معركة حلب بين حرب المحاور والتدخلات الخارجية
أهمية معركة حلب بأبعادها المحلية والاقليمية والدولية، ليست بنفس الدرجة عند مختلف الأطراف المشاركة فيها. فالانتصار في هذه المعركة بالنسبة للجيش السوري يُعدُّ تدشيناً لطريق الانتصار في الحرب كلها، وهو ما تحومُ شكوك حول إمكانية التسليم به من خصوم الجيش وأعدائه. أما بالنسبة للفصائل المسلحة وبعض الدول الاقليمية الداعمة لها، فإن الانتصار في معركة حلب ليس حسماً ولا حتى اقتراباً من الحسم، بل هو سعي نحو فرض «التوازن». لكن هذا التوازن بالنسبة للفصائل أو الحسم بالنسبة للجيش، لم يعد له سوى أبعاد داخلية محدودة، فيما تسعى الولايات المتحدة إلى تطويق ساحة المعارك وإلغاء أي مفاعيل إقليمية أو دولية يمكن أن تترتب عليها.
على الأقل هذا ما تفرضه النظرة الاستراتيجية والمعطيات الجيوسياسية المحيطة بموقع محافظة حلب. إذ يعدّ محور حلب ـ دمشق القلب الجيوسياسي للدولة السورية، ومن يسيطر عليه يكون قد حاز أفضلية الحسم النهائي لمصلحته. وقد تمكّن الجيش السوري من تسجيل نقاط أساسية على طريق السيطرة على هذا المحور، فهو يسيطر على الرأس الدمشقي لهذا المحور ويعمل على تحصينه وتوسيع مساحة الأمان حوله، سواءً من خلال عملياته الأخيرة في الغوطة الشرقية، أو من خلال سيطرته السابقة على المحور الالتفافي البالغ الأهمية بالنسبة للعاصمة، محور جبال القلمون وصولاً إلى الزبداني وما أعقبها من محاولات للتقدم في وادي بردى. كما أن الجيش حسم في وقت مبكر معركة مدينة حمص التي تتوسط محور دمشق ـ حلب، مراكماً بذلك النقاط الاستراتيجية التي منحته أرجحية واضحة على الأرض.
بقيت بذلك حلب التي تقاسم الجيش والفصائل المسلحة السيطرة على شِقّيها الغربي والشرقي، من دون قدرة أي طرف على بسط كامل سيطرته على المدينة. غير أن الفصائل حققت نقطة كبيرة لمصلحتها تمثلت بسيطرتها على محافظة إدلب، وهي محور التفافي بالغ الأهمية يصل حلب مع الساحل السوري، وبالتالي أصبحت الفصائل تملك جبهة قتال ضد حلب مفتوحة على خطوط إمداد وفيرة تؤمنها الحدود التركية. وقد حاول الجيش وحلفاؤه، بغطاءٍ من الطيران الروسي، السيطرة على طريق حلب ـ إدلب لإلغاء مفاعيل هذا المحور الالتفافي، إلا أنهم تراجعوا بعدما وصلوا إلى خان طومان، لتشتعل بعد ذلك ما أطلق عليها «ملحمة حلب الكبرى».
وكان ثمة تسابق واضح على تطويق حلب، إذ إن مسار «جيش الفتح» منذ سيطرته على خان طومان كان من المتوقع أن يصل إلى الراموسة بهدف محاصرة الأحياء التي يسيطر عليها الجيش، فيما كثّف الجيش عملياته على محور كاستيلو، محققاً السبق في فرض الطوق على الأحياء الشرقية الواقعة تحت سيطرة «جيش الفتح» وحلفائه.
إغلاق طريق كاستيلو حوّل المعركة بالنسبة للفصائل والدول الداعمة لها إلى معركة حياة أو موت، لأن تكريس الطوق وتضييق الحصار يعني في ما يعنيه أن الجيش يكاد يحسم الحرب لمصلحته. وهو ما دفع إلى الحشود الضخمة والمساعدات الهائلة التي عبرت الحدود التركية عبر إدلب، من أجل العمل على استعادة التوازن في حلب، من خلال استكمال الخطة القديمة المتمثلة بالسيطرة على الراموسة، وهو ما حققه «جيش الفتح» نسبيا.
لكن حلب بموقعها فوق هضبة حصينة وبأبعادها الجيوسياسية، لا تمثل أهمية داخلية فقط، بل لها أهمية إقليمية واضحة. فحلب عبر الفرات ترتبط مع الجزيرة الشامية وصولاً إلى بلاد ما بين الرافدين (العراق)، وعبر غازي عنتاب تتصل مع هضبة الأناضول. ولا يخفى أن من أهم مميزات موقع سوريا الجغرافي أنها تتوسط بين هضبة الأناضول والهضبة الايرانية (هضبة فارس)، وهذا ما قد يفسر سبب الحشود الأجنبية من مختلف الأطراف بالقرب من حلب المحاذية لهضبة الأناضول.
وهنا يأتي الدور الأميركي بملابساته الخطيرة التي يخيم فوقها طيف التقسيم. فواشنطن تحالفت مع «قوات سوريا الديموقراطية» وهي على وشك إعلان سيطرتها الكاملة على مدينة منبج الواقعة شرق حلب وغرب نهر الفرات، وسط معلومات عن قيامها ببناء قاعدتين عسكريتين في عين العرب والرميلان. وسبق لهذا التحالف الأميركي ـ الكردي أن سيطر على الحدود السورية ـ العراقية من أقصى شمال الشرق وصولاً إلى بلدة مركدة. وحاولت واشنطن السيطرة على مدينة البوكمال الحدودية مع العراق بالتنسيق مع «جيش سوريا الجديد» لكن محاولتها الأولى باءت بفشل ذريع، من دون ان يعني ذلك أنها لن تكرر التجربة، خصوصاً بعد تصريحات وزير دفاعها آشتون كارتر بخصوص نية بلاده التخطيط لعمليات عسكرية ضد «داعش» انطلاقاً من الجنوب، مشدداً على أن الهدف هو الفصل بين سوريا والعراق.
هذا الكلام يعني شيئاً واحداً هو أن واشنطن من خلال سعيها إلى محاربة «داعش» تريد تحقيق أهداف أخرى قد تكون أكثر أهمية، وهي تقطيع سلسلة «محور المقاومة» عبر إغلاق الحدود البرية بين دمشق وبغداد، ومنع التواصل مع إيران عبر الطرق والممرات البرية. بهذا المعنى تكون حلب قد فقدت جزءاً من بعدها الاقليمي. وكانت الولايات المتحدة قد مهّدت لمعركة حلب قبل حوالي ستة أشهر، سواء بإرسال تعزيزات عسكرية وصل قسم منها إلى مستودعات بعض الفصائل في حي بني زيد وصادرها الجيش السوري بعد سيطرته على الحي، أو من خلال مراكزها البحثية التي كانت تحذر من خطورة تقدم الجيش السوري في المدينة وما يعنيه ذلك من انتصار لروسيا التي تدعمه، وهو ما يؤكد أن واشنطن تعمل جاهدة على استنزاف الجيش السوري وداعمته موسكو لمنع التدخل الروسي من تحقيق أهدافه.
أما البعد الآخر المتصل مع تركيا، فقد كان واضحاً منذ وصول الجيش السوري إلى مشارف تل رفعت وإعزاز كيف استنفرت الدول لمنعه من التقدم بهذا الاتجاه، حتى أن الأمر كاد يهدد بحرب إقليمية وسط تهديدات سعودية وتركية بالتدخل المباشر. وثمة احتمال آخذ بالبروز يتمثل بأن «الوحدات الكردية» ستعمل جاهدة على استكمال حلمها بإنشاء الفدرالية، وهو ما يتطلب منها السيطرة على مدينة إعزاز من أجل الاتصال الجغرافي مع كانتون عفرين. وسواء تحقق الحلم الكردي أم بقيت إعزاز بيد الفصائل في ظل رفض إقليمي متواصل لتقدم الجيش إليها، فإن هذا في الحالتين يعني خلق «كيان عازل» بين حلب وهضبة الأناضول، وهو ما يؤدي إلى فقدان الجزء الثاني من بعدها الاقليمي.
وربما هذا ما يفسر تهديد «جيش الفتح» الأخير بأن معركته في حلب موجهة ضد «قوات سوريا الديموقراطية» أيضاً، وهو في حال حصوله سيكون إحدى الثغرات التي تتفجر من خلالها تراكمات الخلاف بين أنقرة وواشنطن. كما أنه يفسر تدهور العلاقة بين إيران من جهة و «حزب العمال الكردستاني» من جهة اخرى بعد أعوام تخللتها مستويات مختلفة من التنسيق أو الحياد، ويكشف عن عدم رضا وربما «قلق» إيراني من الارتهان الكردي المطلق للإرادة الأميركية والعمل لحسابها.
وعليه، فإن معركة حلب هي بالتأكيد معركة مهمة على صعيدي الحسم أو التوازن، إلا أنها ما زالت في بداياتها وفي أطوارها الأولى، لأنها بناءً على المعطيات السابقة معركة مركبة ومعقدة، كما أنه من المشكوك فيه أنها كافية وحدها لحسم الحرب، خصوصاً في ظل استمرار تدفق الدعم الخارجي عبر الحدود. ولهذه المعركة شقان: الأول حسم البعد الداخلي، والثاني حسم البعد الإقليمي، من دون التغافل عن احتمال استمرار المساعي الأميركية لفرض سيناريو التقسيم وجعله قابلاً للتطبيق.
عبد الله سليمان علي
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد