ميشيل كيلو وولادة المثقف السوري
إن كان من حدث يعلن ولادة المثقف في سوريا البعثية، فهو «الحوار» الذي جرى بين قيادة «الجبهة الوطنية التقدمية» وكتّاب وصحفيين سوريين عام .1979 وإذا كان هناك شخص تجسد فيه وقتها، واليوم، دور المثقف فهو ميشيل كيلو. كان ثمة دوما كتاب ومفكرون وأدباء وصحفيون في سوريا منذ أيام عبد الرحمن الكواكبي، لكنْ كثيرون منهم لم ينهضوا بالدور الانشقاقي للمثقف. نفترض هنا أن المثقف شخص حائز على «رأسمال رمزي» معترف به من عمله في أحد مجالات الثقافة، وأنه يستند إلى الرأسمال هذا للتدخل في الشأن العام، وبالخصوص ضد السلطة، ودفاعاً عن القيم الكونية كالمساواة والحرية والكرامة الإنسانية واستقلال الضمير. التدخل هو «الفصل النوعي» للمثقف، فيما «الرأسمال» شرط لا غنى عنه، لكنه غير كاف لتعريفه. في العربية نستخدم كلمة مثقف للدلالة على «اطلاع» الشخص أو «منجزه» الثقافي، على «رأسماله الرمزي»، أكثر مما للدلالة على دوره العام. لكن ليس ثمة ما يمنع التركيز على البعد الآخر، المستفاد من تجربة مجتمعات أوربية، الفرنسي بخاصة.
في «الحوار» ذاك، وقد خلده شريط كاسيت سجلت عليه كلمات المرحوم ممدوح عدوان والشاعر علي المصري والشاعر عادل محمود والشاعر الفلسطيني أحمد دحبور، الذي كان وقتها مقيماً في دمشق وآخرين، فضلاً عن ميشيل كيلو، انتقد المثقفون السلطة وقالوا «الحقيقة» في وجهها. بصوته الجهير وعربيته الطليقة تحدث ميشيل كيلو عن دور الجبهة في تحطيم أحزابها ومصادرة الحياة السياسية، وعن فساد كبار المسؤولين، وعن قيام العقيدة الرسمية على اتهام الشعب بالتآمر على نظام الحكم... ولم يقصر غيره في كشف زيف الخطاب الرسمي وطلاقه المنهجي مع الحقيقة، حتى حين يتعلق الأمر بانتشار وباء الكوليرا، بل حتى في درجات الحرارة، كما قال ممدوح عدوان، المثقف متعدد المواهب.
وإنما لذلك كانت جولة «الحوار» تلك الأخيرة، بينما كان يفترض أن تكون الأولى، بين مثقفين سوريين والسلطة. أما الشريط المسجل، وقد سمي «شريط الجبهة» على هدي أفضل المبادئ البلاغية للثقافة الشفهية، فقد تم تداوله على نطاق واسع كمنشور سري، مقوض ل«الحقيقة» الرسمية.
كان واضحاً وقتها أن سوريا مقبلة على أزمة خطيرة، ستتفجر بعد حين صراعاً مفرط العنف وباهظ الكلفة بين النظام والإسلاميين. وكان النظام يؤمل من استماعه إلى مثقفين أن يكسبهم إلى صفه في مواجهة الخصم الإسلامي. لكن رغم أن أيا من المثقفين الذين شاركوا في «الحوار» لم يكن إسلامياً ولا قريباً من الإسلاميين أو متعاطفاً معهم، فإن أعنف انتقاداتهم وجهت للنظام، وفي وجه من يفترض أنها القيادة السياسية العليا في البلد، أي «الجبهة». لم يكن خافياً أن سبباً جوهرياً لتخصيص النظام بالنقد تمثل في اعتبار الإسلاميين خصماً بديهياً، سياسياً وفكرياً، فيما ثمة شبهة شراكة فكرية وقيمية مع النظام البعثي. ونميل من جهتنا إلى الاعتقاد أن افتراض الشراكة هذا لا يزال حائلاً دون كثرة عدد «المثقفين» في سوريا، وعائقاً جدياً أمام تكون تقليد انشقاقي سوري. وتفسر شبهة الشراكة هذه أو افتراضها اضطراب دور المثقفين السوريين، وبينهم ميشيل كيلو ذاته. ذلك أن استقلال المثقف مرهون بتمام انشقاقه، بمبادرته إلى نقد الأسس الفكرية والثقافية لنظام الحزب الواحد. وهذا جهد لم يمارس بصورة منهجية بعد في سوريا.
على أنه ينبغي القول إن افتقار من «خاف القِلى» من عقلاء السوريين إلى «منأى عن الأذى» يُعتزَل إليه، إن حاكينا لغة الشنفرى، «فيلسوف» الانشقاق (الصعلكة) في تاريخنا، هذا الافتقار يؤازر دور الشراكة المتوهمة تلك في تعسير ولادة المثقف وقيام تقليد انشقاقي. لكن استدراكاً معاكساً يملي أيضا أن نلاحظ أن الظروف غير ملائمة للانشقاق دوما وفي كل مكان، وأن المثقفين المنشقين عوملوا في كل مكان بقسوة تفوق قسوة التعامل مع العصاة: من سقراط والأنبياء إلى زاخاروف وتشومسكي. يخفف من القسوة هذه في عصرنا الإعلامي تكوّن نظام رأسمالي رمزي عالمي، واندراج الانشقاق في النزاعات بين الدول والكتل الدولية.
بعد عام أو أزيَد قليلا من «شريط الجبهة» كان شمل المثقفين السوريين قد تبدد، شأن شمل مجتمعهم: لجأ بعضهم إلى مملكة الصمت، وهاجر بعضهم، وسجن بعض ثالث. من البعض الأخير ميشيل كيلو الذي سجن لوقت قصير بالمقاييس السورية (عام ونصف العام). فيما أوهم بعض رابع نفسه بأنه يجمع بين نقد استبداد مجرد ومجهول الفاعل، والقيام بدور ثقافي مستقل. كان ذلك الوهم ضرورياً لتغطية استقالتهم الثقافية في أفظع ظرف عرفته البلاد في تاريخها المعاصر.
كان من شروط إمكان ولادة المثقف في العهد البعثي الانفصال الفكري والمعنوي عن العقيدة التقدمية التي هيمنت وحكمت في سوريا منذ الوحدة السورية المصرية عام .1958 فالانفصال الفكري والمعنوي، الانشقاق، هو شكل ولادة المثقف في ظل تنويعات الشمولية جميعاً. بفضل ياسين الحافظ خاصة، وقد كان ميشيل كيلو قريبا منه، تحققت خطوات كبيرة على طريق الانشقاق عن تلك العقيدة «التأخراكية» التي حجبت طوال عقدين استقالة المثقفين والتحاقهم بمشروع سلطوي معاد للثقافة. كان ذلك زمن «المثقف الملتزم»، وهذا صنف يجمع بين رأسمال رمزي هزيل عموماً، ودور «عام» متضخم (العام هنا متشيء في «قضية»، ومنفصل عن الحرية)، وفي الغالب يعوض بهذا عن ذاك. والعبرة الثابتة المستخلصة من خبرتنا الوطنية تفيد بأن المخبر، «كاتب التقارير» بخاصة، هو أعلى درجات التزام المثقف: ثقافة معدومة ودور «عام» تنفيذي ومباشر.
وما كان للانفصال هذا إلا أن يعي ذاته تحت راية الديموقراطية («الديموقراطية حاف»، كما كان يحب أن يقول ياسين الحافظ، أي بلا لاحقة «تأكلها»، (كالشعبية من باب التعظيم والبرجوازية من باب التحقير) التي عانت طوال قرابة عقدين من سوء السمعة على يد التقدميين القوميين والشيوعيين. فقد كانت عقائد هؤلاء، القوميين والشيوعيين، معادية لاستقلال المثقفين ومضادة للانشقاق. مثلهما وأكثر عقيدة الإسلاميين.
