحة الأخرى في شباط 2014. كذلك قاد الهجوم على مدينة البوكمال في ديرالزور ضد «جبهة النصرة» و «أحرار الشام» منتصف العام 2014. وبين هذه المعارك، هناك عشرات المعارك الأخرى التي حملت توقيعه.
هذا الارتباط مع تنظيم «داعش» أقام علاقة جدلية بين الطرفين، فالتنظيم استفاد من خبرات باترشفيلي العسكرية، لكن الأخير لم يكن بمقدوره تحقيق الإنجازات لولا الإمكانات والقدرات التي وضعها التنظيم تحت تصرفه. بل المؤكد أنه لولا هذا الارتباط لما كان للرجل الثلاثيني أي أهمية خاصة تُمّيزه عن أقرانه من القادة الشيشانيين الآخرين في فصائل جهادية أخرى.
وهنا يبرز دور الدعاية الإعلامية في تسليط الضوء على بعض الشخصيات وحجبها عن شخصيات أخرى لا تقل عنها خبرة وخطورة في عالم الإرهاب. والولايات المتحدة هي التي تقود بمهارة كبيرة جهود هذه الدعاية الإعلامية، بل لم يعد خافياً أن «الاستعراض» أصبح جزءاً لا يتجزأ من سلوك واشنطن في سياق ممارستها الحرب على الارهاب. وقد تجلّى هذا الاستعراض بأوضح مظاهره في عملية اغتيال اسامة بن لادن التي جرى إخراجها كفيلم سينمائي مشوّق.
وتأتي هذه «الاستراتيجية الاستعراضية» التي تتولى مهمة القيام بها عشرات المؤسسات الإعلامية الضخمة، لترسيخ دور الولايات المتحدة باعتبارها المحارب الأول للإرهاب وقادته وتنظيماته. والمفارقة أن هذه الاستراتيجية لن يكتب لها النجاح من دون العمل على صناعة رموز الإرهاب وتضخيم قدراتهم بمبالغة كبيرة. فما أهمية الإعلان عن مقتل فلان من «الجهاديين» ما لم يتم تسويق صورته كرأس مدبّر وعقل كبير والترويج لكونه ضمن قائمة «الأشدّ خطراً»؟
وتحرص واشنطن على أن يكون للبنتاغون أو أي متحدث رسمي باسمها بيان تفاخري عند مقتل أي من الشخصيات التي تمّت صناعة صورتها المضخمة. وهذا بدوره يتيح لها أن تبيع هذه الإنجازات النوعية لدول العالم التي لا تكفّ عن شرب الأنخاب احتفاءً بها. ووسط تسارع الأحداث وتراكم جثث القتلى من قادة «داعش» والتفاخر الأميركي بالتمكن منهم، لا يجد أحد حاجة للتساؤل عن السبب الذي يقف وراء توالد هذه القيادات وتزايد الأسماء الموضوعة على قائمة الاستهداف الأميركي على الرغم من مرور خمسة عشر عاماً على إعلان واشنطن لـ»الحرب المقدسة ضد الإرهاب». إذ بعد أحداث الحادي عشر من أيلول، كان اسم اسامة بن لادن وحده معروفاً كرمز إرهابي خطير، أما اليوم فهناك عشرات النسخ المعدّلة عن ذلك الرمز، ولا يبدو أن إنتاج هذه الرموز قد توقف بعد، هذا إذا لم يكن في حالة ازدياد.
سقط طرخان باترشفيلي، لكن عمر الشيشاني باعتباره حالةً تضافرت على إنتاجها «العلاقة الجدلية» بين أشخاص وبين إمكانات تنظيم، و«الاستراتيجية الاستعراضية» لأغراض دعائية وأهداف سياسية، لم يُقتل، بل ما زال العمل جارٍ في مكان ما على تصنيع المزيد من النسخ عنه.
عبد الله سليمان علي
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد