مأزق ثقافة المقاومة
ماذا يقدم العالمان العربي والإسلامي الى البشرية اليوم وماذا يأخذان منها؟ سؤال يتطلب ملامسة مأزق الثقافة في هذين العالمين، المأزق المؤدي الى سوء فهم متبادل بيننا وبين سائر البشر، ويساعد في توليف صورة نمطية عنا لا تدعو الى الفخر. وفي المأزق ترتبك علاقة الفرد بالجماعة وبالزمان والمكان وعلاقته بالآخر القريب أو البعيد.
ويبرز في أيامنا الحاضرة تعبير «ثقافة المقاومة» الملتبس، وهو أطلق في عالمنا العربي في أواسط سبعينات القرن العشرين لدى «اشتعال» منظمات المقاومة الفلسطينية في لبنان. أما المقاومات السابقة المسماة «ثورات» أو «حركات تحرر وطني» فكانت نضالات من أجل الاستقلال ودفع الاحتلال أو الانتداب (الأوروبي تحديداً) الى الانسحاب، وكان أكثر النضالات الاستقلالية دموية في الجزائر التي قدمت حوالى مليون ضحية لتتحرر من الاحتلال الفرنسي.
ولم يتم تداول تعبير «ثقافة المقاومة» أثناء الحركات الاستقلالية العربية إنما جرى الكلام على ثقافة وطنية وعلى أن الاستقلال سبيل الى التحديث والإنماء. بل ان السمة الغالبة على قادة الاستقلال كانت الميل الى التحديث كما هو حاصل في أوروبا مع تعديلات طفيفة يقتضيها التراث الديني والشعبي، ولم يفكر هؤلاء القادة بالانفصال عن العالم والانعزال والعدوانية، وأقصى ما وصلوا إليه هو ابتداع جبهة عدم انحياز عالمية تضم الدول غير المندرجة في المعسكرين الشرقي والغربي، وهي جبهة سياسية لا حضارية، أي انها استمرت في الانفتاح على الحضارة الغربية بعدما استقلت دولها سياسياً وعسكرياً عن الغرب.
والواقع ان المقاومة الفلسطينية في لبنان لم تركز كثيراً على «ثقافة المقاومة» إذ كانت قيادتها الممثلة بالسيد ياسر عرفات تمسك بخيوط التعددية السياسية والفكرية وتحاول توظيفها من أجل تحقيق دولة فلسطينية، وفي سياق التعددية كان خيط الإسلاموية الذي تعهده السيد خليل الوزير (ابو جهاد) وضم الإسلامويين التقليديين والمجددين، ومن خلال هذا الخيط انتشر تعبير «الممانعة» والانعزال عن الحضارة الغربية بل العدوانية تجاهها. وساعد انهيار المعسكر الاشتراكي الشرقي في وقت لاحق في غياب معظم الخيوط التي كان يمسك بها السيد عرفات ليبقى في اليد خيط متين هو الإسلاموية التي اعتمدتها الحركات القومية نهجاً من دون أن تتبنى التسمية، معبرة عنه بكراهية الغرب وعدم الفصل بين الشأنين السياسي والحضاري في الصراع معه. وها أن خيط أبو جهاد يلفّ معظم العالمين العربي والإسلامي بدءاً بـ «حماس» فلسطين، وأخواتها المنتشرات من أفغانستان الى إيران الى العراق وصولاً الى مفجري مقاهي الإنترنت في الدار البيضاء.
هذه الخريطة الملتبسة لإسلاموية أبو جهاد العالمية هي ما يجعل تعبير «ثقافة المقاومة» ملتبساً لدى مطلقيه، إذ يبدون كمن يعتبر المقاومة عدواً للثقافة، فهي تتلبس ثقافتها الخاصة بها من المأثور الديني والشعبي المحافظ والمجمع عليه، في حين أن الثقافة الحديثة هي حركة دائمة تعتمد أسئلة تبدو أحياناً صادمة من أجل التطور والتجاوز.
وفي شعار «ثقافة المقاومة» افتراق واضح عن الثقافة الحديثة التي تعتمد الأسئلة الدائمة، لذلك يكاد أنصار «ثقافة المقاومة» وهم كثر في العالمين العربي والإسلامي، يعتبرون الثقافة الحديثة في مثابة الغريب وصولاً الى اعتبارها أحياناً في مثابة الخائن.
من هنا هذا الشرخ الواضح بين المثقفين القلقين على حضور بلادهم في المسعى الإنساني العام للسلام والتعاون و «ثقافة المقاومة» المطمئنة الى تراثها التليد المتميز عن البشر الآخرين والذي يقف تجاههم أحد موقفي الإلحاق والطرد. ومن هنا الجمود الحضاري الذي يترافق مع حركات المقاومة في مستوياتها المختلفة، من منتهى العقل والمنطق والمشروعية الى منتهى الغرابة والجنون العدواني.
محمد علي فرحات
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد