ما بين شامنا ويمننا: «نجد» الجغرافيا ومنتجها الوحيد
«الوهابيّة» النرجسيّة التي باستثمارها السلبي في ما سبق من أحداث يبدو أنها تترجم اعتراضها على «البركة الإلهية» التي أنزلت على الشام واليمن. يورد التراث الإسلامي أنه في الحديث النبوي قال الرسول: «اللهم بارك لنا في شامنا... اللهم بارك لنا في يمننا... فقالوا: وفي نجدنا يا رسول الله. قال ابن عمر: أظن أنه قال في المرة الثالثة: الزلازل والفتن هناك، وهناك يطلع قرن الشيطان» (صحيح البخاري). ولربما تكون البراديغما (النموذج) الوهابية فسّرت البركة بالقصف، ليصبح فعلياً: «نجدنا تقصف شامنا ويمننا».
شامنا (بمفهومها الأوسع) بين ثناياها حلب ويمننا فيها تعز. هما مترادفتان يراد لهما تلازم مسار ومصير عبر إسقاطات أحداث الأولى على الثانية، لما بينهما من أبعاد متماهية يمكن أن تؤثر جذرياً لمصلحة العدوان، إن نجحت. ولحلب كما لتعز انتلجنسيا (النخب الثقافية) وازنة وديموغرافيا مدينيّة ذات انتماء إيديولوجي متنوع مندمج مؤسساتياً وكيانيّاً في جسد وروح سوريا واليمن، ناهيكم عن احتوائهما كمحافظتين للثقل السكاني الأكبر في القطرين.
المدينتان ذواتا غالبيّتين حنفيّة في الأولى وشافعية في الثانية، وتموضعين جيو ــ استراتيجيين موازيين تاريخياً لأزمير ــ مدللة العثمانيين التي فلتت من منحنيات تاريخهم وورثتهم بالنسبة لحلب. وأيضاً هما عقدتا وصل وسطياً ما بين الشمال والجنوب، كما شكل الثقل والرمزيّة الاقتصادية للمدينتين رافعتين لهما إلى جانب قلعتيهما التاريخيتين والمطلتين المرتفعتين الكاشفتين: قلعة حلب وقلعة القاهرة.
أُريد استخراج ذاكرة بضع حلبيّة لأبناء من كانوا وقوداً للتعاطف الحلبي مع حماة في ثمانينيات القرن الماضي، وذلك لاستثماره في تمردها على دمشق المركز، واستغلال ديناميكيّة تعز منطلق حراك 11 فبراير الشبابي ضد سلطة صنعاء وتنشيطه ضد العاصمة نفسها قبل سلطتها لشبكها بعدن، وأيقنتهما (كالفلوجة) بعد تدجينهما عبر مشروع مفروض في سياق خدمة كولونياليتي قطر والسعودية وإعلامهما الساعي إلى احتواء قطاعات شعبية حتى الدوغمائية (العقائدية الجامدة)، عبر البروباغندا الموظفة بذكاء مرة وغباء لمرّات أخرى.
جاء ضرب الطبقة الاقتصاديّة الوازنة كإحدى أدوات العقاب لارتباط تلك الطبقة بالمركز
تأخّر التحاق المحافظتين بالمصير المرسوم لهما، فانطلقت متصاعدة زخات أثير الإرهاب الإعلامي ليصبح أهل حلب «شبيحة» يجرى الاقتصاص منهم عند الطرقات على يد مقاتلي بعض الريف الحلبي المنقلب على عقبيه (دُمج مؤسساتياً وحزبياً بعيد أحداث الثمانينيات لاحتواء حلب المدينة آنذاك)، ثم لحق أهل تعزّ بأقرانهم بعد خمس سنوات ليكون وصمهم بـ«لغالغة» و«براغلة» خصوصاً من أنصار الانفصال في الجنوب عموماً، وعدن خصوصاً.
العميد الدرعاوي «المنشق» محمد مفلح (رئيس المخابرات العسكرية في حلب وفاتح أبوابها لمقاتلي بعض الريف الحلبي ــ الإدلبي ــ الحموي) في لحظة خداع استراتيجي، تقمّص دوره في تعزّ العميد عدنان الحمادي قائد قوات اللواء 35 مدرع. وكما كان لـ«إخوان ريف حلب ــ لواء التوحيد» (القطري التمويل والرعاية آنذاك)، تم تنصيب الإصلاحي الإخواني محمود المخلافي من «الجزيرة» قائداً لـ«المقاومة الشعبية» في تعز، «الأيقونة» المجمعة من إصلاحيين وهابيين، وبضع اشتراكيين، وفلول المقاتلين المهزومين في مناطق طوق تعز على يد اللجان الشعبية والجيش اليمني، ناهيكم عن بعض أنصار «القاعدة» ممثلة بـ«أنصار الشريعة» التي أعلن أحد قادتها خالد باطرفي مؤخراً أنهم يقاتلون في 11 نقطة اشتباك على مستوى اليمن.
