عن رحلة الخرطوم بعيداً عن طهران إلى واشنطن
في آب 2013، منعت السعودية طائرةً كانت تُقل الرئيس السوداني من عبور مجالها الجوي خلال توجهه إلى طهران لحضور مراسم أداء القسم للرئيس الإيراني. وفي مطلع هذا العام، ألغت السعودية المساعدة المالية العسكرية المخصصة للبنان والبالغة أربعة مليارات دولار، ونقلت تلك الأموال، وزادتها ملياراً، إلى السودان. أكدت تلك الخطوة مدى عمق التغيير في موقع السودان في شبكة العلاقات المعقدة في الشرق الأوسط.
سبقت الإعلان عن انتقال المنحة السعودية إلى السودان أحداث مهمة عدة مثل مشاركة السودان في الحرب السعودية على اليمن، تحالف «عاصفة الحزم»، وقبل ذلك أيضاً قيام السودان بطرد الملحق الثقافي الإيراني من الخرطوم في الأول من أيلول 2014، بعد اتهام الملحقية بممارسة أنشطة تهدد «الأمن الفكري والأمن الاجتماعي» والقيام بنشر التشيع في السودان. مثلت تلك الخطوة مفاجأةً كبيرةً للمتابعين، فالسودان أحد أهم حلفاء إيران في المنطقة، والعلاقات الإيرانية - السودانية، التي تعود لنهاية ثمانينيات القرن الماضي، وصلت إلى مستوياتٍ متقدمة في العقد الأول من هذه الألفية. لم تشمل تلك العلاقات حصول السودان على مساعدات اقتصادية وعسكرية إيرانية فحسب، بل شملت قيام إيران ببناء منشآتٍ ومصانع عسكريةٍ في السودان، وهي المنشآت التي طالما قالت إسرائيل إنها تنتج بعضاً من الصواريخ التي يتم نقلها إلى قطاع غزة. كما مثل السودان جزءاً مهماً من الطريق الذي تعبره شحنات الصواريخ والأسلحة التي تقدمها إيران للفصائل الفلسطينية؛ وتعددت العمليات التي ينفذها سلاح الطيران الإسرائيلي في أجواء السودان لاستهداف أرتال نقل السلاح، بعد أن تنزلها السفن في موانئ البحر الأحمر، أو لاستهداف منشآت التصنيع والتخزين العسكرية في السودان، مثل منشأة «اليرموك» بالقرب من الخرطوم التي استُهدفت في تشرين الأول 2012.
ولعل عمق التحالف الإيراني ـ السوداني، وتحول السودان لجزء رئيسي من منظومة تسليح غزة، والتي تشكل بدورها إحدى ركائز منظومة الردع الإيراني، هو ما دفع الكثيرين للتهوين من حقيقة شائعات استعداد السودان للابتعاد عن إيران، أو استعداد الأخيرة للقبول بحصول ذلك. ففي بداية «الربيع العربي»، ساد اعتقادٌ مفاده أن تصويت السودان في اجتماعات الجامعة العربية على قراراتٍ تضغط على دمشق، لم يكن سوى نتيجةٍ لأزماتٍ اقتصاديةٍ تمر بها الخرطوم دفعتها لعقد صفقة مع قطر يبيع فيها السودان موقفه مقابل مساعداتٍ ماليةٍ قطرية. يومها تداولت بعض وسائل الإعلام أن مسؤولين إيرانيين عاتبوا نظراءهم السودانيين قائلين إنه إذا ما احتاج السودان إلى أي مساعدة مالية يمكنه أن يطلب ذلك من طهران، ولا داعي للذهاب إلى قطر. ولكن الحقيقة، التي أصبحت واضحةً اليوم، هي أن ما حصل يومها كان بداية مسار استدارة السودان بعيداً عن «محور الممانعة». فالسودان الغارق في أزماته الاقتصادية، والمحاصر سياسياً، والذي كان على وشك خسارة إقليم آخر، كان ينتظر الفرصة السانحة للبدء بعقد الصفقات للاستدارة بعيداً. جاءت تلك الفرصة في صيف العام 2014 خلال حرب غزة.
فطن الإسرائيليون مبكراً للدور الحيوي للسودان في نقل وتصنيع وتخزين الصواريخ التي تُنقل لفصائل غزة. ففي الأيام التالية لانتهاء عملية «عمود السحاب»، في تشرين الثاني 2012، ناقشت وسائل الإعلام الإسرائيلية مطولاً خطورة سلاح الصواريخ لدى الفصائل الفلسطينية وفعالية منظومة الدفاع الجوي الإسرائيلي بالتصدي لها. ما ركزت عليه الصحف الإسرائيلية يومها هو أن الجزء الأكبر من تكلفة تسليح فصائل غزة يعود لكلفة عملية النقل المعقدة لا كلفة السلاح ذاته؛ والمثال التوضيحي الذي استخدمته تلك الصحف يومها هو أن صاروخ غراد الذي يكلف إيران نحو 1000 دولار، تزيد تكلفته، حتى يصل إلى قطاع غزة، إلى 10000 دولار، وذلك برغم الدور المهم الذي يلعبه السودان في منظومة تصنيع ونقل السلاح؛ والكلفة والتعقيد يزيدان أكثر في حالة صاروخ «فجر-5» ذي الستة أمتار والتسعمئة كيلوغرام. ومن البديهي القول إن إخراج السودان من منظومة التزويد بالسلاح كان ليزيد تكلفة نقل تلك الصواريخ زيادة غير مسبوقة. ولكن إذا لم تنفع «عصا» الغارات الجوية لإقناع السودان بالتوقف عن لعب هذا الدور، فلا بد من اللجوء «للجزرة».
في 6 تموز 2014، وبينما كان العالم يترقب بدء جولة جديدة من المواجهات العسكرية في قطاع غزة في أعقاب قيام «حماس» باختطاف ثلاثة طلابٍ إسرائيليين، زار وزير الخارجية القطري الخرطوم من دون أي إعلانٍ مسبق. دعا الوزير القطري الرئيس السوداني لزيارة قطر، وهي الدعوة التي سارع البشير لتلبيتها بعد يومين. في اليوم نفسه بدأت عملية «الجرف الصامد». كان الطريق أمام السودان ممهداً ومغرياً لبدء استدارته، التي تتلاقى مع مصالح أطراف عديدة. فالقطريون أرادوا لعب دورٍ مهمٍ في إنهاء المواجهات في غزة، للحفاظ على شبكة علاقاتهم المعقدة مع الأميركيين والإسرائيليين ومع «حماس» التي نقلت مكاتبها إلى الدوحة. السعوديون أرادوا تقليص نفوذ إيران في المنطقة وإضافة حليف آخر لقائمة الحلفاء. أما المصريون فمصالحهم متعددة: 1) إضعاف «حماس»، لا سيما بسبب الدور الذي لعبته في قلقلة الأوضاع الداخلية في مصر، 2) الحيلولة دون استمرار التصعيد الإسرائيلي في غزة، 3) اجتذاب السودان إلى جانب مصر في مواجهة إثيوبيا ومشروع بناء سد «النهضة»، لا سيما أن إثيوبيا والسودان كانا قد وقعا في الصيف السابق في 2013 اتفاقيةً للتعاون العسكري، 4) منع السودان من الاستمرار بتسليح الميليشيات المعادية للحكومة الليبية في طبرق، المتحالفة مع مصر. في هذا السياق من المستبعد أن تكون الزيارة السريعة للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى الخرطوم، خلال عودته من مؤتمر القمة الأفريقية، يوم 27 حزيران 2014، مجرد مصادفة، خصوصاً أنها جاءت بعد أربعة أيام على لقاء مساعد الرئيس المصري بالسفير السوداني في القاهرة. وكل هذا حصل بعدما بدأ التصعيد بين «حماس» وإسرائيل في أعقاب اختطاف الطلاب الإسرائيليين الثلاثة. ومن المستبعد أيضاً، في هذا السياق، أن يكون قرار الخرطوم بطرد الملحق الثقافي الإيراني، بعد أربعة أيام فقط على الاتفاق على إنهاء حرب غزة، مجرد مصادفة. كان من اللافت يومها أن المواجهة الأطول انتهت باتفاقٍ مشابهٍ للاتفاقات التي أنهت مواجهتي «الرصاص المصبوب» (2009) و «عمود السحاب» (2012)، من دون التطرق للشرط الإسرائيلي حول منع إعادة تسلح الفصائل في غزة. هل حلت إسرائيل هذه المشكلة من المصدر؟ هذا ما يبدو مرجحاً اليوم. إذاً كان لكل هذه الأطراف مصالحها للضغط على السودان لتغيير تموضعه، ولكن ماذا عن السودان نفسه؟
قد يكون قرار السودان مدفوعاً بتطورات السنوات الأخيرة. ربما دفع تطور مفاوضات الملف النووي الإيراني الخرطوم للاعتقاد أن الدعم الإيراني، المالي والتسليحي، سيتقلص. كما أن انسحاب الولايات المتحدة من المنطقة ومحاولة أوباما دفع حلفائه الإقليميين للعب دور أكبر، شكل ضغوطاً كبيرةً على السودان الذي يلعب دوراً، بطريقة أو بأخرى، في معظم الملفات التي تهتم بها الدول الخليجية، من ليبيا ومصر واليمن إلى فلسطين. الأحداث التي حصلت لاحقاً تدفع للاعتقاد أن السودان لم يكن مُجبراً تماماً على نقل تحالفه من إيران، البعيدة جغرافياً، إلى مصر والسعودية، الأقرب جغرافياً، والأكثر إفادة للسودان: السعودية بدعمها السياسي والمالي السخي ومصر بورقة التعاون الأمني والسياسي. يمكن القول إن السودان كان ينتظر الفرصة لتغيير هذا التموضع ليس لأجل التقرب من المحور الخليجي فحسب، بل للتقرب من الولايات المتحدة نفسها ولإنهاء معاناة النظام السياسي في الخرطوم، الموجود على القائمة الأميركية للدول الراعية للإرهاب منذ العام 1993 والذي أيضاً يخضع لعقوبات تجارية أميركية منذ العام 1997.
في مطلع شهر أيلول الماضي نشرت صحيفة «هآرتس» تقريراً تقول فيه إن إسرائيل شجعت الولايات المتحدة على تحسين علاقتها بالسودان، متذرعةً بأن السودان قد قطع علاقاته كلها مع إيران. وفي 20 أيلول الماضي، أصدرت وزارة الخارجية الأميركية بياناً، هو الأول من نوعه، «يثني» على الخرطوم لتعاونها مع الولايات المتحدة في محاربة الجماعات الإرهابية. المصالحة الأميركية السودانية لا تزال معقدة، ولا بد أولاً من تجاوز عقبة المحكمة الجنائية الدولية التي تطالب باعتقال البشير، وقد تحل هذه العقبة بسهولة مفاجئة، لا سيما بعد صدور تقارير صحافية، في تموز الماضي، بأن رئيسة المحكمة قد تلقت رشى لتوريط البشير في قضية دارفور. الأكيد أن الأشهر والسنوات المقبلة ستحمل تطوراتٍ مفاجئة في الملف السوداني وفي علاقة الخرطوم مع واشنطن. وسيكشف المقبل من الأيام نتائج «التكويعة» السودانية، التي ساهمت، حتى الآن، على سبيل المثال لا الحصر، في قطع جزءٍ كبيرٍ من واردات السلاح للحوثيين في اليمن، وتسهيل مهمة الجيش الليبي في السيطرة على الهلال النفطي، وقطع جزءٍ حيويٍ من واردات السلاح لقطاع غزة. هذا الحدث الأخير قد نرى نتائجه قريباً مع ارتفاع وتيرة وشدة الاعتداءات الإسرائيلية على قطاع غزة، التي قد تتدحرج فجأةً إلى مواجهة شاملة. لا يستطيع المرء وسط هذا المشهد المعقد سوى التفكير في أسباب الصمت الإيراني، هل هو محاولةٌ لإبقاء القناة مفتوحة مع النظام الإسلامي في الخرطوم؟ أم محاولةٌ لتكرار السياسة نفسها التي اتُبعت مع «حماس» و «الإخوان المسلمين» في المنطقة؟ وهل نجحت تلك السياسة أساساً ليصار إلى تكرارها؟ هذه الأسئلة نتركها للمقبل من الأيام.
محمد صالح الفتيح
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد