عن مسألة الهوية الدينية وصلاتها بالعلمانية

14-02-2016

عن مسألة الهوية الدينية وصلاتها بالعلمانية

هل استطاعت العولمة بما حملته وتحمله من اطياف متعددة للعلمانية الجافة المسطحة ان تزيح الدين من الصدور والقلوب قبل ان تحاول ازاحته عن المسارات الفكرية والثقافوية للانسانية في القرن العشرين واوائل القرن الحادي والعشرين؟

يخبرنا فيليب بورجو استاذ تاريخ الاديان في جامعة جنيف ان مسالة الهوية الدينية وصلاتها بالعلمانية مسألة غاية في الأهمية في الوقت الراهن في اوروبا، وليس في الشرق الأدنى او الشرق الاقصى فحسب، وهذا ما بدا جلياً من خلال المعركة التي تعكسها الصحافة اليومية الأوروبية منذ سنوات لدى الاعداد لدستور الاتحاد الاوروبي، وفي هذا الاطار يتساءل بورجوه: «ما معنى الرغبة في إدخال كلمة «دين» في المقدمة الخاصة بالدستور الاوروبي او العكس، اي الحرص على عدم التنويه من قريب او بعيد من ذلك؟ وكلنا يعلم ان الدين او الديني يؤدي الى تاثيرات قوية لا تحمد عقباها».

الإجابات عن علامة الاستفهام المتقدمة نجدها طي هذا الكتاب المهم الصادر عن المركز القومي للترجمة في القاهرة ومن ترجمة الدكتورة فوزية العشماوي استاذ اللغة العربية والحضارة الاسلامية بجامعة جنيف.

تساؤلات المؤلف مثيرة للتفكير ومحفزة للبحث عن تلك التأثيرات وهل هي مقصورة على الكنائس المعتمدة، ومؤسسات تقليدية رسمية؟ ألا يوجد مكان لتكوينات جديدة تسبب القلق احياناً؟ إن تعدد الحركات الدينية وتسييس الاديان الحالي الى جانب عودة التدين المعلن في عالم المنظمات الدولية وأباطرة الحروب كل هذا يدعونا الى اعادة التفكير في بعض المصطلحات وفي البداية من أين تأتي معلوماتنا عن «الدين» وماذا تشتمل عليه؟

هنا ربما يكون من الأهمية بمكان العودة الى الماضي والى البلدان البعيدة، حيث ظهرت التعريفات الأولى التي تعد اساس هذه المعتقدات الراسخة، وان ما يفرض نفسه علينا، ويجب ألا نندهش لذلك، هو صفة الجمع او التعددية الجدلية لموضوع الدين، وموضوع الدين غير موجود بصفة ابدية ولكنه دائماً في حالة بناء، وإعادة بناء، وأي دراسة جادة للدين لا يمكن ان تكون إلا من خلال التاريخ.

متى ظهر علم تاريخ الاديان؟

يؤكد المؤلف ان علم تاريخ الاديان الذي ظهر بصفته تخصصاً اكاديمياً مستقلاً وعلماً غير طائفي ولا ديني في الملتقى بين علم دراسة النصوص المقارنة وعلم الانثروبولجيا، قد تشكل في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، ولقد ظهر اولاً في فرنسا ثم في انكلترا، ثم في سويسرا وهولندا وبلجيكا.

لقد ازدهر هذا التخصص بسبب صعود العلمانية، ولكن تاريخ الأديان الذي وصفه ماكس فيبر بأنه سيكون «فك سحر العالم» سيظل موصوماً بتناقض مصادره على رغم انه نشأ في ظل حركة اوروبية، وهذه الحركة تقود جزءاً من العالم المسيحي، وليس كل كوكب الأرض. وليس من الضروري توضيح ذلك، ويمكن ان يبدو تاريخ الأديان نتيجة لرد الفعل على «فك سحر العالم» هذا، وذلك بتمييز الشعور الديني والخيال الديني بصفته تواصلاً طبيعياً واضحاً، ما دام تاريخ الاديان ينتج من وضع مسافة او من الابتعاد عن الدين.

هل كان أمام علم تاريخ الأديان حواجز من نوع ما؟

هذا ما يؤكده بورجو، وعنده إنه لا يخفى على أحد ان تاريخ الأديان كان ولا يزال أمامه حاجزان كبيران تقليديان وشديدا المقاومة في الوقت الذي يدور الحديث في كل اوروبا عن الدور الذي يجب ان يضطلع به «علم تاريخ الاديان» في التعليم المدرسي العام، وهذان الحاجزان هما من ناحية: التوجس من وجهة نظر المؤمنين او ربما الكراهية التي من الممكن ان يحدثها اسلوب البحث غير المتدين، اي الأسلوب التاريخي النقدي، اي: الملحد او بالاحرى الكافر بالدين، ومن ناحية اخرى الشك الكبير الذي يمكن ان ينزرع - على العكس – في قلوب اتباع العلمانية المتصلبة من امكانية اتباع اسلوب دراسي لموضوع الدين غير محبذ.... لماذا؟

لأن بعضهم يعتقد ان تاريخ الاديان مهمته هي ابعاد الدين، على حين يعتقد الآخرون ان مهمته هي إدخال الدين من الباب الخلفي، وتكمن الخطورة في ان كل انسان يود في اعماق نفسه، سواء أكان سلبياً ام ايجابياً، معرفة ما المقصود بهذا التخصص: الدين، او الاديان.

يستدعي اسم الكتاب الوقوف على المعنى والمبنى لكلمات «تاريخ»، و «الاديان»... ماذا عنهما؟

سطور الكتاب تحدثنا عن انه في ما يخص كلمة تاريخ يكفي القول ان الكلمة هنا مستخدمة في معناها العام الشامل، أي إجراء تحقيق او استقصاء. ويجب عدم جعل تاريخ الأديان مجرد عرض تطور ما نعرفه عن الأديان على مدى الزمان والمكان، او بالأحرى فإن مثل هذا العرض يجب ألا يكون سوى جانب من جوانب هذا التخصص، وربما يكون جانباً ثانوياً من هذا التخصص، إن المهمة الأساسية لتاريخ الأديان هي تحليل الوقائع التاريخية وبالطبع تلك الوقائع الموجودة داخل التاريخ، والتي من الضروري ان تكون مرتبطة به، على ان تكون مكرسة لأهداف أخرى غير متعلقة بالمشهد الخاص بتسلسل النسب.

هل يلعب الزمن دوراً في إشكالية تعريف «تاريخ الاديان»؟

يرى المؤلف ان الديانات الأخرى التي عادة ما نطلق عليها الديانات الطبيعية للتمييز بينها وبين الأديان السماوية المنزلة او المفروضة، غالبيتها في سبيلها للانقراض، في ما عدا بالطبع بعض الحركات الدينية التي تظهر فجأة وهي مصطنعة، مثل الحركات الدينية الكورية والاسترالية او الأميركية، والتي تنتمي الى العصر الجديد او الفيمنيزم او الوثنية او الشمانية في آسيا الوسطى او الاحيائية او الشعوذة، ان المادة الاساسية لتاريخ الاديان والتي أصبح من العاجل جداً دراستها، ليست مجرد تسلسل الاديان الكبيرة والصغيرة في العالم، ولكن العناصر القديمة والانظمة التي غالباً ما تكون عتيقة، ولكنها شديدة المقاومة، والتي ارتكزت عليها العقائد الحالية عند تكوينها.

هل التربة التي نمت فيها بدايات تاريخ الاديان هي بالفعل الخلفية البعيدة لجميع مشكلاتنا المعاصرة؟

يذهب بورجو الى ان هذه التربة ليست مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالمبادرات الاساسية الخاصة بالجهل بمعرفة الآخر، والتي نطلق عليها حالياً «حوارالاديان»، وهذا الحوار في الغالب مختص بالاديان الابراهيمية، الى جانب ادخال بعض الديانات «الكبيرة» وإضافتها.

