ملف عن رحيل سعيد عقل
طلال حيدر: لن يُكمل جملتَه أحدٌ
عندما رحل فلليني في إيطاليا، لم يقل أحد للشعب الإيطالي أن يحزن أو ينكّس الأعلام. عندما عرف الناس بموته، فعلوا ذلك من تلقاء أنفسهم. أوقف سائق التاكسي سيارته وانحنى، وكذلك فعل الموظفون ورواد المقاهي وربات المنازل والمارة في الشوارع. وقفت إيطاليا ساعةً في الطرقات حداداً عليه. أما نحن... في هذه الدولة المعتّرة التي وصلنا فيها إلى عصر الانحطاط كبلد، على الأقل فليعلنوا الحداد. ولو كان هناك عالم عربي حقيقي لأعلن الحداد. عندما يتجاوز شاعر أو فنان ما حدود بلده تحزن عليه كل البلاد.
أطلب من كل اللبنانيين أن يقفوا دقيقة صمت على غيابه. وبغض النظر عن مواقفه السياسية، وبغض النظر عن تأليهه للبنان، وسواء أعجب به البعض أو لا، فإن سعيد عقل لن يتكرر.
كانت المحكية زجلاً قبله. سعيد عقل هو أول من جعل الشعر بالمحكية يستحق أن يوصف بالشعر. لم تكن العامية بديلاً بالنسبة إليه. هو من أرسى دعائم الفصحى والرديف الذي هو اللغة المحكية.
بغياب سعيد عقل، سننتظر مئات السنين لكي يأتي أحد ما ليكمل الطريق. سعيد أخذ جملته وراح. عاصي الرحباني فعل ذلك قبله وراح. زياد أكمل الطريق بطريقته. ولكن سعيد عقل صعبٌ أن يكمل أحد طريقه.
طلال حيدر: شاعر- الأخبار
------------------
أدونيس: الشاهد الآخر
سعيد عقل شاهدٌ آخر بين الشّهود الكبار على أنّ هوية الإنسان، فرداً وَجَمْعاً ووطَنـــاً، لاَ يَصـــنعها المال ولا الدّين ولا السّياسة. يَصنـــعها في المـــقام الأوّل الإبداع وتجاربهُ الكُبرى الخَلاّقة في مخـــتلف الــميادين المعرفيّة.
غيابهُ اليوم إنّما هو حضورٌ آخَرُ يَسْتَنْفرُ ما تَبَقّى مِن الطّاقة العظيمة الطافية في لبنان، والتي تُفَتّت وتُهْدَر عَبثاً في هَباء السّياسات. يَسْتنفِرُها لكي تَتَدارَكَ ضِياعها، ولكي تتجلّى من جديدٍ في تأسيسٍ سياسيٍّ اجتماعيّ ثقافيّ جديرٍ بفرادةِ لبنان الواحد الكثير.
أدونيس- الحياة
--------------------------------
الفصل الأخير من مصرع دونكيشوت
بالأمس تسربت من «أجراس الياسمين» دقات حزن خافتة، بطيئة، كأنها وقعُ القدر. النبأ الذي كنا نتخوف منه في سرّنا، جاءنا على غفلة حين لم نعد نتوقعه وبدأنا نصدّق «الأعجوبة». لقد مات سعيد عقل. يومان بعد صباح. يا للمصادفة الغريبة. ماذا يحدث في لبنان؟ كأنّ عصراً برمّته قرر أن ينتهي فجأة، بعد احتضار سرّي طويل. لبنان الأسطورة، تلك الصخرة المعلّقة بالنجم، لبنان الادعاءات والأوهام الجميلة، لبنان الرخامة اللفظية والإطناب، لبنان الخرافة الصوتية والحلم الحضاري والعِزّة القومية، لبنان القصيدة المكتملة أيضاً، ينكسر ككريستال الصالون الذي كان يتطيّر منه صغار العائلة، وتختفي فقاعات لم تبرح مرحلة الطفولة بين براءة و... سذاجة!
إنها النهاية الرسمية لصورة معينة عن لبنان، قاومت الزمن طويلاً، تمردت على كل أشكال الحروب والتشظيات. أستاذ سعيد انسحب بالتدريج، كان قد أخذ ينزوي ويتقوقع على نفسه. خرج من دائرة الضوء، شيئاً فشيئاً. ثم مضى الشاعر الزحلاوي صاحب القامة الضخمة، والشَعر المنفوش والحاجبين الكثيفين، الشاعر الذي يتكلّم بيديه ويخاطب معاصريه ـــ والآلهة وسائر المجرّات ـــ بصوت ونبرة هما من سمات العرّافين والرسل والحكماء. المعلم الاشكالي الذي يعتز بأنه درس الفقه كما درس اللاهوت، والشاعر الذي لم يعترف بأنّه راكَم الروائع والسقطات، جمع طوال حياته بين الحكمة والشعر، بين الميثولوجيا والتاريخ، الفلسفة والدين، الفخر الجاهلي والغنائية الرومنطيقية، البرناسية والرمزية، التمرد على القوالب والكلاسيكية المطلقة، الثقافة الانسانويّة الشخصانية والنزعة الشوفينية، التبادعية والهذيان، المعمعة السياسية والوعي الطوباوي الغيبي... جمع بين التراجيديا والملحمة من جهة، والكوميديا والـ farce والتهريج في بعض الأحيان.
نستعيد كل ذلك ونحن نلقي على صاحب «رندلى» التحية الأخيرة. نعترف له بأنّه آخر الشعراء الكلاسيكيين وأحد أكبر شعراء العرب في القرن العشرين. دفع الفصاحة إلى آخرها، وطوّع العَروض وفكّك أوزان الخليل لينفحَ فيها روحاً جذلى كالتي لمعشوقاته الافتراضيات وبطلاته المستعصيات. مُعاصر السياب وعبد الصبور وخليل حاوي، جدّد قلب القصيدة الكلاسيكية وقالبها، ابتكر في اللغة والموسيقى والايقاع والصور والمجاز والرمز... فعل كل ذلك وعينه على حداثة تبهره وتخيفه. هو «الرجعي» الذي يكره فرويد وماركس وبيكاسو. ويخاف الحداثة كما يخاف جسد المرأة، كما يريعه تحقق الرغبة. كان يؤلّه أمه ويحتقر في لاوعيه النساء الأخريات و«نجاسة» أجسادهن (هِـمْ بالنظر، أبقى الأثر ما لم يزل موصدا...). كان يحب الجمال طالما انه غيبيّ وفوقيّ (أجملُ منك لا). هكذا اعتكف في «جبل البرناس»، على خطى بول فاليري وشعراء النحت الواعي، حتى قال عنه صلاح لبكي إنه ينحت اللغة بلا إحساس، ويتغزل بالمرأة بلا شعور. أما أدونيس، فصنّفه في «مقدمة الشعر العربي» ضمن مدرسة «الرومنطيقية الشكلية». ورأى أنه «يحتل مكانا بارزاً، بل حاسماً، في تنقية اللغة الشعرية التي كانت سائدة قبله، وايصالها بحد ذاتها الى مدى جمالي قصيّ».
سقطات سعيد عقل السياسية فظيعة (العداء العنصري للشعب الفلسطيني، وإن في سياق حرب أهليّة، والفخ الاسرائيلي، علماً انه كان يؤمن فعلاً أن الخطر الحقيقي على «لبنان» هو اسرائيل). لكنّ هذه السقطات جزء من تناقضاته، وفي كل الأحوال لا تقلّل من أهميته كشاعر، كما لم تقلّل سقطات فردينان سيلين وعزرا باوند العنصرية والنازية، من أهميتهما في تاريخ الأدب العالمي. ذلك أن سعيد عقل بطل مأسوي، أراد من خلال ملحمته الشعرية «قدموس» أن يهندس «الروح اللبنانية»! هذا الوعي الغيبي، المدرسي، هو بصراحة جزء لا يتجزّأ من الشخصية اللبنانية. ولا يمكننا أن نتصور الحالة اللبنانية، بإشكالياتها وتناقضاتها ووجهها المظلم أيضاً، من دون سعيد عقل. وفي الوقت نفسه، فإن نبيّ «اللبنانولوجيا» ـــ من الرواقي زينون إلى طور إيل الجبيلي، مروراً بأوروبا وأليسار ـــ غنّى دمشق بأروع القصائد (أهـلكِ التّاريـخُ من فُضْلَتِهم ذِكرُهم، في عُروةِ الدَّهرِ وِسَـامْ…). لقد «انعزل» في دعوة القومية اللبنانية، هارباً من الفكر القومي السوري، واستبدل بها حساً عروبياً كامناً في تكوينه وإرثه وثقافته ولغته وعواطفه، كما يتجلّى في نشيد «العروة الوثقى» الذي ألفه أواخر الثلاثينيات (ولنا صهلة الخيل من الهند الى الاندلس).
ليس سعيد عقل سوى رومنسي مثالي، يشكل مساره سلسلة ارتطامات بالواقع. في التناقضات التي هي في صميم تاريخنا الحديث، يكمن سر عبقريته، ومن الصدمات التي خضع لها تولدت ابداعاته الفريدة وسقطاته المروعة. دونكيشوت الذي أمضى عمره يضرب طواحين الهواء بسيفه الكرتون، كان يعيش في عالم طوباوي ومثالي ومجرد. وأحلامه أخذتنا إلى ذروة الشعر. وإلى آخر الفصاحة. ومن دون أن نتنازل الآن عن حق النقد القاسي والصريح، لهذه الشخصية الفذة، الاستثنائية في الذاكرة الوطنية وفي سجل الثقافة العربية، لا بد من أن نقبلها كما هي، بكل وجوهها، وننحني أمام النعش وهو يدخل التاريخ. على كل حال، فإن سعيد عقل دخل تاريخ الأدب منذ عقود وانتهى. انتهى عندما استسلم لهذيان اللغة اللبنانية والحرف اللاتيني، (علماً أن قصائده العامية القديمة التي تلقف بعضها الرحابنة، وحملها صوت فيروز، هي من عيون الشعر)... كان الأستاذ سعيد قد أسدل الستار على ابداعه الشعري منتصف السبعينيات مع بداية الحرب الأهلية. الآن ها هو الشاعر يسدل الستار على حياته ويمضي إلى نجمته المعلّقة… لقد إلتحقَ الطيف بالأسطورة.
بيار أبي صعب- الأخبار
------------------
ركّعَ الزمن أمام شعره
عاش سعيد عقل (زحلة 1912 ـ 2014) زمناً أكثر مما يحتاج إليه الشعراء لصناعة أسمائهم وتخليدها. أدرك صاحب «رندلى» (1950) نهايات عصر النهضة، وبعض شعراء الكلاسيكية الجديدة. جايل رواد الحداثة الشعرية، بشقّها التفعيلي أولاً في نهاية الأربعينيات، ثم بشقها النثري في نهاية الخمسينيات. واصل نجوميته إلى جانب الأجيال التالية، بينما ساهم الرحابنة وفيروز في تعزيز هذه النجومية عبر قصائده المغنّاة.
ربَّى سعيد عقل مهاراتٍ وتقنياتٍ تحولت إلى نوعٍ من الجِلْد اللغوي والبصمة الشخصية. وهي معالمُ وسجايا يصعب التخلي عنها، وخصوصاً إذا كانت سبباً في شهرة صاحبها وفرادة تجربته الشعرية. بهذا النوع من المهارات، طرق باب الخلود في سنٍّ مبكرة، بل يمكن القول إنه حقق في النصف الأول من عمره كل ما كان يطمح إليه. ما تلى ذلك كان تنويعات وتفريعات على المرونة الهائلة التي أبداها في تعامله مع اللغة، وقدرته غير العادية على استدراج الاستعارات والصور إلى قصائده. القصائد نفسها تحولت إلى فضاءٍ تتلاطم فيه الصور والمنشآت البلاغية المبتكرة. كأن ما كتبه الشاعر في النصف الأول من حياته كان بمثابة احتياطي لتمديد حضوره الشعري لاحقاً. طوَّر سعيد عقل المهارات ذاتها التي خدمت فهمه الخاص للشعر، وتعمّق أكثر في موضوعاته المفضَّلة.
صار معروفاً بقصيدته، وصارت قصيدته معروفة به. في الأثناء، خاض الشعر العربي في مياهٍ كثيرة. استجدت نبراتٌ وانحسرت أخرى. نزل الشعراء من علياء النبوة والرؤيا إلى دَرَك اليومي والمهمّش والواقعي، بينما حافظ هو على معجمه الفخم وصياغاته الإعجازية ونبرته العُظامية التي صارت ــ مع طريقته في الإلقاء، وفكرته الأسطورية عن فرادة لبنان ــ مادةً للتندر والمحاكاة الساخرة.
هكذا، ظل عقل حاضراً في الحياة الشعرية الراهنة، وبقي شعره وراء ظهور الشعراء الجدد. في السنوات الأخيرة، أسرف الشاعر في مديح شعره وتبخيس شعر سواه، مانحاً بركته لمن سبق لهم أن أُعجبوا به أو مدحوه. تبخيس لم ينجُ منه المتنبي نفسه. بدا كأنه في غيبوبة شعرية لا تسمح له سوى بسماع نرجسيته المتضخمة.
الواقع أن كل هذا كان جزءاً جوهرياً من حضور صاحب «لبنان إن حكى» (1960). كان سعيد عقل ظاهرة فريدة أو ماركة شعرية. ما إن يلفظ أحدٌ اسمه حتى تتناهى إلينا صورة الشاعر المتأنق، المنفوش الشعر، الجهوري الصوت، والمُفاخر بعبقريته وعبقرية لبنانه. المشكلة أن شغفه بلبنان وتأليهه له ترافق مع تنظيرٍ شبه مَرَضي لحضارة فينيقية منقرضة قادته إلى تبنّي نظرةٍ عدائية للعروبة، وازدراءٍ للتراث العربي. ترجم سعيد عقل جزءاً من هذا الشغف بإنجاز ديوان «يارا» (1961) بالحرف اللاتيني، داعياً إلى الكتابة باللغة العامية أو «اللغة اللبنانيي». تجربة يتيمة لم يُجارِه فيها أحد، ولم يكرر هو التجربة بعد ذلك.
لعل منجزه الأهم موجود في شعره. علينا أن نبعد العديد من آرائه وتنظيراته وميوله الفكرية والسياسية، كي نرى لمعان هذا الشعر المؤهَّل كي يظل لامعاً بعد غيابه. علينا أن نخلِّصه حتى من الطريقة التقليدية التي مُدح بها وصُنِّف بحسب معاييرها. علينا أن نختلي بقصائده، الفصيحة والعامية، ونستسلم لموهبته الفريدة في اختلاق المعاني وتأبيد صلاحيتها أمام الزمن. في الشعر، لا يمكن التشكيك بموهبته الفذة، بل إن سعيد عقل يبدو أحياناً كأنه ضحية موهبته. كأنها أصابته بنوع من «جنون» العظمة الشعرية. جنونٌ ساهم هو، وبعض المقرّبين منه، في تحويله إلى صفة غير قابلة للتصديق، وتستدعي الابتسام أحياناً.
لا يغيب سعيد عقل عن شعره. لا نتكلم هنا عن النرجسية المتفاقمة فقط، بل عن استعراض بطولاته البلاغية داخل قصائده. تكاد كل قصيدة، بل كل بيت أو سطر، أن يكون مناسبة لرهانٍ صعب يخرج الشاعر منه بانتصار جديد على اللغة. في سبيل ذلك، لعب صاحب «قصائد من دفترها» على اشتراطات البحور العروضية. أخذ التفعيلة وترك البحر. ارتاح إلى المجزوءات. أكثر من الجوازات. أحاط قصيدته بقيود وتحديات إيقاعية إضافية. صعّب على نفسه الوزن كي يصل إلى المعنى المستهدف. استباح البنية التقليدية للجملة العربية من دون أن يُفقر فصاحتها وجزالتها. لم يكن غريباً على شاعرٍ بهذه المهارات والطموحات أن يستهل باكورته الشعرية بقصيدة يقول فيها: «ألعينيكِ تأنّى وخطرْ/ يفرش الضوءَ على التلّ القمرْ/ ضاحكاً للغصنِ/، مرتاحاً إلى/ ضفة النهرِ، رفيقاً بالحجرْ»، حيثُ الصورة مترجمة على شكل مشهد يتتالى بحسب وصول ضوء القمر إلى عناصر المشهد نفسه. هذا الأداء البلاغي الذكي سيتطور باتجاهات مختلفة. ستتعقّد جملة الشاعر أكثر. سيُكثر من مواربة اللغة، ويَعافُ مواجهتها مباشرةً. الغزل نفسه صار مناسبةً للإتيان بصورٍ خارقة تليق بامرأة خارقة: كأنْ يقول في ديوان «أجمل منك لا» (1960): «سمعتُ قبل أنْ/ كنتِ وكان الخمرْ/ بحلوةٍ تقول للزمن:/ قفْ! أنا ما تُضمره من أمرْ»، أو: «مدّت إلى الجفن يداً في لمْسْ/ فطارت الشمسُ عن الإصبعْ». الطريق إلى الصور والتراكيب الخارقة كانت تخسِّر القصيدة انسيابيتها أحياناً، وتجفِّف منابع العاطفة فيها، ولكن ذلك كان يهون أمام رغبة الشاعر في ممارسة رهاناته التخييلية الوعرة. ظلت الخلاصات التأملية والفلسفية الإعجازية تشغل مخيلة الشاعر الذي رأى نفسه فوق البشر والشعراء، وفضّل الكلام مع الطبيعة والغيب والزمن والوجود والأبدية، مقارناً نفسه بالكليات والمجازات والآلهة. «هم ركعوا للزمانْ/ لا ترضَ، ركِّعه لكْ». هكذا كتب في ديوان «الخماسيات» (1978) الذي ستُنجز فيه القصيدة على هيئة خلاصات فلسفية وتأملية يحاول فيها الشاعر معانقة المطلق واللامتناهي. في واحدة منها يصبح هو الشعر. ثم يصير إلهاً للشعر يمكنه أن يكون نديماً لإله الكون: «الليلُ زهرُ آسْ/ ربّ، اشربِ الهنا/ معي كبعضِ ناسْ/ واندقَّ بي أنا/ كاسٌ وأنتَ كاسْ». العُظامية ترقى إلى ذروتها لدى الشاعر الذي قرّب خلق الشعر من خلق الكون، ساعياً إلى كتابة شعرٍ إعجازي، مبتعداً عن الدروب المعبّدة، وساكناً في الصّعب: «كأني مهبُّ الريح، والصعبُ منزلي/ وشغلي حطُّ الحُسنِ في الحجر الصلدِ».
في تجربة سعيد عقل التي ستظل محكومة بآراء متناقضة، تجاورت العظامية مع الفرادة والبراعة. اتهمه صلاح لبكي بقلة العاطفة، وصنّف أدونيس شعره في خانة «الرومانطيقية الشكلانية»، ووضعه آخرون بين الرمزين. لكن صاحب الفخامة الشعرية قلّما اكترث بتقييماتٍ كهذه. الخلود هو ما كان يشغل بال الشاعر وبال قصيدته. ولعلَّه نجح في ذلك.
* يسجّى جثمان الراحل يوم الاثنين 1 ك1 في تمام الساعة 11 صباحاً في «جامعة سيدة اللويزة»، وسيتوالى كبار الفنانين على تقديم الترانيم لروحه، على أن يوارى في الثرى عند الساعة الحادية عشرة والنصف من صباح 2 كانون الأول (ديسمبر) في «كاتدرائية مار جرجس» (وسط بيروت). تقبل التعازي يوم الخميس 4 كانون الأول في الكاتدرائية من الساعة الحادية عشرة لغاية السادسة مساءً، ويوم الأربعاء 3 كانون الأول في «مطرانية الموارنة» (كسارة ـ زحلة)
حسين بن حمزة- الأخبار
------------------
صائغُ الكلمات
الخلاصة هي الخلاصة، وسعيد عقل هو سعيد عقل. ذلك الهابط من المدينة، من زحلة، من ذلك المدى البقاعي، من تلك الأرض الغنّاء. وذلك الآتي كأنه الشهاب الجديد الذي لم يغادر السماء، لم يترك الفضاء القريب ولا سيما البعيد. ولم يترك الأرض التي عليها درج أدراجه وأرسل موهبته الكامنة في قماشة من المخمل حيث الزمرد وحيث قرى عالقات وحيث لآلئ هي من الطبيعة كما من ذاته البرّاقة، وحيث القبس السكران والرياح الظريفة التي تهبّ شعلة فشعلة. وتهب من هذا الشاعر الذي راح والكلمة، راح واللغة العربية، راح واللغة المحكية، رواحاً الى الأسرار وإلى اليقظة كما في الحكاية المتوارثة. وهو أيقظ اللغة وفعل ما يفعل الحبيب الساهر على حلوته النائمة في ما يشبه القليل وفي ما يشبه الكثير. وفي ما يشبه سيداً في مجاله، في متسع قصره. وهو الذي أتقن الصناعة المضيئة وأتقن الفروسية في صدّ النافل والحفاظ على الجوهر، على الناصع في القول. والناصع في زواجه هذا بين الحرف والحرف، بين سطر وسطر، وبين جديلة وجديلة، وبين تختٍ من الواقع الذي يتسامى وتختٍ هو القصيدة، وهو المرأة وإنما في مهابتها وفي عليائها وليست كأنها لا شيء.
سعيد عقل الشاعر الذي أربى على المئة ونيف من الحياة الصريحة والمنبعثة من رمادها والتي كان لها الآخذ، وكان لها العطاء، عادة صارت إليه من أبيه وأمه. سعيد عقل الذي أمامنا والذي إطاره كبير إنما ينصرف لحظة قصيرة الى مثواه، الى بهاء الآخرة، لأنه هو، قبل ذلك، يظل يحضر في ملء الحضور وفي ملء الوجود، ونراه وسوف نراه الى حقبة أخرى وإلى مساحة ولا نهاية.
والرؤية هي من الجودة ومن الإتقان، بحيث تصل الى مكان قصي، الى حدود الألق، الى حدود كأنها ألوان يلي بعضها بعضاً. وإلى أن هذا الغنى لديه كأنه أغنى وأحلى من قوس قزح.
سعيد عقل كان الذي، منذ أن غدا فتياً، رزق أن يكون متلاعباً بالوتر، بل بالأوتار. وأقصد أنه مذ عكف على الكلمة كان في مستوى الصائغ، وكان في لمعان السيف حين يطير من غمده، وحين عمل على استعماله في أبجديته، في محترفه المزدحم، وفي كونه ينظر الى هذه الأداة نظرة المندفع اندفاعاً صوب الغاية، غاية الحصول على المجد وعلى المتعاظم، وكأن ذلك في وجدانه، يضاهي أعمدة بعلبك، ويضاهي مآثر جمة كانت المجهول وكانت غاية على حدة. وهو جاء إليها، وجعل دوره في الباحة، باحة الشعر اللبناني والأطراف المتمادية في هذا الشعر وهذا التراث حتى لتطفح الكأس في قاموسه، وفي دربته القائمة على الوزن والقافية. إذ هو ذو براعة ولا انتهاء، في صنع البيت، وفي بحور الخليل، ولعله مثال سينقضي، ولن نجد آخر في ما كان شاعراً وناثراً على نوعية لا تقاس بسواها.
وسعيد عقل مرت عليه السحابة بل الغيوم، وكان المطر عنده بين غلطة وصواب. وكان أنه نظرة سخية نحو وطنه، نحو لبنان الأكبر من الدنيا، من أن تصدمه عقبة كيفما كانت، ويتناثر في الهواء حتى بلوغ الحضيض.
كان سعيد عقل في صدد وطنه المثالي، ذلك الغريد، ذلك الطموح، وذلك الشاعر الذي كان اكتشافه يصقل ويصقل ويطلع ثم يطلع. وكان صلاح لبكي وفؤاد أفرام البستاني هما الدفة، وعبرهما انطلق الزحلاوي القدير والساطع. ولما تم ذلك، جاء الى بيروت لافتاً إلى قلمه، إلى قصيدته، إلى قصائده، الى مسرحيته «قدموس» وإلى جملة أركانه الأدبية، وكان الذي هيأ المائدة. مائدة مؤلفاته، وإذا الجميع في لفح بيدره وما أعذبه، وتجربته وما أطول ما كانت، بحراً من السنوات السمان، ومن التأنق ومن اللعب بفن اللفظة وفن الحركة وفن الفاصلة وفن التقنية. وهنا، قبل أن يكون الغد، نقول إن موجة الحداثة حين اهتدت إلى مصيرها، وانجلى الليل المستطيل بين العكس والعكس هي تخلت بعض التخلي عما لدى سعيد عقل ولدى الجيل السابق حيث هو، ولدى الصخب والرفقة والمتأثرين عما سكن وكان المنشود في تلك الأيام الجميلة، قبل أن يحل الصحو في العقل المطل الذي أطلّ وغرس الراية في التلال الجدباء، وانتقل الزمان الى زمان قشيب يهوى الارتحال الى المنصة المفتوحة على سعادة مطلقة.
إنه ينتحي ولا غياب وإنه في البهو ولا في انتظار. حاشاه ونحن نمنحه الجائزة واسمه المرنان.
شوقي أبي شقرا- شاعر لبناني- الأخبار
------------------
... وتيتَّم لبنان!
بهامتِه الأدبية والفكرية الشامخة، بقامته المديدة العالية الجبين، بطلَّته البهية الأنيقة... مذ عرفناه، لم يُعوِّدنا مرّةً أن يلتوي له غصنٌ، أو تُشْعَر منه كأسٌ، أو تترنَّح فيه ورقةُ عمر. فهل يمكن أن نصدق أن الموت «الذي كان لعبته»، يمكن أن يخطفه من الوطن العظمة الذي أحب، بل قل، بعد الله، عبد؟
كأني، برحيله عن مئة وعامين، يتيتَّم لبنان.
مذ عرفناه، ما عرفناه إلَّا للخطر صديقاً، قاهراً القلق، مسكوناً بالعظمة. ما علَّمنا إلَّا أن نفرحَ، إلَّا أن نُصبحَ ونُمسيَ على مجد، أن نمتشق الحزن ليس إلَّا لنقهرَ به الحزن، أن نجعل أعيننا تُنبت ورداً لا دمعاً.. فما صدَّقنا، ولن نصدق إلَّا أنَّه يغلب الخطر، أي خطر، كمن يكتب قصيدة. غريب أن تكون صورة إنسان، في مخيلتك، صورة إله. بهذه الصورة، يستوطننا. ولا نعرفه، مذ عرفناه، إلَّا على تلك الصورة. أنى يكن، ما كان همَّه عمرٌ، يسألْ، فحسب، عن حبيبته «الزَّمانة» (يفضِّلها على الزَّمان). قد تمرُّ من دون أن تحيِّيه، فتسبقه فكرة، أو يخسر لحظة إبداع.تركت لنا 23 مؤلفاً
لم ترَ النور بعد، في الشعر، والنثر، والتاريخ
في أدعيتنا كان دوماً، أن يبقيه لنا الله، بوعيه وعطائه ويدِه نَهرِ الكَرَم، بصحَّته وهامته وقامته، يمشي كأنَّه يطير، كأنَّ الأرض تحت قدميه سماء. أن يبقيَه لنا الله كما قال هو في الشَّاعر الرُّوسيِّ شولوخوف:
وإنَّكَ خَطٌّ... كالشَّهامةِ واقفٌ
إِذا انهارَ ظَهْرُ النَّاسِ، أنتَ لَهُمْ ظهرُ.
فكيف إذا ما انهار الظهر الآن؟
الحِمْل ثقيل، يا «معلِّم». لكن يهون حين نقرأُك، حين نسمعُك، حين نقطع في عينيك بحر الصفاء، حين تأخذُنا إلى حلمك وتُسكِنُنا لحظاتٍ في قصائدِك واكتشافاتِك وعبقريَّتك. مهلَك! لا تقلق علينا، نحن صلاةٌ دائمة لك، موعودة منك بأن تباركَها، هنيهةَ نمسحُ شفاهَنا العطشى بزيت جبينك الشُّموخ، وقد انضم الآن إلى قمم لبنان العاليات. هنيهةٌ تُطرب لصوتك فيها الكلمات، ويروح الفكر يرقص فرحاً.
هنيهة عمر لا تتوافرُ دائماً، يا «معلِّم»، حين كان يتسعُ قلبُك وصدرُك وبيتُك لنا، فتُفيضُ علينا أملاً وعشقاً للعظمة وتطلعاً إلى فوق، إلى الجمال، إلى الفرح. هنيهة بنتُ «زمانتك» التي تلدنا كلَّ يوم.
ما انتهى، لن ينتهي، زمن فرحنا بك... وقد أبيت إلَّا أن تترك لنا، ثلاثة وعشرين مؤلفاً لم ترَ النور بعد، في الشعر، والنثر، والتاريخ، والجمال، تضاف إلى سبحة كتبك التي نصلي بها تساعياتنا، من «بنت يفتاح» و»قدموس»، إلى «يارا» و»رندلى»، فـ»عشتريم» و»القداس الحبروي» و»نحت في الضوء» و»شرر»، آخر ما نشرت.
ما انتهى زمن الفرح، وقد كنت بين حين وآخر، تطلع علينا بـ»لقية» من بضع كلمات، تعوض ما كان يمكن أن تقول، كأنك فوق على جبل الحكمة تختصر الزمن: «قَداسي وْكِبَرْ عَ المالْ، هيدا نحنَ فوق جبالْ». أو حين كنا نتحلق حولك نرتل شعرك، خلال قداس حضورك، وأنت أنت تتلوه، فيما أصابعك البعلبكات، تملأ المكان واللحظة.
كان سعيد عقل يعلو على الحزن... وسنعلو مثله عليه، لنفرح بأنه كما قال في قصيدة الورد، وصدحت فيروز ولحن عاصي ومنصور: «ان فليت... إترك عطر بهـ الكون». أطال الله بعمر عطره.
حبيب يونس-شاعر لبناني- الأخبار
------------------
مُعَلِّمي السِرّيّ
هو مُعَلِّمي الخفيّ، في الخِلافِ، وجماليّاتِ اللغة، والعِناد.
أحببتُ فيه أناقةً لا تضاهى، ومباهاةً بالذات قَلَّ نظيرُها.
هذه المباهاة أحببتُها، لأن الفنّان خليقٌ بها، وسط مجتمعٍ من الجهلة والمتدافعين إلى الوحل المُذْهَبِ.
التقيتُ به، مراراً، في جلسات حميمةٍ، مع خُلَصاءَ له.
واشتركتُ معه، في أمسيةٍ ببيروت، عن محمد مهدي الجواهري.
آنَها همسَ لي: كأن الأمسيةَ تحتفي بي، لا بالجواهري...
أجبتُه: لك الحفاوةُ كلُّها.
سعيد عقل لن يرحل.
إنه باقٍ بقاءَ لبنان.
لندن 28.11.2014
سعدي يوسف* شاعر عراقي
------------------
الشام أماً وابنة وعشيقة: أن نعيش الحلم ونصدّقه
ما المقدمة التي يمكن أن تليق بشاعر كان اختزالاً لقرنين كاملين؟ انقضى القرن الأول بكل صخبه وثوراته وتداخل هويّاته وثوراته الشعرية، وبدأ القرن الثاني باضطراباته وتمرّداته، ولكنْ بثباته الشعري. عاش سعيد عقل بين قرنين متباينين، ورحل ليتركنا حائرين أمام شخصيته الإشكالية التي كانت مرآة لما بقي مشتركاً من هذين القرنين: بهاء الشعر، ووحل السياسة وجحيم أزلي من الحرب. تساءل عبد الرحمن منيف يوماً عمّا إذا كانت السياسة قد ربحت إميل حبيبي، بعدما خسره الأدب. يصدق هذا التساؤل الدقيق على سعيد عقل بالذات. الفارق أنّ منتقدي عنصريّة عقل ويمينيّته تشبّثوا بالجانب السياسي العابر عنده، وتغاضوا عن جوهره الفعلي، أي الشعر.
لم يكن عقل أول شاعر تُحرقه السياسة، ولن يكون الأخير، لكنّه لم يطرح نفسه كسياسي، بل كشاعر. لمَ نقبل «التفكير الشعري في السياسة» عند غيره، ونقف مطوّلاً عنده؟ هل لأنّ عنصريته كانت موجّهة إلى الفلسطينيين؟ هل كان تلقّي العنصرية سيختلف لو كان هو شاعر مقاومة وعنصرياً ضد اليهود مثلاً؟ بالطبع، لا يمكن إغفال الجانب العنصري والشوفيني لديه، ولكن ألا يُغفر له كونه عاش زمن الحرب الأهلية اللبنانية بكل قذارتها؟ بل، ألا يُغفر له أنه عاش حياة ملأى بالحروب، ابتداءً بالحرب العالمية الأولى وصولاً إلى آخر اعتداءات إسرائيل والحروب الأهلية العربية الصغيرة؟ في الحرب، أي حرب، يربح السياسيون وأمراء الحروب، ويخسر الجميع، أكانوا عنصريين أم مقاومين أم وطنيين؛ في الحرب يجنّ الجميع. في الحرب اللبنانية، خسر اللبنانيون والفلسطينيون والسوريون وبقي أمراء الحرب مكرّسين على عروشهم التي دعمتها إرادة دولية وتوافق أهليّ. لا يمكن لأحد تناسي التصريحات الشهيرة لعقل عام 1982، لكن، عند مراجعة جميع المواقف التي تلت ذلك العام الفاصل، هل كان من تبقّى من الشعراء والسياسيين أفضل منه أو أقل سوءاً؟ في حالة سعيد عقل، بقي الشعر، لكن في حالة عنصريي الأمس، ثوريي اليوم، لم يتبق شيء، بل باتوا هم كل شيء.عبقريّته جعلت السيف لا يقلّ
ألقاً عن خاتم الذهب
لنبقَ في الشعر إذاً، ولننسَ السياسة. لن تروق هذه الجملة مناصري تلازم الفني والسياسي بكل تأكيد، لكن لنحاول ذلك، ولنسقط السياسة عن الجميع، من دون أن ندخل في مفاضلة تحديد الأسوأ: العنصري الصريح، أم الوطني الزائف؟ فلننسَ السياسة، حتى في تجلّياتها الأخيرة حين صار شعر سعيد عقل نفسه أداة للتجاذب السياسي بين الأطراف السورية المتصارعة. ولنتحدث عن الشاعر الذي خلّد الصورة البهية للشام في ظل أسوأ أنظمة مرت على تاريخها. هذا ما يتبقى فعلياً من سعيد عقل.. الشعر فحسب.
ما الذي يجعل للسيف تلك الدلالات المحبّبة لو لم يكن في شعر عقل؟ وما الذي يجعل لبردى عظمته لو لم تكن نسماته ابنة لقصيدة عقل؟ كتب جميع الشعراء ربما عن السيف، ولكنّ عبقريّة سعيد عقل نقلته من كونه أداة للحرب لكي يكون تفصيلاً آخر، لا يقل ألقاً عن خاتم الذهب، أو المشوار، أو الحلم، في عالمه الشعري. كلّ من يعرف بردى، بعد تحوّله إلى ساقية آسنة، سيتذكّر نسمة بردى بسخرية، لكنّه سيتناسى المشهد الساخر مباشرة ليقع في غرام قصيدة «مُرّ بي» للمرة الألف، ويبدأ تخيّل بردى ـ الحلم الخاص به. هذه النقطة بالذات هي التي تجعل سعيد عقل متفرّداً. قلّة هم الشعراء الذين نقع في غرام قصائدهم بعد كل قراءة جديدة، وسعيد عقل كان أحدهم، إن لم يكن أهمّهم. هو أهمّهم لأننا لا نستطيع غربلة سطر واحد من قصائده؛ ولد الشعراء على دفعات، بينما ولد سعيد عقل شاعراً منذ قصائده الأولى. اللافت أنه أضاف مجداً آخر في الشعر المحكيّ، بل كان ذلك الشعر بالذات مصدر قوّته وعظمته. ربما كانت روعة شآميات عقل، وشعره الفصيح بالعموم، أنها كانت استراحات عابرة بين جنّة الشعر المحكي، ولذا تسلّلت إليها ألوهيّة المحكيّ، ببساطته وعمقه وعطره. إن كان ثمة سمة غرائبية وفريدة، في آن واحد، لشعر عقل، أنه يبدو كالعطر بغموضه وعمقه وأثره في الروح. الروحانية بمعناها الشفيف تغلّف شعره بأسره، بحيث كان ربما الشاعر الوحيد الذي تحسّ الجسد لديه أداة عابرة نحو الروح، من دون أن يفقد معناه الحسيّ المغوي.
انطلاقاً من حضور المرأة/ الشام عند عقل، سندخل إلى عالم متفرد. بقيت المرأة، أكانت حقيقية أم مجازية، بكامل براءتها وإغوائها، كالأيقونات. وكذلك بقيت الشام عنده، بصرف النظر عن «واقعها» وحكّامها ورجالها. كانت الشام أماً وابنة وعشيقة لعقل، وتخصّه وحده، ولذا باتت تشكّل عند كل قارئ للشآميات، وكل سوري، تجلّياً متفرداً لشامه التي يحب، أو يكره حتى. الشعر هو ما يحضر ويبقى، أما السياسة فعابرة. هذا ما ميّز سعيد عقل شعرياً: أن تكون شاعراً عربياً ينسف السياسة بالشعر يعني أن تكون مميّزاً بالضرورة. ربما كان نوعاً من الإيهام، لكن من قال إنّ الشعر والحلم ليسا إيهاماً أساساً؟ «إن صحّ الحلم، شو صار؟».
كانت السياسة حجر عثرة في حياته الممتدة مسافة قرنين، حجراً كبيراً ومرهقاً له ولنا ربما، ولكنه مجرد حجر. هذا ما تحاول قصائده القول لنا، بالفصحى والمحكية، بشامها ولبنانها ومكّتها وصليبها وفيروزها. سيبقى لكلّ منا اعتراضاته وكرهه لخطايا عقل. ولكن، لنتوقف لحظة للتفكير: أيمكن لمن كتب كل تلك القصائد أن يهدّد فعلياً بـ«قص راس» معارضيه؟ قاطعو الرؤوس حاضرون بكثافة اليوم، وشعر سعيد عقل حاضر أبداً. المهم هو من يبقى لا من يعبر. «قال علّمتني حلوة الحلوين/ إن فلّيت اترك عطر بهالكون».
يزن الحاج- الأخبار
------------------
فصاحة الفصحى وعذوبة المحكية
بالنسبة إلى المصريين، فإن فيروز تساوي الأخوين رحباني. «السميعة» فقط يعرفون إسهامات زكي ناصيف وفيلمون وهبي. يعرفون اسهاماتهما من دون شكلهما. أما ذلك الوجه الناري الغاضب ذو الشعر الثلجي، فمن «من السميعة» لا يعرفه؟ يبقى سعيد عقل اسماً بارزاً في قلب المشروع الفيروزي كما بقدر انفصاله عنه. يبقى شاعراً أكيداً وسياسياً بقدر ما يمكن الشاعر أن يحمل السياسة، ومفكراً بقدر ما يتيح الغضب من «فكر»، ومتعصباً للبنان.
لكن لبنانه بدا في قصائده أجمل. أما تصريحاته، مواقفه، مطالباته، فبدت في كثير من الأحيان أشياءً تستوجب الغفران لا التأييد. وهذه «القومية اللبنانية» بدت للآخرين تشدداً في القُطرية، لكنها على أية حال سمة ارتبطت بأجيال ما قبل القومية العربية. لا ننس أن عقل ليس بعيداً من جيل طه حسين، وهو قد نشأ في بدايات قرن الأحزاب الفاشية، ولم تكن تلك حال أوروبا وحدها. فقد تطلع شبان العرب إلى ما وراء المتوسط. في القاهرة كما في جبل لبنان، اكتشف المتعلمون أن «الحضارة لاتينية»، وأن «التخلف عثماني»، فابتعدوا منه إلى «جذورنا الحضارية». ولم تكن تلك سوى الفرعونية والفينيقية. لكن الثورة في مصر جاءت عكس ذلك، فمحقت كل ما ليس قومياً عربياً، وذلك ما لم تتعرض له «فينيقية» لبنان بالدرجة نفسها، فبقي صوتها بقوة الأصوات الأخرى. مع ذلك، فإن من المفارقات أن الصوت «الفرعوني» الأبرز في العقد الأخير جاء من «القومي» الراحل أسامة أنور عكاشة، لكن عكاشة مثله مثل سعيد عقل لا يستند اسمه إلى الآراء السياسية وإنما إلى إبداع شاهق.
وبينما يمكن بسهولة تمييز الجملة الموسيقية لناصيف وفيلمون عن موسيقى الرحبانية، تبقى لقصائد سعيد عقل سمة مدهشة، فكلماته استندت إلى نفس قاموس الأخوين. أطل عبرها لبنان ممثلاً في الضيعة والقمر واللوز والياسمين. التلال والجسور والمشاوير حضرت أيضاً. بدا عقل شاعراً ينتمي إلى الملعب الرحباني نفسه. مع ذلك كان متمايزاً عن الأخوين، كيف يمكن ذلك؟ لا إجابة سوى في خصوصية بناء القصيدة وكيمياء النص، وفي عبارات تغادر العذوبة الرحبانية المعروفة إلى صور شعرية أقوى من الأغنية ذاتها: «من يومها صار القمر أكبر ع تلالنا»، مثل هذا التصوير المذهل للحب يميّز الشاعر المكرّس لكلماته، يميزه عن أخوين كانت كلماتهما جزءاً من مشروع أكبر. في «أمي يا ملاكي»، تحضر قوة الشعر مجدداً في «لا تزال يداك أرجوحتي»، فهي صورة لا يحتاج تلقيها ـ وحفظها- إلى سماع اللحن. تبدو كلمات الرحبانية همساً جميلاً، لكن لنلمس صورة عقل في «كل نجمة تبوح باسرارا» من أغنية «يارا»، وتبدو الموسيقى في عبارة «ردني إلى بلادي» قصيدة بمفردها.
نادى سعيد عقل باللبنانية، فأجابه بعضهم وعارضه بعضهم. لكن يبقى أنّ جزءاً كبيراً ومهماً من نتاجه كان بالعربية الفصحى، وقد لمس فصاحة الفصحى بقدر عذوبة لمساته المحكية. ستبقى منه «اللغتان» طالما «أبقى الأثر ما لم يزل موصداً».
الميثولوجيا في أعماله
كانت مكتبة الضابط الفرنسي في زحلة باب سعيد عقل إلى القراءة. هكذا تعمق في مآسي اليونان و«المرسح» (وفق تعبيره) لديهم، ولدى الكلاسيكيين الفرنسيين. تأثر بالشعر الملحمي اليوناني مع هوميروس، ونصف الملحمي مع هيزيود، والغنائي مع بندار، والمسرحي مع أشيل وسوفوكل وأوريبيد وأرسطوفان. كذلك، قرأ أهم فلاسفتهم: سقراط وأفلاطون وأرسطو وآخرين. ومن الكتابات اللاتينية التي استهوته: «اعترافات» أوغسطينوس و«خلاصة» توما الأكويني. في الأدب الإيطالي، أحب دانتي، والإسباني لوبه دي فيغا وسرفانتس، وفي الإنكليزي قرأ أعمال شكسبير الخمسة والثلاثين، وكيتس وشيلي، ومن الألمان قرأ غوته وشيلر شعراً، وكانط وهيغل ونيتشه في الفلسفة.
قراءة الأساطير والمأسي اليونانية وتأثره بتاريخ الأديان، انعكس جلياً على أعماله، خصوصاً في مسرحيته الشعرية الأولى «بنت يفتاح» (1935). المسرحية المستوحاة من العهد القديم تروي حكاية يفتاح الذي أنكرته قبيلته لأن أمه كانت مومساً. بعد سنتين، استوحى ملحمته «المجدلية» (1937) من العهد الجديد. تتألف القصيدة السردية من 110 أبيات، تروي قصة لقاء مريم المجدلية بالمسيح. وفي مسرحيته المأسوية «قدموس»، التي صدرت عام 1944، تأثر بالمدرسة الكلاسيكية الفرنسية، بينما استمد موضوعها من الميثولوجيا الإغريقية ــ الفينيقية. فيها يطارد قدموس أخته أوروب التي اختطفها ملك الآلهة اليونانية زوس، ليعيدها إلى لبنان. يقضي قدموس على التنين الذي يحرس أوروب، إلا أن انتحارها يفسد فرحة الانتصار.
محمد خير- الأخبار
-----------------
المجدلّله: مَن بَعده للعربية عطاراً ؟
يقفل بوّابات أزمنة من ذهب وأوهام وحروب ويرحل.
مَن رفض الموت جهاراً نهاراً، معتبراً أنّ بيتين من شعره كفيلان بإحياء العظام وهي رميم، تركنا ونصب عينيه رحبة قلوبنا والأزل.
أمّا قلوبنا، أو قل ضمائرنا، فقد قسا عليها الأنيق المغناج، يوم سوّلت له نفسه اجتراح وطن أوديسيّ أشبه بالخرافة الكرتونية القاتلة.
ليته كفّر، حيّاُ، عن آثام رؤاه المتلجلجة حول الوطن والتاريخ. ليته خلّص «الرنّة الذهب» المقيمة سبكاً وإيقاعاً في قصائده المبهرة من أوضار ما شاب مواقفه البشريّة من ضيق أفق. بيد أنّه لم يفعل... ومن ذا الذي فعل يا ترى من موتوري بلادنا المعذّبة؟ جمح سعيد عقل الأرز والتقوقع ، منظّراً يمنة ويسرة حول فينيقيا وموقع لبنان من العالم، تاركنا، نحن الراتعين في لذاذة ونضارة أدبه، نعزل الشاعر الفذّ ــ الذي أعاد للعربية حلمها بتأليف معلّقات تنوشم في الأكباد والضمائر ــ عن النرجسي المتنفّج العاشق عبقره والأحاديث التلفزيونيّة المديدة المبكية المضحكة.
مَن عزل الشاعر عن تنظيره شبه التاريخي وشبه اللاهوتي، المسلّي مرّة والمملّ مرّات، ونظر بعين العدل إلى أدبه وموهبته، سلّم أن الرجل من كبراء العربيّة، وأن مكانته ستظلّ محفوظة ما حييت تلك العربية الشاهقة.
ببسالة فرسان كرّوا وفرّوا، وأدبروا وأقبلوا، نازل صاحب القامة الوارفة والملامح الهيلينيّة الشقراء والعينين اللازورديتين، لغته، لا بل لغاته. نازلهنّ نزال قهّار مسحور بمدّه وجزره: أدنى الغابر الموروث بسيوفه ونسوره وأمجاده من واقعنا، ثم فضّل عليه عاميّة رقيقة، فغنّى يارا صاحبة الجدائل الشقر، ومرجحها بحنان تحت أقماره الرومنسيّة، قبل أن يجرّب قلمه ولأيّام وجيزات شعراً فرنسيّاً. ولمّا رأى نفسه نائياً عن العروبة السياسيّة استلهم ثورة أليغييري دانته الذي هجر اللاتينية إلى الإيطالية، لغة العامّة، وافتتح وحده ما أسماه اللغة اللبنانية التي ابتكر لها أبجديّة تكتب بالحرف اللاتيني...
لم تلق دعوات سعيد عقل الأتاتوركيّة رواجاً يذكر، فقفل راجعاً إلى إثاكته، إلى عربيّة قيّض لمحبّيها أوّلاً ومحبّي جزالته وصنعته الرهيفة الصبورة في بساتينها ثانياً، أن يكون، على عصيانه العميق لهندسة عمودها، واحداً من آنق المعبّرين بها والملتزمين دقائقها القاموسيّة. هل سبى سعيد عقل العربية؟ هل أخذها إلى أنجمه وأكوانه المتوهّمة؟ أرجّح أنّه فعل؛ تماماً كما يبتكر آل المواهب الخارقة وأصحاب الدعوات المحصّنة ممالكهم الموحشة والمتوحّشة ــ تلك التي لا تتّسع إلا لأصحابها.
دعا آخر عطّاري العربية مريديه إلى لغاته الأنيقة المقطّرة. دعاهم إلى ولعه المتطرّف بتلك السماء المتخيّلة التي يعرفها، على حدّ قوله، غيباً وتهجئة، يعرفها منكراً ومتنكراً لجروحاتها القاتلة، فصنع لها عطراً لا بلسماً. رأى من لبنان ومن العربية ما يريد. وهذه السماء المثقلة بالبغضاء والتشوّهات والجمال والمواهب لن تودّعه جاحدة. فقد أسس لمنتقديه ومحبيّه أدباً، والأدب مهما شطح يحيي ولا يميت.
بالورد والقبل، بالجمال، وبكلّ ما تنبضه الأفئدة أودّع شاعراً أنوفاً جاهرت وأجاهر بحبّه .
رشا الأمير* روائيّة وناشرة- الأخبار
------------------
المُثَنَّى
سعيد عقل ليس شاعراً واحداً.
يقشعرّ جسمي فرحاً وغبطة عندما أسمعه يقول (بصوت فيروز، طبعاً): "مُرخىً على الشعر شالْ/ لرندلى/ هلا هلا/ به بها بالجمالْ". أو "طالتْ نَوىً وبَكى من شوقِهِ الوترُ/ خُذني بعينيكَ واهرُبْ أيّها القمرُ"، ويقشعرّ جسمي خوفاً، بل وأتحسّس عنقي عندما تلمع سيوفه حين يردد: "ستَكبرُ إن تُهزم لأنكَ في غدٍ ستَرجِعُ رُجعى السّيفِ طَيَّبه السَّنُّ"، أو "يسوع أرضكُ أرضي خُطَّ موعدها/ تجدني السيف إن خانوه لم يخُن"...
سعيد عقل هو هذه الازدواجيّة بالذات، يوحّدها صنيعه الشعري الفذّ وهندسته المتماسكة. تتلألأ اللغة العربية بين يديه كما تلألأت مع كبار الشعراء العرب الكلاسيكيين، وهو جدَّدَ ضمن الشعر الكلاسيكي نفسه، وقد غرفَ من تقنيّاته وترتيباته اللغويّة وتصاويره بعضُ الشعراء الروّاد والمحدثين. لكنّ هذا الشعر المتلألئ إنما يتلألأ فقط ضمن ظاهره المتجلّي ومقدرته الكبيرة على الإغواء، ولا يغوص في الأسئلة الجوهرية، الوجودية والجمالية، التي بدأ يطرحها الشعر في الغرب منذ القرن التاسع عشر. وشاعر "قدموس" يختصر، أصلاً، تعريفه للشعر على النحو الآتي: "قَبضٌ على الدنيا، مشعشعةً كما وراء قميصٍ شعشعَت نُجُمُ".
أمّا عن موقفه السياسي والثقافي بصورة عامّة – وكان هوَ أحد وجوه الانقسام السياسي في الحرب الأهليّة – فلا يمكن أن ينسحب على جماليته الشعرية، وإلّا كنّا حكمنا على النتاج الأدبي للويس أراغون ولويس فردينان سيلين وسان جون بيرس وخورخي لويس بورخس وغيرهم، من خلال مواقفهم السياسية والأخلاقية. في هذا السياق، لا يعود ثمّة معنى لمقولة الكاتب والمفكّر النمسوي كارل كراوس: "تبقى القصيدة جميلة حتى نتعرّف إلى شاعرها".
لكن ما يمكن قوله، في هذا المجال، أنّ سعيد عقل، برؤيته الهذيانيّة للبنان، وتأليهه للذات، ورفضه الآخر المختلف، إنّما يقف على الطرَف النقيض من تلك الكوكبة من الأدباء الإصلاحيين الذين جاؤوا في الربع الأخير من القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، وكانوا أصحاب نزعة إنسانية، نادوا بالحرّية والمساواة، وانتفضوا ضدّ الظلم والاستبداد، ولم ينغلقوا داخل طائفتهم، ولم يُعادوا محيطهم الثقافي والحضاري العامّ، بل سعوا إلى تبديل الواقعَين السياسي والاجتماعي، ورسموا الخطوط الأولى للمسيرة العلمانية... كم تبقى ناقصة هذه الكلمة المقتضَبة حول شاعر كبير يحتاج نتاجه إلى دراسات معمّقة لم تُكتَب بعد.
عيسى مخلوف* شاعر لبناني- الأخبار
------------------
آخر صلة وصل بماضي الشعر العربيّ
الذهنية العربية بعمومها ذهنية بعيدة عن التجريد. وربّما تكون طريقة القراءة هي إحدى أكثر تجليّات هذا اللا تجريد وضوحاً. فقلّما استطاع القارئ العربي التعامل مع المنتج الأدبي بمعزل عن اسم كاتبه، لا بل إنّ معظمنا يبحث عن اسم كاتب النص قبل أن يبدأ القراءة، وبذلك يضع مسبقاً مجموعة من المعايير يتقيّد بها أثناء القراءة، وفي الغالب فإنّ هذه المعايير تجنح نحو شخص الكاتب وليس نحو أسلوب الكتابة أو أدواتها.
وربما يفسّر ذلك محاولات البعض الدائمة لتبخيس أعمال تتمتّع بقيم إبداعية وجمالية متفرّدة بجحة (تحطيم الرموز) عند أوّل خلاف أيديولوجي أو فكري مع كاتبها. وفي هذا الإطار ربّما يكون الراحل، سعيد عقل، إحدى أكثر الشخصيّات الأدبيّة العربية إشكالية. ولا شكّ في أنّ تصريحات الراحل ومواقفه الغريبة، والمتناقضة أحياناً، المعلنة، على مدى عمره المديد، أسهمت بتأجيج هذه الحالة، حتّى بات من الصّعوبة بمكان أن تجد من يقرأ شعره بمعزل عن آرائه السياسية ومواقفه القوميّة التي بلغت حدّ العنصريّة. وبذلك أيضاً يكون مفهوماً سيل الاتهامات التي انهالت عليه فور إعلان خبر وفاته، وانشغال كثيرين بنبش تاريخه في هذا الخصوص. ولكن، وبوقفة بسيطة بعيداً عن كلّ هذا الهرج. لا أحد يمكنه إنكار أنّه برحيل سعيد عقل، يرحل آخر شاعر عربيّ "كلاسيكيّ" إذا صحّت العبارة. وآخر صلة وصل لنا بماضي الشعر العربيّ، فسعيد عقل لم يكن، بشعره، إلا امتداداً طبيعيّاً للشعر العربي ابتداءً من الجاهليّة وصولاً إلى وقتنا الرّاهن،. هو الذي ما ملّ طيلة عمره المديد، من الدعوة إلى لبننة اللغة، وجعل اللغة المحكيّة بديلاً للفصحى، في واحدة من نزواته القومية التي نزع فيها نحو الفينيقيّة، بعدما ابتعد عن القوميّة السوريّة، والقوميّة العربيّة، إلا أنّه رغم ذلك كلّه بقي واحداً من أهمّ من امتلك العربيّة، وأخضعها لمختبره الشعري، مجترحاً منها تراكيب، وصياغات يعجز كثيرون عن الوصول إليها.
المتابع لطروحات سعيد عقل الغرائبيّة التي كانت تثير الضحك في الكثير من الأحيان، لا بدّ من أن يتذكّر اعتباره لبنان قلب العالم، ومركز الكون، واعتبار نفسه الشخصيّة الأبرز والأهم في هذا الشرق، فهل هو استثناء بذلك عن الشعراء العرب الذين إذا ما استعدنا مدائحهم لأنفسهم سنجد فيها الكثير مما قاله سعيد عقل عن نفسه؟ لم يكن سعيد عقل في ذلك مختلفاً عن غيره من شعراء العربية، لكن مجاهرته بذلك قولاً لا شعراً ربّما يكون هو ما جعل الأمر استفزازياً لبعضهم. بمقاربة بسيطة بين سعيد عقل ووطنه لبنان، سنجد أنّ شبهاً كبيراً يجمعهما. فلبنان هذا البلد الصّغير بمساحته، وعدد سكّانه لم يكفّ يوماً عن اعتبار نفسه جزءاً مؤثراً بكلّ فعل على وجه الكوكب مهما كان بعيداً عنه. إنّه يلفّق لنفسه أدواراً تفوق حجمه بمرّات، ربّما هو تعويض عن صغر المساحة، وربّما هو شعور طبيعي يمنحه البلد الصغير لأبنائه نتيجة قدرتهم على قطع كامل مساحته خلال ساعات قليلة، وقدرة كلّ منهم على أن يكون نجماً بسبب أيّ فعل يقوم به مهما كان صغيراً. هو وهم العظمة وتلفيق الكثرة انتقاماً من قلّةٍ فرضها الواقع. وبهذا تكون كلّ فانتزمات شاعر كسعيد عقل مفهومة، ولن تلغي أهميّة وجمالية جلّ ما كتبه بالفصحى أو العاميّة. وربما سيصعب علينا كثيراً أن نعثر في الأجيال القادمة على من يمكنه أن يصوغ جملة شعريّة مسكوبة بمهارة هذا النحات الصائغ، القائل في مواجهة الاستسهال "الصّعب صِنو الجمال، لأنّه دهشة وإعمالُ كَدٍّ عقلي، وإبداعُ عبقريّةٍ وكدحٍ فكريّ"، والداعي يوماً ما إلى أن تتجاهل الصحافة الأعمال الرديئة حتّى بالهجاء كيلا تسوّق لها وإن من باب المذمّة. إّذاً هو الرحيل الأخير لمن أنشد يوماً:
مرّة سْمعت عصفور شو مَهْمُوكْ
مْسَلْطِنْ وْعَم يُخطبْ ويتجلّى
يْقِلّو لإِبنو طير وتعلَّى
فْتافيت خبز قلاَلْ بيقدوكْ
بَس السَّمَا رَحْ تِلْزَمَكْ كِلاَّ
رامي طويل- الأخبار
------------------
حسناً يفعلون
حسناً يفعلون، إذ يغادرون هذا الكوكب المظلم. سعيد عقل وصباح ونهاوند وسميح القاسم وسعيد صالح ونضال سيجري وخالد صالح ووردة وخالد تاجا وعبد الرحمن آل رشي ومعالي زايد ومريم فخر الدين وتيسير السعدي ووفيق الزعيم وسليم كلاس وعصام عبه جي. «وداعاً أيها العالم القاسي». بهدوء قالوها قبل اللحاق بلؤي كيّالي وخليل حاوي ونصر حامد أبو زيد ومحمد أركون وسعد الله ونوس وممدوح عدوان ومحمد الماغوط. حسناً يفعلون.
هذه المنطقة ملعونة منذ الأزل، وستبقى. توقيتهم مضبوط بدقّة متناهية. لا مكان للمزاح والمصادفات في أمور كهذه. منذ انطلاقته المظفّرة، لم يترك لنا الشتاء العربي القارس ما يقدر على تدفئتنا وتهدئة أرواحنا. وصل هؤلاء إلى نوبة التشكيك في جدوى ما يفعلون. ما نفع الكلمة والأغنية والمشهد في مفرمة اللحم هذه؟ هكذا، لم يعد أمامهم سوى البصاق على العالم والانسحاب إلى الأبد. حسناً يفعلون. الهزائم المتوالية تبتلعنا كحوت يونس، فيما صبر أيوب لن يجلب سوى المزيد منها. نوح ليس هنا للأسف. لقد جاءنا المتشبّهون بهم، ولكن على هيئة مسوخ لزجة ذوي لحى طويلة ووجوه ملثّمة. صار أهل هذه المنطقة عالة على العالم. يستنزفون موارد الكوكب من دون فائدة. أجيال تلو الأخرى تعرف من الشرف جرائمه، ومن الدين حدوده ورباط خيله، ومن الجمال فتاوى نكاحه، ومن الفن غرائزه ودركه الأسفل. إذا شطب كل النتاج الفكري والأدبي والفني لهذا الجزء من العالم، هل سيتأثّر المشترك الإنساني ولو قليلاً؟ في «أرض اليباب»، لفّ السواد كل شيء. لم يعد من متسع سوى للخراء. فعلامَ يبقون؟ إنّهم فقط أكثر شجاعة، وأكثر حبّاً للمجرّات الأخرى حيث الهدوء والسلام.
حسناً يفعلون. المجد للقتلة والذبّاحين وأكلة القلوب وأهل الجزم الثقيلة. فليحيا البرابرة طويلاً طويلاً، وليصعد من لا يعجبه ذلك على متن أول مكوك مغادر.
علي وجيه- الأخبار
------------------
الشاعر على منصّة العالم
لا أعرف كيف يمكن لسعيد عقل أن يطيق الموت. انه لحظة حقيقة، الأرجح أن سعيد عقل ظل يتفاداها. سعيد عقل لم يكن في يوم إلا تحت الأنظار. لا بد أنه حتى في وحدته كان يتصرف كرجل تحت الأنظار. يتكلم كما يجب أن يكون الكلام، يقيس صوته، يرفعه ويخفضه كما ينبغي أن يفعل رجل يؤدي كلامه أكثر مما يقوله. لا بد أنه كان يحرك يده ورأسه وجسده على هذا النحو. انه دائماً منظور ويتصرف كما يحب ان يرى نفسه تفعل وتتصرف. كان المعلم لكثيرين وطالما نودي بهذا الاسم، فقد كان له حواريوه وتلامذته وكان بينهم القطب والمدار و»المعلم».
كان في نظر نفسه كل شيء، الشاعر والاقتصادي واللاهوتي والعالم. وكان شاعراً بالعربية لا يجاريه في ذلك المتنبي وبالفرنسية في حجم راسين ومالراميه. هكذا كان ظن الرجل في نفسه وليس هذا بالظن فحسب، كان أيضاً بالجهر والإعلان والمواجهة. وبالتأكيد كان سعيد عقل في لبنان بل وفي دنيا العرب كلها، نادراً. إذ كان الشاعر حتى ظهوره هو على المسرح. شيئاً آخر. كان الشعر بداهة وفطرة والشاعر حالم شارد ومفطور، سعيد عقل لم يكن عند نفسه هكذا. إذا كان قال انه يفتعل الشعر ويصنّعه، فإن هذا قد لا يكون سوى صورته عن نفسه. وسعيد عقل لم يكن ليخرج قيد أنملة عن هذه الصورة، ليس الرجل الذي يخرج ما انحبس في نفسه وما تهتك في داخله، بل يمكن القول ان الشعر كان يتحد بمثاله أي اتحاد، ذلك ينطبق على الشاعر أيضاً فهو أيضاً يسمو إلى مثاله ويتكلم من عل ويتخذ مقعداً من الرفعة والاعتداد.
إن وصلنا الشعر بالحياة وفتحناه على الداخل وأنفذناه إلى اللاوعي وإلى الباطن وربطناه إلى الأسرار والألغاز فاتنا ان نجد شيئاً من ذلك عند سعيد عقل، قد لا نأخذ بكلامه عن الوعي في الشعر فقدر من شعره لا يمكن ان يكون إلا ثمرة تركيز وتحديق وقطف من التداعي بحيث يتراءى لنا أن شيئاً خلف الكلام هو الذي وصل، وإن الكلام الذي يشعشع ويتمور ويتألق ليس من صنع الإرادة ومن خطرات الوعي الصافي، بعض شعر سعيد عقل وبعض أبياته من نعم الحدس ونفاذ النفس المروسه والحس المضغوط إلى آخره. بعض أبياته لا يجري عليه نظره في الشعر. لكن هذا شأن كل الشعراء فشعرهم يسبقهم ويتمايز عنهم. انه نفسهم الأخرى وربما مثالهم الخفي، لكن سعيد عقل لم يكن يجد فارقاً بين الحياة والفن، إذ لا نعرف عن سعيد عقل انه كانت له حياة بالمعنى الحميم للكلمة، كانت حياته في الغالب بقدر أدائه وأخلاقه الموروثة في الغالب، والمنتهية إليه من أرستقراطية ضامرة. لم يكن لسعيد عقل حياة غير تلك الموجودة في أدائه هو للحياة، في حضوره المسرحي، فيما يجب أن يكونه وما أجمع الناس عليه. لا نعرف إذا كان أحب أو كان تهتك أو كان شطّ أو شطح؛ كل هذا الذي يشكل مراهقه المرء أو طفولته أو حتى شبابه، كانت حياة سعيد عقل هي كلامه وهي أشعاره وعدا ذلك لم تكن الحياة الحميمة حياة التجارب العارمة حياته. هكذا مر سعيد عقل على الحياة كما لو كانت منصة وعبرها كما لو كانت مسرحاً، وأداها كما لو كانت قصيدة الشعر، نعم هو حياة سعيد عقل، لربما كان الأول بين شعراء جيله الذي فكر بالشعر عميقاً حتى جعله فكراً قبل كل شيء. لربما كان الأول بين لداته الذي نظَّر وشغفه التنظير حتى باتت له نظرية في كل شيء، المفارقة ان سعيد عقل كان المثقف الذي سبق انداده بدون أن تكون له عصابية المثقف ولا توتره ولا تأزمه. هذه كلمات كان سعيد عقل يأباها. ذلك انه كان عند نفسه قريباً من إله يبدع، ولا ينفك يبدع دون أن يكون لهذا الإبداع ثمن باهظ أو أليم.
سعيد عقل مفصلي في شعرنا والأرجح أن الشعر الحديث خرج على نحو ما، من معطفه وان شعره كان منعطفاً لولاه لما كنا هنا اليوم، لكن الشعر الحديث إذ يخرج من عباءة سعيد عقل يبقى فيه أثر من هذه الولادة لا نقول انها تميته ولا نقول انها تحييه، بل نظل نتذكر سابقه سعيد عقل ونحن نرى هذا الشعر يتخبط أو يخرج من تخبطه.
سعيد عقل الجميل، المحافظ، مع مثاله الريفي وأحلامه القومية، مع كل شطحه. هو بالتأكيد نبتة رائعة من هذا البلد الذي يتهدم الآن والأرجح انه لم يشعر بهذا الدمار، فسعيد عقل لا يرى إلا ما يريده وما يهواه.
عباس بيضون- السفير
------------------
الصوت الذي تتنادى له أعمدة بعلبك
بغياب سعيد عقل لا يخسر الشعر وحده، بل تخسر الحياة نفسها الكثير من ألقها، وتخسر الأرض الكثير من هوائها النظيف، وينخفض منسوب الجمال، وتنكمش الجغرافيا اللبنانية والعربية على صقيعها وأوحالها في زمن دعاة التكفير وجلاوزة الفكر الاستئصالي، والجبروت الفارغ لأنظمة الاستبداد. بغياب سعيد عقل يتفقد كل واحد منا حياته ليعرف حجم الفراغ الذي خلاه وراءه. ويتفقد كل واحد ذاكرته ليدرك حجم الأعطاب التي قوضت أبهى ما في داخلها من الصور والرؤى، ويستسلم الجمال الذي احتفى به الشاعر أشد الاحتفاء إلى مصيره المجهول. فلا أحد سواه، باستثناء القلة النادرة، استطاع ان يحمله إلى أعراسه الأبهى، وأن يجعل الشعر من جهة أخرى قريناً للكرامة الإنسانية، حيث ارتفع بقصائده عن حضيض المديح والاستخذاء للحكام ووهب نفسه بالكامل للمثل التي حملها في ضميره ولغته وقلبه.
وفيما نودِّع سعيد عقل بكامل ثكلنا وألمنا وإحساسنا بالخسارة ستحتفل آلهات الشعر وشياطينه بتخففه من الأرضيِّ فيه، وانتقاله إلى العوالم التي انبثق عنها. إذ لطالما شعرنا ونحن نتابع بغبطة كثيرة، وحسد أقل، أننا أمام نسختين من سعيد عقل. إحداهما محكومة بحاجة إلى طين إلى التشكل على صورة رجل، والأخرى سماوته منعتقة من ربق الجسد، ومحلقة بخفة الطائر فوق فظاظة العالم المادي. ولعل الآلهة التي سرق منها النيران ستحتفي به الآن أشد احتفاء، ولن تنزل به العقوبة التي أنزلتها بسلفه برومينيوس. ذلك أن حجم ابتهاجها بلغته ومهارته وفرادة استعاراته سيفوق بكثير نقمتها عليه.
لقد نجح صاحب «رندلى» و»قدموس» عبر موهبته النادرة في القبض على جوهر الشعر، كما في القبض على ناصية الزمن والعمر المديد. فهو استطاع أن يقطع بنجاح عتبة الأعوام المئة. واستطاع الجسدي فيه أن يقارع الأبدي، ضارباً عرض الحائط بمقولة بيكاسو، الذي رأى بأن الطبيعة النباتية للرسامين تجعلهم يعمّرون طويلاً، بخلاف الشعراء الذين يبكّرون في الرحيل، محترقين بحطب أجسادهم المفرط في الاشتعال. وخلافاً لتوجس زهير بن أبي سلمى من الوطأة الثقيلة للعمر المفرط في تقدمه، فإن شيخوخة عقل بدت مفرطة في تأنقها ووسامتها البادية. كما لو أن عقل كان يسند ظهره إلى ربيع لا تنضب خصوبته، أو كما لو أن تلك الحمرة النبيلة في وجهه كانت تتغذى من بهاء الأيقونات في الكنائس، ومن غروب الشموس على ذكريات دائمة التورد. فبهذه القامة التي تسرج استقامتها كرمح صقيل بين سلسلتي جبال، وبهذا الشعر الذي ينشب خصلاته في جبهة الريح، وبهذا الصوت الذي تتنادى له أعمدة بعلبك الستة استطاع سعيد عقل أن يأسر سامعيه قبل قرائه، وأن يعيد للشعر مكانته في عصر النخاسة والكدية والاستخذاء.
كأن شعر سعيد عقل هو الشعر المحض. كأنه في تنقيطه وهندسته ونمنمته منوطٌ برد العالم إلى أصله والجمال إلى ينابيعه الأم. الشعر عنده بديل الحياة. أو هو اللغة الخالصة مصفَّاة من كل شائبة، ومدفوعة إلى الحدود القصوى من التكثيف. وهو لشدة تقطُّره يتقاطع مع السكون الخالص للحسن، على حد المتنبي، ويقف على خطوط التماس الفاصلة بين اللغة والصمت، بين الحضور والغياب، كما بين فوران العروق واحتباس الأنفاس. أما مشروعه الجمالي فيسعى إلى التماهي الكامل مع فكرته عن العالم، لا مع العالم كما هو قائم. كأن الوجودات المحسوسة عنده هي ظلال لوجودات أخرى قائمة في الظن أو الضمير أو المثل المطلقة. وهذه الرؤية المفرطة في حساسيتها تدفع الشاعر إلى استبدال الواقع باللغة نفسها، وبالرؤى التي تتكفل منفردة بخلق نماذجها الموازية في الوطن والمرأة والجمال والحب.
اللا زمني
ولأن شعره لا زمني بامتياز فهو يقع في قلب الحداثة، كتصور ومفهوم. وإن كان في آرائه النظرية يعمد إلى تسفيه طروحاتها ونماذجها المعروفة. فهو قد تخطى المفاهيم المدرسية المتداولة لتصنيفات الشعر، لتصبح قصيدته أبعد من راهنيتها في المناسبات وقصائد المراثي ومقطوعات الغزل والحب، ولتغدو مقذوفة في الأبدية، كما هو حال امرأته التي تقع على السرير «وقوع الهنيهة في المطلق». فللمرأة عنده حضور طيفي، ليس جماله الحسي إلا واحداً من تجلياته الهائمة في عراء الكتابة. إنها تهمُّ بأن تخطر في الوجود ولا تفعل، أو هي الوعد الدائم والغد المنشود الذي «يسبقنا الممات إليه غيلة»، على حد تعبيره. وفي المنازلة المستمرة بين الطهارة والإثم لا تتمثل امرأته في صورة زليخة أو مريم، بل في صورة المجدلية التي اتخذها عنواناً لأحد أعماله، والتي تتعارك مع شياطينها الماكرة عند قدمي المسيح.
أما لبنان عنده، فهو بدوره اختراع جمالي متمخض عن حاجة الأسطورة إلى التحقق. إنه جغرافيا الظنون والمبالغات والشغف بالمثال الأرضي، الذي وجد الشاعر انعكاساته المتحققة في نزوع الفينيقيين الجموح إلى ارتياد المجهول، وفي طموحات فخر الدين، كما في الحضور اليوتوبي لصوت فيروز وموسيقى الرحابنة. وحين سئل في أحد مجالسه الخاصة عن افتقار تصوره للبنان إلى التواضع، أجاب ضاحكاً: «إن دولة عظمى كالصين، تملك خيار التواضع لأنها تظل كبيرة مهما تواضعت. أما لبنان الأصغر من مدينة صينية، فليس أمامه إلا أن يتعملق أو يضمحل». وهكذا بدا لبنان الصغير جزءاً من جمهورية سعيد عقل المتخيلة، وبدا هو بدوره الجهة الخامسة من حدود لبنان.
وكما احتفى الشاعر بالحواس الخمس، على تبادل في الدلالات والمعاني، فقد احتفى بالموسيقى والجرس ونبرة الإيقاع، وتخيِّر للمناسبات والمراثي بحوراً تهز الوجدان وتزلزل القاعات، فيما تخير للغزل والتأمل في الحياة بحوراً صعبةً ومهملة، وعمل على ترويضها كما تروَّض الخيول في البراري. أما إنكاره لعروبته فلم يكن في تقديري ناجماً عن كراهية عنصرية، كما زعم البعض، وهو الذي أعطى العربية ما لم تعطه سوى الصفوة النادرة من المبدعين، ولكنه بعد أن ضاق ذرعاً باكتمال لغته ووصولها إلى طريق الجمال المسدود، حاول أن يكسرها احتجاجاً على عجزها عن مجاراته، كما فعل ميكال أنجلو بتمثاله العاجز عن النطق.
واليوم، وفي هذه الساعات السوداء، لا نفتقد في سعيد عقل شعره الريادي، الذي يقف في الوسط بين الكلاسيكية الجديدة والرمزية والذي يختتم بلا منافس عصر الكلاسيكيين الكبار، بل نفتقد معه القيم العالية التي جسدها بشخصه، والتي حملت معاني الفروسية والكرم والنبل والصفاء الداخلي والابتعاد عن المهاترات والترفع عن الضغائن. نفتقد تلك الجبهة المرفوعة والوسامة البادية في قسماته، وتلك القامة المنتصبة في وجه الأعاصير، والصوت الأجش على تهدج عاطفي، والكاريزما التي فتنت جميع من رأوه رؤية العين أو تابعوه في إطلالاته على الشاشات.
تحضرني في النهاية مقولة للشاعر الإنكليزي الشهير ت. س. إليوت مفادها «أن كل شاعر متفوق يميل إلى استهلاك الأرض التي يحرثها، بحيث لا تعطي بعده سوى محصول متضائل، بما يوجب أن تبقى في حالة راحة إلى زمن طويل». وإذ أستعير هذه المقولة من إليوت، أسأل نفسي دونما حاجة إلى إجابة: أليس هذا هو الحال مع سعيد عقل؟.
شوقي بزيغ- السفير
------------------
كاسك يا الله
بعدما استرخى في سنواته الأخيرة هانئاً على سرير أبيض يشبه غيبوبة ناصعة الوقت، يغادرنا سعيد عقل وقد غدا لبنانه أطلالاً دارسة. لكنّ شعره الطائر على أجنحة صوته وبريق عينيه المشعتين بالماضي من أجل المستقبل، لا يفارقان عارفيه ومحبيه الكثر. أراد المثقف الحالم أن ينقل بلاد الارز من دولة المَزارع و"الاقتصاد الشرشوح" الى حداثة تتبنى اقتصاد المعرفة.
ولذلك طرح مشاريع في السياسة والإنماء والاقتصاد والتربية والعمران، فلم يبال بها أحد. ترشح للانتخابات النيابية ولم يفز. هو الشاعر اللبناني الأشهر، وقد فضّل ناخبو مدينته زحلة أبناء الاقطاع عليه. افتتن به الأخوان رحباني وجعلاه معلّمهما في الصنعة الشعرية والمسرح والقومية اللبنانية. هو العائد، مثلهما على الارجح، من لحظة عابرة أو أكثر في القومية السورية، ظَلَّ يرفض كما يرفضان الإضاءة عليها. كره سعيد عقل "ثلاثة خرّبوا الحضارة: ماركس وفرويد وبيكاسو"، منحازاً الى القيم المسيحية وكلاسيكية الأدب والفنون مع حداثة تقف عند الرومانسية والرمزية. بالنسبة إليه، أدونيس ويوسف الخال ومجلة "شعر" خرّبوا الجَمال، ونزار قباني عهّر المرأة. أدان مشاركة الفلسطينيين في الحرب الأهلية، محمّلاً إياهم المسؤولية عنها، ومنكراً أن يكون بين اللبنانيين خلافات طائفية ومصالح تدفعهم إلى التقاتل والاستعانة بالآخر شرقاً وغرباً. كذلك وجد في العروبة إيديولوجيا تذوّب لبنان في المنطقة، منهيةً خصوصيته الحضارية. مجموعتي التي صدرت أخيراً تضمّنت قصيدة بنَيتُها ضداً نفسياً لقصيدته الأوديبية التي غذّت ـ وقد غنّتها فيروز ـ عقدة الأم في الأولاد: "أمي يا ملاكي، يا حبّي الباقي الى الأبد".عرفته مراهقاً مقدماً اليه أول مقالاتي، فعبّر عن عدم صلاحيته للنشر. افتتنت بأدائه لشعره أكثر من شعره نفسه. وحاورته بنبرة نقدية دوماً، فلم يغضب إلا مرة واحدة. وعندما نشرتُ في "النهار" مقالاً يفنّد هزال الشاشات المحلية جعَلَ عنوان افتتاحيته في "السفير"، مبالغاً كعادته: جوزيف عيساوي البطل. سعيد عقل شاعر لبنان والجمال اكتفى من الحداثة بالرمزية والبرناسية. قصيدته ابنة الكلاسيكية في الأدب والرسم. بل إنها في شكلانيتها أقرب إلى فن النحت. مشهديات السينما أو حتى الصورة الفوتوغرافية لم تؤثر في شعره، فظلَّ ابن الصقل والموسيقى الصارمة للبحور متلاعباً بها ومسهماً (منذ الأربعينيات) في تطوير القصيدة. عقل من جيل عُرف بجيل البكالوريا (بمعنى عدم مواصلة تعليمه المدرسي أو الجامعي)، اطّلع على الآداب العالمية عبر تضلعه بالفرنسية. وامتلك مع الموهبة صنعة ماكرة وخيالاً تجريديّاً رفده بالمعرفة. كانت عبارة "شاعر المعرفة" أكثر ما يحبّ أن يوصف به. شعره العامي ارتقى بالازجال، مجرّداً إياها من عفويتها وانفعالها وموضوعاتها التقليدية، مضيفاً تقنية تفتقدها وتنوعاً وزنياً. قلّده كل من كتب بعده الشعر العامي، وقلما نجا حتى البارزون من أثره عليهم. نال عقل مجداً أدبياً على مستوى العالم العربي وشعرائه على اختلاف اتجاهاتهم الشعرية والنقدية وحتى السياسية. لكنه لم يترجَم الى لغات أخرى لاستغراق قصيدته في الشكل واجتهادات العروض واللغة العربية في كيميائها وجرسها الفريد حتى لتفقد الكثير بالترجمة. بل إنّ قراءتها بالعربية في كتاب تجعلها تخسر ما يضيفه إليها عقل في أمسياته وقراءاته حيث تتفجر شلالات هادرة من المياه والصخور والرعد معاً. برحيل سعيد عقل ينطوي آخر الكلاسيكيين المجددين من جيل ما قبل الحداثة ومجلة "شعر". أجيال عدة بعده أثْرت القصيدة العربية بمخيلة قشيبة لم يعترف بها عقل كما لم يعترف بشعراء بارزين من جيله، كالياس أبي شبكة. لكن هذا لا يجعلنا ننسى "حراسته" هيكل الجماليات التي هدمنا حجارة منها وبنينا أخرى، مرة معه ومرات باتجاهات مختلفة، وحجارة ليست بالحجارة بل كأنها دموع حرب لبنان أحياناً وقلق الفرد الوجوديّ الذي لم يعرفه "شاعر الفرح" سعيد عقل. ولم يزدنا زئيره ضد قصيدة النثر إلا إصراراً على مواصلتها. لذا، ربما، كتب أنسي الحاج في الستينيات مقالاً شرساً في مواجهته، أنهاه بـ"لقد مات، لقد مات، لقد مات". اليوم وقد فعلت البيولوجيا فعلها، هل مات حقاً خصوم الحداثة في الأدب والمجتمع والسلطة والدين؟ أم تعلو أصواتهم فاجرة، ملوَّثة بالمقدس، ممهورة بالظلامية والجهالة (وهو ما كان شاعرنا في نقده، من منطلقاته الجمالية، بعيداً عنه)؟
سعيد عقل امتشق اليوم قرناً من الزمن صعوداً الى حيث يتوق في إيمانه. وأخاله متسلقاً عامَيه، بعد المئة، درَجَتَيْن مستوياً على العرش: - مين بتكون؟ - الله. - كاسك يا الله.
جوزيف عيساوي- شاعر لبناني- الأخبار
------------------
صاغرةً تأتي إليه اللغة
جاوز الثمانين حولاً بعقدين ونيف، ولم يسأم أو يتعب كسلفه ابن أبي سلمى. أقعدته المئة في البيت، لكنه ظلّ حاضراً ينام ملء جفونه عن شواردها، كأن قرناً كاملاً من الزمن لم يزده إلا شغفاً بالمزيد، وكأن رأسه الذي اشتعل شيباً حتى صار يبزّ صنين في بياضه لم يفقده دهشة طفولة يحملها الشعراء مدى العمر والأيام. فهل “ظلَّ الطفل الذي فيه يحرّض الشيخ الذي صاره” وفق تعبير أدونيس؟
لكل مقام مقال، وفي مقام الدمع يتقدم الورد ويؤجَّل السجال. لكن هل يستقيم كلام على سعيد عقل بلا نقاش وجدال، وهو الذي طبع قرناً لبنانياً كاملاً بالشعر وبالأفكار والآراء المثيرة للسجال، ولم يكن يرضيه أن تمر كلمته عابرةَ سبيل، بل يغويه التفاتُ الجميع اليها مراودةً أو موافقةً أو حتى مخاصمةً، وإن ظلَّ الثناء يغرّه أكثر من سواه؟
إنه أوان الحزن، لا فقط على سعيد عقل، بل على “لبنانه” أولاً. لبنان الذي لم يبقَ منه إلا القليل، قصيدةً وأغنيةً ودمعةً وحلماً مستحيلاً اقترفه الشعراء والغاوون، وكان هو الأعلى صوتاً والأشد شغفاً بابتكار أدوار كبرى لجغرافيا صغيرة المساحة كثيرة الشغب والمشاكسة، مثلما هي كثيرة الشعر والغناء و”اختراع” أمجاد تليق بها، فبلغ هيامه بلبنان حدَّ الإسراف في إسباغ الصفات، والسخاء في استدراج التاريخ إلى غير مواضعه المعروفة، وهل كانت “الأعجوبة” اللبنانية لتستقيم بلا سعيد عقل الـ “كأنه” (وكم كان شغوفاً بأل التعريف يضعها حيث لم تعتد ولم نعتد) قادمٌ إلينا على متن مركبة إغريقية عابرة للزمان والمكان ليضرب بعصاه فينشق الأبيض المتوسط وتخرج حوريات الماء لتغنّي وتتغنى بصور وصيدون وجبيل وصنّاع الحرف والأرجوان.
إنه أوان الحزن، لا فقط على كبير الشعراء المعاصرين، بل على وطننا الأكبر برمته، كيف لا والعواصم التي أنشدها أجمل ما يكون الإنشاد غارقة في دمائها والنحيب، ومَن ذا الذي في إمكانه محو ما سطّره قلمه السحري في مديح مدننا المنذورة للحروب والمحن، والتي لم ينهشها الرصاص بعد تصحو وتنام واجفةً قلقة على الغد والمصير، وإن كان شاعرنا المأخوذ بعظمة الزمان وصنائعه البديعة لا يتوقف عند حرب هنا وحرب هناك، هي برأيه مجرد عابرات لا تغير مجرى الأيام، كيف؟ مرةً قلت له: لم يبقَ من لبنانك الكثير، بسبب الحروب الطاحنة؟ كتب حرفياً عن
مسقط رأسي:
«عيناثا التي شهدت في الآونة الأخيرة أجمل بطولات لبنان»
أجابني بثقة مألوفة فيه: وهل تصدّق حكي الجرايد؟ نعم، في عُرف سعيد عقل حربُ عقد أو عقدين من الزمن لا تقاس بخمسة آلاف من السنين يتكئ عليها في استحضاره مجد لبنان وعنفوانه الذي لا يشيخ حتى لو شاخ أبناؤه وهرموا في انتظار جمهورية مؤجلة حتى إشعار آخر!
لندع الجمهورية جانباً، حيث لكلّ سعيده السعيد به، ولنفتح بوابات مملكة الشعر، ولنا من سعيدنا تلك اللقيات النفيسة النادرة المسبوكة ذهباً على هيئة قصائد عصية على الذبول والتلاشي مهما أفسد الدهر من أحوال، ومهما تبدل الشاعر وتغير أو تبرأ مما اقترف من سحر وجمال، وهل تُنسى قصائده في مكة والقدس والشام وبغداد؟ هل يُنسى ما نظمه في علي بن أبي طالب وشولوخوف وأحمد شوقي وطه حسين وتوفيق الحكيم والأخطل الصغير وشفيق المعلوف وعمر فاخوري وجواهر لال نهرو وسواهم؟
ولئن أبدعَ سعيد عقل في قصائده المهداة إلى مبدعين وقادة وأصدقاء فصدّعت أفئدة السامعين، وهي تتدفق من حنجرته الهدّارة بلكنة خاصة لا يضاهيه فيها أحد، فإن شعريته الصافية تتجلى في دواوينه ومسرحياته الشعرية مثل “بنت يفتاح” و”المجدلية” و”قدموس” و”رندلى” و”كما الأعمدة” وسواها، مثلما تتجلى في قصائده المحكية التي لم تكن أقل شعراً وعطراً من فصحاه، فهو في مختلف حالاته شاعر تأتي اللغة إليه صاغرةً، ويكتسب البيان والبديع على يديه لبوساً جديداً حتى يستحق الشعر تلك الصفة التي أسبغتها العرب عليه حين وصفته والنثر بالصناعتين. ولئن شاعت كثيراً قصائده المغناة بصوت فيروز، فإن ما لم يُعرف أو يُقرأ كما يجب لا يقل شأناً، ومنها غزلياته التي مجّدت امرأة من أثير وترفعت عن نزعات الجسد ونزواته حتى بدا وكأنه يكتب لامرأة لا مرادف لها سوى مريم العذراء... أو الأمّ مُهملاً (بكسر الميم) أن الأمّ تكون أولاً حبيبة وزوجة وأنثى ممتلئة نعمةً، لكنها أياً ممتلئة رغبة.
نعم، سعيد عقل منح الشعر العربي مئةً من سنوات تجوهرت فيها المعاني ورفلت اللغة بحللها قشيبة، وإن ظلت حللاً ارستقراطية تأنف شظفَ الآني الزائل أوالتعفّر بتراب التجارب الفردية وتفاصليها التي كان الشاعر مشغولاً عنها بمبارزة أسلاف سابقين أو بقضايا وجودية ورمزية كبرى، وبنبش رفات التاريخ لاستدعاء أجداد يؤازرونه في رؤيته للحاضر كما تأنسُ له نفسه ويطيب هواه، ولئن كانت موضوعات سعيد عقل الشعرية ظلّت (نسبياً) وقفاً عليه فإن لغته مثّلت خميرةً لشعراء نضج رغيفُ قصائدهم الساخنة على نار شعره.
قال مرةً إنه أثّر في أسلافه. لم تكن العبارة مجرد شطحة من شطحاته المثيرة، فالشاعر يؤثّرُ عادة بالخلف لا بالسلف، لكنه فعلاً أثّر ببعض مَن سبقوه، وكان يقصد أولئك الشعراء الذين يكبرونه سناً لكنه عاصرهم وعاصروه، وألتقى بهم على مفترق في الكتابة الشعرية، فكان أن امتد وهجه ليطاول السابقين واللاحقين، فكلُّ باحث في التجربة الشعرية العربية المعاصرة، ولا سيما اللبنانية منها، سيجد بعضاً من لغة عقل وصياغاته اللغوية في كثير من الآخرين، وليس غريباً ولا مستغرباً أن نجد بعضاً من عبقه الشعري وسبكه اللغوي يفوح (مثلاً) من بدايات نزار قباني وأدونيس وسواهما.
سعيد عقل مفترقٌ صعب في الكتابة الشعرية العربية، ولو شئنا أن نرسم خطاً مستقيماً من ذرى المتنبي قبل ألف عام ويزيد لارتطم هذا الخط لحظة وصوله زمننا الراهن بقمة سعيد عقل وقيمته الشعرية. غداً، حين ترحل أجيال وتأتي سواها، ولغته العربية المنحوتة بإزميل جوهرجي ناعم ومتين، ولئن تنكّر الفاعلُ ذات انفعال لما صنعت يداه فإن المفعول سيبقى شاهداً حياً على تلك الحُلي والمصاغ التي لن تفقد قيمتها بمرور الوقت وتقادم الأيام.
أجمل المحبة وأنقاها كامنٌ في الاختلاف. هينٌ ويسيرٌ حُبُّ الأشباه والنظراء، صعبٌ حدَّ الاستحالة حُبّ مَن نختلفُ معهم في الموقف من أسس ومسلّمات، وحُبُّ سعيد عقل “هوى صعبُ”. الصعوبة أكثر إمتاعاً ومؤانسة، السهولة لا تغري ولا تنادينا، الصعوبة توقعنا في حبائلها الفاتنة، تحثنا على المجازفة والبحث والسؤال، ليس أجمل من السؤال، علاماتُ الاستفهام مشانقُ اليقين، وكلُّ يقين باعثٌ على الكسل والخمول، “حين تكون دائم البحث والسؤال هذا يعني أنك على قيد الحياة” يقول شمس التبريزي. وحُبُّ سعيد عقل مشوب بأسئلة كبرى وبعلامات استفهام وتعجب معاً، ولعل أكثر ما نُحبُّ فيه، عدا شعره، حبّه لوطنه لبنان، مهما شابَ هذا الحُبَّ من مغالاة الحبيب وسعيه لإلباس حبيبه ما يرغب ويهوى، ولعل لبنان في أزمنة ضعفه ووهنه كان يحتاج تلك الشحنات الشعرية يستقوي بها قليلاً على النوائب والمحن.
في مقدمة قصيرة خطّها بكَرَم وقلم محبته لأحد كتبي، كتب حرفياً عن مسقط رأسي: «عيناثا التي شهدت في الآونة الأخيرة أجمل بطولات لبنان»، مشيراً إلى المواجهات البطولية الضارية التي خاضها رجال المقاومة هناك ضد العدوان الإسرائيلي في تموز عام 2006. فهل تراجع سعيد عقل عن آرائه ومواقفه التي كانت ذات اجتياح إسرائيلي؟ ليته فعل.
يطوي سعيد عقل سنواته المئة، يحملها تحت إبطه كمن يتأبط شعراً، يغادرنا إلى حيث كلٌّ كتابه بيمينه، لكنّ ثمة كتاباً سيبقى أبد الدهر مفتوحاً لأجيال تليها أجيال، صفحاته ملأى بقصائد فاتنة أعلاها التوقيع التالي: سعيد عقل.
زاهي زهبي- الأخبار
------------------
سيرة
في صيف تموز (يوليو) عام 1912 ولد سعيد عقل في زحلة (البقاع). ذاك الطفل التي تشرّب من والده الكرم ومن والدته النخوة الزحلاوية، كما قال مرة، سرعان ما بانت عليه فرادته ونبوغه، لا سيما في دراسته الثانوية في مدرسة "الإخوة المريميين" التي تفوّق فيها. وفاة والده اضطره إلى العدول عن التخصص في الهندسة. لجأ وهو في الـ15 من عمره الى مزاولة الصحافة والتعليم في بلدته البقاعية.
بعدها، يمّم شطر بيروت في مطلع الثلاثينيات ليكتب في صحف "البرق" و"المعرض" و"لسان الحال و"الجريدة" ويدرّس في "الآداب" التابعة لـ«الأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة» وفي "دار المعلمين" و"الجامعة اللبنانية".
عام 1935 كان حاسماً لعقل. أصدر أولى مسرحياته "بنت يفتاح" ونال على إثرها جائزة "الجامعة الأدبية". وبعدها بعامين (1937) ولدت "المجدلية"، الملحمة الشعرية "التي بمقدمتها غيّرت وجه الشعر في الشرق". في عام 1950 ومع مسرحية "قدموس"، بدأت تتجلى نزعته نحو تكريس لبنان على "عرش عروش الشعر في العالم"، واستكمل هذا الخط عام 1960 لدى صدور "لبنان إن حكى" الذي مزج فيه بين التاريخ والأسطورة.
وفي عزّ صعود الغزل الإباحي، قدم سعيد عقل عام 1950 «رندلى»، ديوانه الغزلي الذي أعاد الى "المرأة تاجها". وتبعه بكتاب "أجمل منك؟ لا" الذي جمع المرونة الإنشائية وتنوّع القوافي. وفي السياق عينه، وتحديداً عام 1973، غنى الحب وجسّده بالعذرية من خلال "قصائد من دفترها". وبعد "الخماسيات" (1978) المجموعة الشعرية اللبنانية البحت، أصدر ديواناً شعرياً باللغة الفرنسية بعنوان "الذهب قصائد" (1981).
سعيد عقل الذي عرف بشخصيته الجدلية وبمواقفه السياسية المتناقضة والمتطرفة، لم يكن مجاله الشعري أخف وطأة. صدرت عن لسانه العديد من المواقف الإشكالية، أوّلها قوله بأنّه "أعظم من المتنبي" و«أنا أخلد شاعر عند العرب. إياك أن تفكر في أن المتنبي لديه شعر مقدس ومكرّم مثل شعري". وبلغت ذروة "أناه" عندما ازدرى الشعر الأوروبي وخفف من أهميته، قائلاً: «اللافت في شعري أن فيه غرابة وجمالاً غير موجودين في الشعر الأوروبي كله (...)». تزوج عقل مرة واحدة ولم يكتب له الاستمرار عندما انتحرت زوجته بعد فترة على هذا الارتباط.
سياسياً، عرف عن الشاعر الكبير توتر علاقته بالرئيس بشارة الخوري، وأيضاً مع الرئيس كميل شمعون. على الصعيد الإيماني، كان عقل مؤمناً مفرّقاً بين الفلسفة التي هي نتاج العقل والإيمان الذي "يعني الله". وفي حديث صحافي، أوضح عقل تلك العلاقة بين الملحدين الذين يرى أن لديهم "كسلاً عقلياً"، معتبراً أنّ "المسيحية ديانة فائقة الأهمية».
------------------
إضاءة
فيروز والرحابنة
«ألعينيكِ تأنّى وخَطَرْ/ يفرشُ الضّوء على التلّ القمر؟/ ضاحكاً للغُصن، مرتاحاً إلى/ ضفة النهر، رفيقاً بالحجر». قصيدة «ألعينيك» (ديوان «رندلى»)، وهي واحدة من معظم قصائده التي تغني نفسها، فكيف بالأحرى لو غنتها فيروز؟ كتب سعيد عقل الكثير عن فيروز وصوتها، كما وصفها دائماً بالإلهة.
وحين غنّت فيروز قصائده ولحّنها الأخوان رحباني، فضّل الموسيقى على كلمات أغنياته، وبالطبع فضّل صوتها على الموسيقى والكلمات. وقد حمل عدد من قصائده بصمات فيروز والأخوين رحباني منها: «حملت بيروت» و«يا شام عاد الصيف» و«خذني بعينيك» و«سائليني» و«شام يا ذا السيف» و«قرأت مجدك» و«سيفٌ فليشهر» و«يارا» و«بحبك ما بعرف» و«أمي يا ملاكي» و«شال» و«أحب دمشق» و«بالغار كللت» و«أردن» و«عمّان في القلب» و«فتحهن عليي» و«من روابينا القمر» و«غنيت مكة» و«مشوار» و«مرجوحه» و«بيبقى المسا» و«لاعب الريشة» و«دقيت.. طل الورد عالشباك» و«لمين الهدية».
سقطات
لن يغيب مشهد سعيد عقل وهو يدعو عام 1982 إلى قتال الفلسطينيين مع جيش العدو الإسرائيلي خلال اجتياح بيروت. هذا المشهد وحده كان سبباً كافياً لدى البعض لمحو شعره وتركته الأدبية بأكملها. لكن بالعودة إلى سنواته الأولى، كان عقل مقاوماً مع أهالي بلدته زحلة ضد حكومة الانتداب الفرنسي عام 1935. ألقى حينها خطاباً يدعو إلى الكفاح من أجل نيل الاستقلال، اعتقلته السلطات الفرنسية على إثره. عام 1948، طالب مجدداً بجمهورية مستقلّة إلى جانب ثوّار زحلة، ما وضعه في مواجهة مع رئيس الجمهورية بشارة الخوري. وقد طرد بسبب هذا الخلاف من «مدرسة الآداب العليا» حيث كان يدرّس، ومن مجلّة «الشراع». هكذا، أرسل خلال تلك الفترة قصائده إلى الإذاعة السورية، ليقرأها مديرها أحمد عسيفي في برنامج خاص. حين انتخب عضواً في مجلس بلدية زحلة، استقال للترشح للانتخابات النيابية الفرعية عام 1965 من دون أن ينجح. كذلك يعدّ عقل من أهم دعاة القومية اللبنانية، وشارك عام 1972 في تأسيس «حزب التجدّد اللبناني»، كذلك كان يعتبر الأب الروحي لحزب «حراس الأرز». بين 1975 و1976، انضمّ إلى «جبهة الحرية والإنسان»، قبل أن يتركها. أما أفكاره السياسية، فقد نشرها في جريدته «لبنان» الناطقة بالعامية اللبنانية، والتي أطلقها عام 1977. بعد مجزرة صبرا وشاتيلا (16 أيلول 1982)، كتب في هذه الجريدة عنوانه الشهير والصادم «نحن منقلّن لأبطال عملية صبرا وشاتيلا: كل لبنان معكن، كمّلو».
القومية اللبنانية
التصق مصطلح «القومية اللبنانية» بإسم سعيد عقل، التي دعا إليها دائماً لمواجهة القومية العربية. أدّت أبحاثه حول تاريخ لبنان إلى ترسيخ قناعاته القومية اللبنانية، التي تعدّ مسرحيته «قدموس» (1944) تعبيراً عنها. في مؤلّفه النثري «لبنان إن حكى» (1960) كتب عن أمجاد لبنان بأسلوب قصصي، يتأرجح بين التاريخ والأسطورة والبطولة. مع ديوانه «يارا» (1961) أطلق عقل مشروعه اللغوي الأبجدي للكتابة بالعامية اللبنانية. وجد لها أبجدية خاصة مستوحاة من اللاتينية التي يعتبرها أيضاً إحدى تنويعات اللغة الفينيقية. اعتقاده أن المستقبل هو لهذه اللغة المحكية، أثار مواقف وجدالات كثيرة، ستضعه لاحقاً في موقع سجالي (على المستويين الأدبيّ واللُّغوي) مع المؤمنين بانتماء لبنان إلى الدول العربية، والكتاب والأدباء الداعين إلى المحافظة على اللغة الفصحى كجزء من هذه الهوية العربية. واصل عقل مشروعه «اللبناني»، منجزاً أهم القصائد بالعامية. وقد أصدر 1978 ديوانًا تحت عنوان «خماسيات» (مختلفة عن «خماسياته» المكتوبة بالعربية الفصحى).عام 1962 أطلق جائزة شعرية، تمنح للشخص الأفضل الذي يزيد «لبنان والعالم حباً وجمالاً». كذلك أسس عام 1977 جريدته «لبنان» الناطقة بالعامية اللبنانية.
إضافة تعليق جديد