لم يكن دوماً التوفيق في وضع الخطوط البيانيّة للواقع الافتراضي تمهيداً لاستنساخه ميدانيّاً عن طريق الإعلام الصانع للحدث الدونكيشوتي هنا. لا النّاقل له موفّق عند كل مفترق طرق، إذ إنّه أثار مراراً سخرية من عدّهم ذلك الإعلام أدوات لمالكيه (لا حلفاء لهم)، وذلك لتركيز بعض ذلك الإعلام على النماذج الإسلاميّة لـ«المقاومة» بل «سرقة» ما يعدّه الانفصاليون (وهم بالأعم الأغلب من تيارات غير إسلاميّة) بعض إنجازاتهم العسكريّة ونسبها إلى من سبق، حتى انتشر فيديو ــ مشهد سيريالي أريد أن يكون أداة حشد وتعبئة «للجزيرة مباشر»: مزنّرات بقاذفات «الآر بي جي»، ومسلّحون وملثمون على ظهر دبابة استعداداً للانقضاض على الجبهة. لكن مهلاً، فجأة صوت خلف الكاميرا يشدّد ويذكّر بحتميّة الهرب (على قاعدة الهريبة ثلثين المراجل) فور انتهاء تصوير مشهد الأكشن لتتلقف «المسيرة» الفيديو فيصبح مسخرة تتلاقفها ألسن يمنيين جنوباً وشمالاً.
من ناحية أخرى، جاء ضرب الطبقة الاقتصاديّة الوازنة كإحدى أدوات العقاب الجماعي لارتباط واندماج وولاء تلك الطبقة للمركز ــ العاصمة، من حرق، وفكفكة وسرقة معامل حلب ونقل قسم كبير منها إلى تركيا. كانت بدايتها مع حريق معامل «علبي» ليتجاوز تعداد تلك المعامل ألفاً وفق مصادر في «غرفة صناعة حلب»، حتى نشأت طبقة جديدة من لصوص المعامل تزعّمها قائد «لواء شهداء بدر» خالد الحياني (قتل لاحقاً)، ناهيكم عن خطف وقتل مئات من أثرياء حلب وتجارها وأطبائها، وكل من يمت لهم بصلة قرابة جينية طلباً للفدية والابتزاز أحياناً، إن لم تتم التصفية بلزوم الثورة!
تمّ استحضار المشهد نسبياً في تعز لتعديل موقف بعض طبقتها الاقتصادية المتشابكة المصالح مع صنعاء، والمندمجة مؤسساتياً في كل دوائر الدولة، وذلك ترغيباً بسطوة مال وإعلام، وترهيباً عبر قصف طاول ممتلكات بعض البيوتات الاقتصادية العريقة تعزياً وأهمّها مجموعة شركات «هائل سعيد»، كأحد مصانعه للإسمنت، ما أدى إلى سقوط عشرات الشهداء، وحدا بالأخير ليستقيل بعد حين، معلناً الولاء لشرعيّة عبد ربه منصور هادي (المقلب بالدّنبوع بالمناسبة)، ومحرّكيه آل سعود من خلفه، من أجل درء الخطر عن رأس المال «الجبان» عند الأزمات.
كذلك نالت صروح حضارات بَصَمَتْ تاريخاً عبر قلاع شامخة بماهيّتها وجغرافيّتها (قلعتا حلب والقاهرة في تعز) فأبت نجد إلّا أن تترك بصمتها بقذائف «جهنّم» في الأولى وصواريخ «الأف 16» في الثانية، بلزوم البريستيج والخروج من روتين القصف.
بقي مشهد حلب ماثلاً أمام لجان صنعاء الثوريّة فسابقت الإسقاطات المتلاحقة لاحتواء ما أمكن منها تبعاً لتطوّرها، وكانت لتعز في معظم الأحيان خصوصيّة في عقل صنعاء حتى في عهد «أنصار الله» ولجانها الثوريّة التي ولمدنيّتها وعمقها الثقافي الحضاري الحركيّ، غضّت النظر عن دخولها إلا عبر بضع عشرات تحت يافطة دولتيّة وزي المؤسّسة الرسميّة.
حتى أن أولئك أرسلوا إلى مقرّ الأمن المركزيّ فيها برغم خطورة الموقف في مرحلة معيّنة، قبل اتخاد قرار التمركز في بعضها لاحقاً، استباقاً لإسقاطها بعيد الشروع في «ملشنة» بعض أحيائها حتى تمت السيطرة على تقاطعاتها وبعض أحيائها الرئيسيّة، إلا جبل جرة وبعض الجواري مثل حوض الأشراف ، معتمدين بذلك على حاضنة واسعة لهم فيها منهم أهم قيادات «أنصار الله» في تعز كسليم مغلس، ولحلفائهم من الأحزاب السياسية المناهضة للعدوان، كالمؤتمر الشعبي وبعض الناصريين والبعثيين، ناهيكم عن أغلبيّة تجمّعات الهاشميين والزيود والقسم الأكبر مما يعرف بالخدام والمهمّشين فيها.
وهؤلاء زاد احتضانهم لـ«أنصار الله» بعد كسر التنميط الطبقي وتعيين محمّد القيرعي محافظاً لتعز (بغض النظر عن ظهوره في فيديو أثار لغطاً في ما بعد)، يضاف لهم جميعاً مفتي تعز الشافعي العلامة الزّاهد سهل بن عقيل بما يملكه من رمزية ووقار، وهذا يسقط الحجج التي تصور «أنصار الله» وحلفاؤهم غرباء عن نسيج تعزّ. إذن، تجاوزنا اليوم الشهر الثالث للعدوان ولا يزال نموذج «حلب الشرقيّة» في تعزّ بامتداد نحو عدن بعيداً من منال ما ينتظره آلاف من مقاتلين في وضعية التوسّع لا الانكماش.
علي يحيى
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد