قراءة أوليفيه روا في تجربة الإسلام السياسي (النشأة والتطور والمصير)
إذا أردنا عرض وجهة النظر الغربية تجاه الإسلام السياسي :فكره وحركته ومفاهيمه، و مآلاته، وما يمكن أن يكون شأنه في المستقبل، وعلاقة ذلك باحتمالات الحداثة، فإن أوليفيه روا يقدم صورة نموذجية عن وجهة النظر تلك، التي اهتمت بظاهرة الإسلام السياسي، وعاينته من وجوهه المختلفة.وقد تمتعت وجهة نظره بالشمولية والعمق وتتسم إلى حد كبير بالموضوعية،لايقف أولفيه روا عند سطح الظاهرة السياسي فقط، بل يغوص في جذورها التاريخية النظرية/الفقهية ويبحث عن أصوله الاجتماعية، وعلاقتها بالأوضاع الراهنة للاجتماع السياسي للبلاد الإسلامية.لا يدخل في سوق السجال السياسي بدون هدف، فهو يبحث في ذلك تطلباً لفهم سياسة الإسلاموية من الداخل، وبكل الأحوال فإن بحثه،يأتي في سياق جدل واسع موضوعه الإسلام السياسي في تحوله ومصيره. إذ لم يتوقف التأليف الغربي، ومن شتى الاتجاهات، حول ماسمّي: بالحركات الإسلامية،أو بالإسلام السياسي، منذ تصاعدها في السبعينات، وبالطبع فإن هذا قد استمر، وخاصة بعد أن شاهدنا ذروة هذا الحركة وتجلياتها الأكثر خطراً منذ أحداث 11سبتمبر، أكان من زاوية التنظير أو من ناحية الممارسة الاجتماعية ـ السياسية لها. فقد توفر الوقت الكافي كي يقوم هذا التأليف على قاعدة أكثر نضجاً، ارتكازاً على ذاكرة النظر والعمل. ويأتي في هذا السياق اسهام / اوليفيه روا / الفرنسي الجنسية، فهو الذي بدأ دراسته بموضوعات فرعية، وجزئية: ((أفغانستان: الإسلام والحداثة والسياسة)) و ((الأعراف والسياسة في آسيا الوسطى)) يقدم تأليفه المهم ((تجربة الإسلام السياسي)) كتتويج لدراساته (الإسلامية) وكأنه أراد أن يقدم أشمل وأعم الاستنتاجات حول موضوعه من نقطة استشراف عالية حول العالم الإسلامي. أو أن يكون بمثابة كشف وتصفية حساب مع ((تجربة الإسلام السياسي)) بجميع تظاهراتها وامتداداتها: قاعدتها السيسولوجية، ومنطقها الداخلي، ومآلها الآخير والنهائي.
إن بحث (روا) في تجربة الإسلام السياسي، ماهو سوى بحث نقدي معمق، لايخلى من صيغة سجالية مع التيار الإسلاموي المعاصر الذي اتخذ من الإسلام أيديولوجيا ودين. فهو لم يستهدف فكر وممارسة هذا التيار الاَّ ليتقصى مسبقاته الفكرية الأبعد ويفككها ويفندها ويُظهر هشاشتها الفكرية وتهافتها. ولا يقف عند المواقف السياسية الظاهرة حتى يتتبع أسسها الأبعد غوراً، ويتعرض خلال ذلك انتقا للبرامج النظامية للحركة، ولتكـتيكها والاستراتيجيتها.
على الرغم من اتسام ابحاثه بالتوتر الذهني والانفعالي وقوة العبارة، يبقى محافظاً على تماسكه وترابط حججه، وعلى الرصانة البحثية التي تضعه خارج حُمىّ الاستشراق، والنظرة الغربية المبسطة المألوفة، الاَّ أن (روا) لا يستطع إخفاء تحيزه لاسيما بعد أن العنف في حدوده القصوى هو المظهر الأبرز للإسلام السياسي في زمن القاعدة وطالبان، رغم حرصه على تماسك القول، فصاحبنا يعرف مايريد أن يقول، وهو يعرضه دون مداراة أكاديمية أو دبلوماسية.
1 ـ بين السلف والخلف:
مع تأكيده على أن "الثقافتين الإسلامية والغربية يغذيان تصوراً واشكالية مختلفة للعلاقات بين الدولة والمجتمع"(1) الاَّ أنه يعارض التصور الاستشراقي التقليدي الذي ينظر إلى الإسلام "كجوهر ثقافي ثابت لا يتغير" أو كنظام لازمـني يفسر به غياب الحداثة. كما يعارض المذهب المقارن الذي يفسر هذا الغياب بافتقار الفكر الإسلامي لمفاهيم متداولة في الفكر الغربي كمفهوم الدولة ذات الحدود المتعينة والمرتبطة بجماعة محددة أوبأمة. كما يرفض إقامة صلة سببية بين الطريقة التي يرى فيها التقليد الإسلامي الموروث إلى السياسة، من جهة، وبين حقيقة وواقع الأنظمة والمؤسسات في البلدان المسلمة. صحيح، أن انبعاث الحداثة في مجال السياسة يتمثل عنده في بروز نطاق مستقل للسياسة منفصل عن الديني، ويتجسد في دولة القانون، ولكنه لايستنتج من ذلك أن الحداثة منوطة بتمثل النمط السياسي الغربي على الرغم من أن منطق بحثه يقود إلى ذلك؛ فالفكر الاسلامي محكوم برأي (روا) بتصور آخر للعلاقة بين السلطان والقانون، وبالتالي يجب قياسه على معناه الأصلي، أي للفرادة التي تحتلها فيه الشريعة بالنسبة إلى السلطان لا قياسه على الدولة الحديثة(2).
وبما أن الشريعة غير مقفلة على مستوى المؤسسة ولا على مستوى المفاهيم تصبح التوتاليتارية (بما هي امتصاص كلي للحقل الاجتماعي من قبل السياسي) ظاهرة غريبة عن الثقافة الإسلامية، و بالمقابل فإن الإفراط في منطق الدولة عند الغرب (أي امتصاص الديني واستثماره من قبل الدولة) يؤدي إلى التوتاليتاربة. من هنا أصبح الفكر الغربي ـ برأيه ـ في حال تفكير متواصل حول التوتاليتارية وضدها، بينما حال ضعف النطاق السياسي في الإسلام (عدم استنفاذه و امتصامه للديني) دون ظهور التوتاليتارية، وهو يفسر بهذا الوضع اختفاء العنف الدولتي، الذي و إن حصل يجري التفكير فيه بطريقة أخلاقية على أنه (ظلم)، الذي هو نقيض الاستبداد في التخيل السياسي الإسلامي.كما يضع العدل بدلاً من الحرية(3)، والأخلاق بدلاً من الديمقراطية ، و ستصبح الأخلاق والعدل شعار الاحتجاج للنزعات الشعبوية، و(روا) يُرجع إلى هذا الأحوال ضعف التطلب الديمقراطي في البلدان المسلمة. فينساق بذلك جزئياً إلى تفسير مشاكل اليوم بمفاهيم الماضي الملتبسة!
يذكرنا (روا) عندما يتناول ما يسميه ((بالمُتخيل السياسي الإسلامي)) بتحليلات الجابري في ((نقد العقل السياسي العربي))، هذا ((المُتخيل))، الذي استدل عليه من خلال تواتره في نصوص وأدبيات العلماء، لا يقيم أي تمايز بين ماهو ديني و ماهو سياسي، وينظر إلى الإسلام كملة و مجتمع، كأمة دينية وسياسية في وقت واحد (أعراق، قبائل) والتي تستمد وحدتها من زعيم كاريزمي،هذا المُتخيل سوف يصبح معلماً في الأيديولوجيا القومية العربية، ويؤكد روا على واقعتين سياسيتين :
2 ـ الطبيعة الدهرية للدولة الإسلامية: مشيراً إلى أنه منذ نهاية القرن الأول للهجرة نشأ انفصال، أملاه الأمر الواقع بين السلطة السياسية (السلطان، الأمراء) والسلطة الدينية (الخليفة). وتمَّت ترجمته في مؤسسات، لكنه يعتبر أن هذا التمايز كان دائماً نتيجة قسمة مختلفة عن تلك التي نشأت في الغرب، إذ لم يستتبع ذلك تأسيس حق وضعي من قبل قطب السلطة،هذا من جهة، أما من جهة أخرى، فإن الواقعة الأخرى تخص التاريخ الحديث، فثمة تاريخانية جعلت من الدولة العربية ـ الاسلامية لاتنفصل برأيه عن نقطة الالتقاء بالغرب، الذي ـ كما يشهد (روا) ـ لم يوفِّر جهداً لإعاقة تحديث هذه الدولة ـ "أن هاجس الغرب من دزرائيلي إلى جورج بوش مروراً بكليمنصو وكيسنجر، لم يكن ذات يوم قد لعب ورقة التحديث الإسلامي"(4).
3ـ الدولة الراهنة والمواقف المتعارضة:
أمام المظاهر المتنوعة التي آلت إليها الدولة الحديثة (الإسلامية) وأمام تحولها إلى دولة استبدادية في وجه الأمة أو ضدها تتواجه المواقف وتتضارب حولها، وانطلاقاً من ذلك يتم البحث عن المصير، فيعرض روا لهذه الآراء بالنقد منطلقاً من حقيقة أن التحديث أصبح أمراً واقعاً يجب الانطلاق منه لا ضده، إن أردنا سياسة ناجعة. لقد تم التحديث ولكن خارج أي إطار مفاهيمي: تم التحديث عبر الهجرة عن الأرياف، وعبر الهجرة إلى الخارج، وعبر الاستهلاك والملبس وأقنية التلفزة اللاقطة، أي عبر عالمية الثقافة، وقد تم التحديث عبر قيام الدول، مهما بلغت هشاشتها وتبعيتها. لذا فالاحتجاج ضد الغربنة الذي يتسع ليشمل الاحتجاج ضد الدولة القائمة، هو من طبيعة الخطاب البيئي، أو الخطاب المعادي للمهاجرين في الغرب: أنه خطاب يُصاغ بعد فوات الأوان(5).
وقد أشار روا،في سياق عرضه لتنوع الآراء حول الدولة الراهنة ومستقبلها، إلى أن المثقفين الحداثيين، مع أنهم لا ينتقدون المثال الغربي للدولة، إلاَّ أنهم ينددون بنفاق وبازدواجية لسان الغرب، الذي يبذل ما بوسعه للحيلولة دون تعميم المثال الغربي ليصبح مثالاً كونياً. وبالمقابل فان (العلماء) وأهل التقوى ظلوا محتفظين (بالمُتخيل الإسلامي) في تجاهله وانتقاصه لما هو جديد، و ليس ذلك لأن العلماء لطالما قاوموا الجديد: بل على الضد من ذلك فهم غالباً ما قدموا الفتاوى لإضفاء صفة الشرعية الدينية على إقامة نظام دولتي جديد، هذه المراعاة التي ستكون المأخذ الأول عليهم من قبل الإسلامويين الجدد الحركيين . إلاَّ أن (روا) لا يتعرض لهذين الموقفين، أي لموقف المثقف الحداثي، ولموقف الفقيه التقليدي، إلاَّ ليركز على موقف المثقف الإسلاموي الحركي المتطرف الذي يريد أن يكون رداً على إشكالية الدولة ((المستوردة)) والتشرذم، في نفس الوقت الذي يرى في الإسلام مدخلاً إلى الشمولي الجامع للمجتمع والدولة.أما إذا كان الفكرالإسلاموي يفي بما يعد به، فهذا موضوع التساؤل والتمحص الكبيرين لروا . ولن يتأخر (روا) في إصدار حكمه على فكر الحركي الإسلاموي، فهو يؤكد، منذ البداية، أن نشاط الإسلامويين السياسي لم يفضِ إلى إقامة دول أو مجتمعات إسلامية. فلقد اقتصر إنجاز المثقف الحركي الإسلاموي على الاختيار بين مسارين: إما أن يستعير منطق الدولة عند وصوله إلى السلطة كما في إيران الخميني، أو يجدد الانقسام التقليدي، بعد أن يعُيد توليفه، على الطريقة الأفغانية. ومهما كانت مزاعم الفاعلين في هذا النشاط، فأن كل نشاط سياسي يؤدي تلقائياً، إلى قيام حيِّز علماني، أو إلى انقسام تقليدي(6).
هذا الاخفاق، يجده (روا) في عدة مستويات، فهناك إخفاق تاريخي، ودليله على ذلك، أنه لم يشهد بوادر قيام مجتمع جديد لا في إيران ولا في أفغانستان. و (الاقتصاد السياسي) الإسلامي لا يراه إلاَّ خطاباً بليغاً لاغير، وبقيت السعودية النموذج الإسلامي بالنسبة للأغنياء (الريع زائد الشريعة)، أما بالنسبة للفقراء فبقي نموذجهم: باكستان والسودان، وجزائر الغد، أي (البطالة زائد الشريعة). وهو أيضاً إخفاق فكري لأنه محكوم بمأزق منطقي، فمن جهة، أن وجود مجتمع سياسي إسلامي، حسب الحركة الإسلاموية، شرط لا بد منه لكي يتمكن المؤمن من الارتقاء إلى الفضيلة، ولكن، من جهة أخرى، لا يستطيع مثل هذا المجتمع أن يكون فاضلاً إلاَّ عبر فضيلة أولاء الذين يتقوَّم بهم، ولا سيما القادة. وفي المحصلة أن تنامي الفكر الإسلاموي، الذي هو فكر سياسي في الدرجة الأولى، ينتهي إلى التخفُّف من كل ما يتقوَّم به السياسي (المؤسسات..) فلا يجد في السياسي، الاَّ أداة التبشير الأخلاقي.
4ـ أنماط الفكر الإسلامي المعاصر: قبل أن ينقلنا (روا) إلى خضم الآراء الإسلاموية الثورية، يحاول أن يسترجع المسبقات الفكرية الإسلامية.فيلاحظ، بهذا الصدد، أن التطبيق الكامل للشريعة كان بمثابة المطلب الدائم للسلفية القديمة، مع حرصها على تجنُّب مسألة طبيعة النظام السياسي ..فهذا الخيار "يترك في المقابل نطاقاً ممكناً للعلمنة.. هو حيز السلطة.."(7).
والمؤلفات الإسلامية الكلاسيكية التي تفيض بالحِكم وبنصائح الأمراء يقول عنها (روا)، إنها ليست تفكيراً حول طبيعة السياسة، بل حول طبيعة الأمير الصالح (نصائح تقنيات، نوادر أمثلة..) ومسألة الأخلاقيات هي في لب الفلسفة الكلاسيكية الإسلامية، وما يريده رجال الدين السلفيون هو أن يحكم الأمير بالشريعة وأن يدافع عن أمة المسلمين، فهذا مصدر الشريعة. هذه السلفية التقليدية، التي قام العلماء بالتنظير لها مراراً، هي من يعتبرها (روا) الأيديولوجيا التلقائية لأغلبية أئمة المساجد وسواهم من رجال الدين، اليوم كما في الماضي. لهذا يأتي اعتقاده بأن الإسلام لم يشهد حكماً ثيوقراطياً أو حكم رجال دين.. فهناك دائماً سلطة أمر واقع ذات أصول علمانية، ملوك وجنرالات وأمراء يأخذون على عاتقهم مسألة تطبيق برنامج العلماء والسلفيين. ومنذ القرن التاسع عشر، مع تبدل مواقع القوى لصالح الغرب. ومن موقف الدفاع عن النفس في وجه أوربا التقنية الغازية يلاحظ ظهور لحظتين من المقاومة، إحداها ذات طابع فلاحي ديني مثَّلها رجال دين سلفيون تحولوا إلى قوة سياسية بسبب استخدام الشريعة ضد العصبية والتشرذم القبلي والعرقي، كحال عبد القادر الجزائري، المهدي في السودان، عبد الكريم الخطابي في المغرب. أما النمط الثاني فهو نمط حضري مديني قومي، مشروعه إنشاء دولة حديثة والتحديث هنا سلطوي، من فوق، ويتجاهل الإسلام. ثم في النصف الثاني من القرن التاسع عشر برز تيار سلفي يدعو إلى العودة إلى السلف: جمال الدين الأفغاني، محمد عبده، رشيد رضا. الإصلاح بنظرهؤلاء ليس تبني الحداثة بل العودة إلى السنّة النبوية، وذلك بفتح باب الاجتهاد. ولقد بقيت هذه السلفية الإصلاحية على المستوى السياسي تقليدية لا تذهب إلى حد إدانة الحكومات القائمة، لأن الدولة كمستوى سياسي تبقى غير ذات شأن يُذكر، ويكمن دورها الوحيد في تطبيق الشريعة(8).
ولقد نشأت الإسلاموية في تواصل مع السلفية وفي محاولة القطيعة معها. أما النواة المركزية، و المصدر الأساسي لهذه الإسلاموية فيجدها (روا) في الاخوان (حسن البنا) و ((جماعت إسلامي)) الباكستانية (أبو الأعلى المودودي). يميزها عن السلفية ثلاث علائم: مفهومها للثورة الإسلامية، وللشريعة، ولقضية المرأة. إذ ينظر الإسلاميون إلى السياسي، من مبدأ أن الإسلام هو فكر شامل وكلي، ومن هنا يأتي شعورهم بواجب التحرر من الدولة الفاسدة، وتكفيرهم الحاكم المرتد، و انتقادهم العلماء لطواعيتهم للسلطات القائمة، ولموقفهم التسووي حيال الحداثة الغربية. فالإسلام نظام شامل كامل لايحتاج للتحدثن، أو للتكييف! وفيما يتعلق بالمرأة، فهم يؤيدون تعلم النساء، ومشاركتهن في الحياة العامة،شريطة أن تكون منقَّبة.ويتميزون أيضاً بميلهم لجعل الشريعة مشروعاً لامدونة ثابتة،والرهان هو إعادة تجديد اللحمة الاجتماعية انطلاقاً من السياسي،وليس مجرد تطبيق الشريعة. والمنطق الثوري لديهم يتقدم على تطبيق الشريعة. فسيد قطب يتحدث عن (فقه حركي) يصدر عن التأويل الذي يقوم به أولئك الذين يجاهدون من أجل الإسلام، وتبعاً للأوضاع، مقابل فقه العلماء الجامد.
فالإسلام عند الإسلامويين أيديولوجيا كاملة،ينبغي لها تحويل المجتمع، أولاً، لكي يمكن تطبيق الشرع. إنهم يدرجون بذلك الشريعة داخل كل أوسع: هو أسلمة المجتمع بكليته، وليس أسلمة القانون وحده.أما المعتدلون منهم فيدعون إلى أسلمة المجتمع من تحت: وهذه سياسة البنّـا، والمودودي. والراديكاليون يعتبرون أنه لا سبيل لأية تسوية مع المجتمع المسلم الحالي(الجاهلي). والسيد قطب الملهم الأكبر لهذا التيار، تمحور تحليله حول مفهومين: الجاهلية والتكفير،وهم يرفعون شعار (القرآن دستورنا). أما عن المؤسسات فلديهم مفهومان: الأمير والشورى، وحولهما ينبني الحزب السياسي الإسلامي والمجتمع الإسلامي. وعن كيفية تعيين الأمير، يرى (روا) أن فكرة الاقتراع والانتخاب تبدو، في نظر الكثير من الإسلامويين وكأنها تُضعف لحمة المجتمع والأمة. وبما أن الحاكمية لله وحده، فهم يرفضون الحاكمية الشعبية. ويميلون إلى اعتبار (أهل الحل والعقد) هم من يؤلف صيغة الشورى، ويتمثلون برجال الدين وبالمثقفين الإسلامويين "وفي الواقع أن الإسلاموي السني يُبدي نفوراً شديداً من تجسيد فكرتي الأمير والشورى بمصطلحات المؤسسات المستقلة القادرة فعلياً على انتاج ممارسة سياسية مستقرة، أي في هيئة دستورية"(9).
5ـ الاخفاق ودلالاته:
لعل مايريد (روا) البرهنة عليه إنما هو فشل التجربة الإسلاموية، وأن هذه التجربة لم تقدم على صعيد الواقع خياراً بديلاً جديّـاً للنظم القائمة. مستنداً على فحص ممارستهم العملية، وما خلقته في الواقع الاجتماعي من أطر سياسية، ونظم اقتصادية، وأنماط من السلوك، في الوقت الذي يعاين فيه منطق أفكار الإسلامويين لإظهار تناقضاتها الداخلية وعدم جدواها.