ربما يحذرنا بورجو من عملية اقصاء ما، يرى بالفعل أن لها سلبياتها الواضحة. عن اي مجال اقصائي يتحدث الكاتب؟

يتصل الإقصاء هنا بالحضارات الوثنية القديمة من استقصائنا وتحقيقنا بحجة ان هذا مجال فيه كثير من الغبار، او ان نبعد الشعوب الفقيرة او المهمشة التي يهتم بدراستها علماء أصول السلالات البشرية، كل ذلك معناه اقصاء منابع كثير من القضايا المعاصرة، والأخطر من ذلك اننا نحرم انفسنا من فهم كيف ان تاريخ الاديان يختص بمعرفة الآخر الذي يمكن ان نكونه او الآخر الذي عرفناه بالفعل من زمن ليس ببعيد. وربما ما سنعرفه يوماً إذا أردنا ان نأخذ في الاعتبار ما هي منابع إلهام الحركات الدينية الجديدة وحركات التطرف حيثما وجدت.

إن إقصاء هذا العالم الآخر الأصولي وتفضيل الأديان التوحيدية، وما يطلق عليه الأديان الكبرى على التعددية والثروات اللامحدودة للمجالات المتعددة للثقافة والمجالات عبر التاريخ، كل ذلك سيكون بمثابة تجهيز ما يشبه العلم ويكون حكراً على الديبلوماسيين او «ممثلي» التقاليد الدينية المسيطرة، الذين يرغبون في ارساء حوار في ما بينهم، او على العكس خلق تسلسل تدريجي داخل ما له قيمة من الناحية الاقتصادية والمؤسساتية والاستراتيجية والاحصائية، وأن نوع الأسئلة التي يثيرها تاريخ الأديان يجب ان يظل على نقيض مثل هذا الاستخدام سواء كان سياسياً ام ساذجاً فقط.

هل من نصيحة يقدمها فيليب بورجو الى النخبة الفكرية الباحثة في سياق تاريخ الأديان وعلاقاتها وتشابكاتها وحتى صراعاتها الفكرية والمادية؟

ينصح بأن علينا ان نبذل بعض الجهود حتى نتخلص من عاداتنا في التفكير في ما يتعلق بالدين والسياسة اذا اردنا دراسة «تاريخ الاديان» وليس تصنيع علم لاهوتي للاديان من دون ان ندرك ذلك، وهذا هو التوجه الفكري لهذا البحث الذي يهدف الى التقديم لهذه المبادرات الأساسية التي كانت أصل تاريخ الأديان.

إن الرجوع الى العوالم القديمة جداً يفرض نفسه علينا لإلقاء الضوء على ما يشكل الجدال الساخن الحالي، وهذا يبدو أكثر قرباً من الحقيقة، لأن «سوبر ماركت ما بعد الحداثة» يلتحم بصورة مدهشة مع العالم المتعدد والناعم للمعتقدات والممارسات التي ترجع الى ما قبل الاختراع المسيحي الاوروبي الذي نطلق عليه عادة بطريقة تلقائية تبدو كأنها طبيعة «الاديان».

تعدد المذاهب الدينية، إعلان الحرب المقدسة، جدال حول الحجاب، علمانية الدولة وتدريس الدين في المدارس... وهناك مناسبات عديدة تجعلنا نتساءل عن العودة المحتملة لكل ما هو ديني.

يقترح علينا فيليب بورجو ان نتجاوز الاشكاليات التي يثيرها هذا الجدال وأن نخصص الوقت الكافي لنتأمل ونحلل مصطلح «الدين».

ومن خلال استعراض تاريخ «الدين» في الغرب، يخلص المؤلف الى ان هذا المصطلح يتغير على مدى الزمان واننا لا نتوقف عن بناء وإعادة بناء ما نطلق عليه مصطلح «دين».

إميل أمين

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...