آ ـ الدولة الإسلامية المستحيلة، ومأزق الايديولوجيا الإسلامية:
يلاحظ (روا) منتقداً، أنه على الرغم من تأكيد الإسلامويين على ضرورة السلطة السياسية غير أن النقاش، حول المؤسسات من جهة ثانية، يوضع جانباً لصالح نقاش حول صفات القادة وفضائلهم. ويطرحون مفهومي: الأمير والشورى ويرفضون تحديدهما. ويورد رأي المودودي الذي يشير إلى أن الإسلام لاينص على أية صيغة معينة سلفاً لإقامة هيئة أو هيئات شورى، فبإمكانها أن تتجسد في صياغات دستورية متنوعة. فليس شكل المؤسسة المهم، بل الطريقة التي تتوارى بها المؤسسة خلف تطبيق المباديء الإسلامية. إذ أن مفتاح المستوى السياسي يكمن في أخلاق اجتماعية. وعندما يتعلق الأمر بمن يتولى القيادة ينحصر الأمر، عند المودودي، في رسم ملامح الحاكم المثالي. كذلك، يتحول التفكير حول الإدارة إلى نقاش حول فضائل الموظف ونزاهته. فالإسلاميون يتجنبون تعريف المؤسسات، التي يأنفونها، ويستغرقون في تفكير مطوَّل حول التقوى . ويخلص (روا) بذلك إلى القول: بما أن الأنموذج السياسي الإسلاموي، لا يمكن أن يتحقق، في الواقع، الاَّ في الإنسان، وليس في المؤسسات، فإن ذلك وحده يكفي لجعل المدينة الإسلاموية مشروعاً مستحيلاً؛ بل، يلاحظ أن منطق الإسلامويين الداخلي يقودهم إلى التبشير بنهاية الدولة: إذ ما الحاجة إلى المؤسسات إذا كان الناس جميعاً فاضلين. إذ إن قيام المجتمع الإسلامي الحق سيؤدي حتماً إلى اضمحلال الدولة، لأنه لايعود حينذاك من حاكمية الاَّ لله وتصبح العلاقات الاجتماعية تعبيراً عن الفضائل الفردية، فلا تحتاج إلى توسط المؤسسات. الغاية ليست الدولة وإنما التقوى، والتقوى ممارسة فردية وليست (ممارسة اجتماعية)(10). وعلى هذا يؤكد بعدها روا على عبثية المنطق الإسلاموي، فبعد أن انطلق من (السياسي)، يعود إلى شكل من أشكال السلفية الجديدة، أي إلى نفي المسألة السياسية: لا نستطيع إقامة دولة إسلامية الاَّ بمقدار ما يتوفر لنا مجتمع إسلامي.
ب ـ الحزب الإسلاموي:
يعتبر (روا) أن الحزب الإسلاموي يلعب دور الأداة التي لابد منها لمواجهة الحلقة المفرغة للنظرة السياسية للإسلامويين: لاوجود لدولة إسلامية دون مسلمين فاضلين، لا وجود لمسلمين فاضلين دون دولة إسلامية؟! ونمط الأحزاب الإسلاموية ونمط عملها يستبق في نظر مؤسسيه نمط اشتغال المجتمع الإسلامي. والاستيلاء على السلطة أما أن يتم بالتوسع وباستقطاب أغلبية الأهالي، أو بواسطة انقلاب يهدف إلى قتل (الفرعون)،الاَّ أن هذا كله يظل عند (روا)دون مستوى الوصول إلى "نظرية واضحة للاستيلاء على السلطة". بل يؤكد أن ليس هناك فكر سياسي إسلاموي حقيقي، لأن الإسلاموية ترفض الفلسفة السياسية والعلوم الإنسانية، بما هي كذلك. كما تُنكر كل ما من شأنه أن يكون نواة للانقسام، وعليه تستبعد أداة التحليل السياسي والعمل السياسي المتمثلة بالعلوم الإنسانية. فهي تنظر إلى العلوم السياسية التي تسلط الضوء على الأسس الموضوعية للتمايز والتشرذم، على أنها أداة تغريب للثقافة، وتأييد انقسامات الأمة. والتاريخ، عندها، ليس سيرورة قيام حداثة، أنه مجرد فاصل ضلال سيُمحي مع قيام مجتمع.
شمس الدين الكيلاني
المصدر: الأوان
إضافة تعليق جديد