بيد أن الانفصال ذاك كان عملية فكرية وإيديولوجية وسياسية بحتة، أعني أنها تمت بآليات الفكر والسياسية، وكانت مستقلة عن تحولات اجتماعية وطبقية لم تقع. ولعل استقلال الحركية الفكرية والسياسية عن الحركية الاجتماعية خاصية مميزة لبلاد مثل سوريا، فتية الكيان، قلقة الهوية، يشغل بال النبهاء من أبنائها قضايا جيوسياسية عسيرة وقضايا الاندماج الداخلي الصعبة. وليس الاستقلال هذا فضيلة بحال. فهو السبب، في تقديرنا، في أن الانفصال الفكري عن «العقيدة القومية التقدمية» لم يكتمل أبداً. إننا ندفع ثمن بداياتنا القوية نضجاً مؤجلا على الدوام.
يبقى صحيحاً أنه نثرت بذور ثقافة انشقاقية منذ ذلك الوقت، وبعد قليل سيستأنف برهان غليون، لكن من خارج سوريا، نقد العقيدة التقدمية ونموذج الحداثة الرثة الاستبدادية والعاجزة عن احتضان قيم الحداثة المنتجة، وعن التبلور في أي تقليد مشترك.
لم يؤلف ميشيل كيلو كتباً تقريباً (لن نقول لماذا «تقريبا»؛ لكن للأمر صلة وثيقة بشرط المثقف وقول الحقيقة في سوريا). ترجم عن الألمانية كتباً هي بنت زمنها، بعضها يصعب قراءته الآن. لكنه لم يكف منذ ثلاثين عاماً عن الكتابة في نشرات معارضة سرية في السبعينات، وربما في الثمانينات بعد الإفراج عنه، وعلناً في الصحافة العربية منذ الثمانينات حتى اعتقاله في 14 أيار .2006
لماذا، إذن، ميشيل كيلو وليس ياسين الحافظ؟ لسببين. الأول، أن الحافظ غادر دمشق إلى بيروت بعد اعتقاله عام ,1968 فكف عن «التدخل» الشخصي في الشأن العام السوري، وإن بقي عبر حزبه، حزب العمال الثوري العربي، ضمن الحقل السياسي السوري. الثاني، أنه توفي مبكراً جداً، في عمر 48 عاماً، في الوقت الذي أخذ القلم ينضج في يده، كما سيقول بشيء من التحسر قبيل وفاته بالسرطان عام .1978 أما ميشيل كيلو فقد حافظ على شيء من الاستمرارية في سنوات ما بعد خروجه من السجن حتى عام .2000 كتب خلالها عن «القضايا العربية»، الملجأ الكتابي الآمن للمثقفين العرب حين يتعذر عليهم الكتابة عن شؤون بلدانهم. وفي السنوات الست الماضية كان من أنشط المثقفين السوريين، كتابة والتقاءً مباشراً بالناس ومشاركة في النقاش السوري العام، وتحديداً لمسائله وقضاياه. ولا ريب أن اعتقاله قبل ثلاثة أسابيع، لشأن يتصل بصلب نشاطه كمثقف، يرشح ميشيل كيلو لموقع المثقف الأبرز في سوريا اليوم.
يضاف إلى ذلك أن ميشيل كيلو حرص على نشاط عام مباشر دون أن يلتحق بأي تنظيم سياسي. كان مشروع «لجان إحياء المجتمع المدني»، وقد اقترن باسمه أكثر من غيره، محاولة لابتكار نموذج لا تراتبي ولا سلطوي للتنظيم، يتعاون فيه ناشطون محتفظون باستقلالهم السياسي والأخلاقي. وكان ميشيل بذلك ، نموذجاً للمثقف السوري الذي يرمي نفسه في بحر العمل العام دون الانخراط في إطار منتج لسلطة وساع وراء سلطة. لم تكن ثمار هذا الجهود بديعة، لكن ربما يعتبرها المستقبل «تمارين» على إنشاء تنظيم حليف للحرية.
وصف ميشيل كيلو بعد اعتقاله بأنه مثقف معتدل. قصد من قالوا ذلك الدفاع عنه. لكن المضمر في قولهم أن هناك مثقفين سوريين متطرفين، وأن الموقف من السلطة هو معيار للاعتدال والتطرف. هذا يفترض أن السلطة هي مقر الاعتدال والسياسة والعمومية في المجتمع، وهو أمر يصعب التسليم به إن فكرنا لحظة في الأمر. على أن موقع ميشيل في قلب الحراك العام طوال السنوات الست الماضية جعله أكثر تحسساً للضغوط والمخاطر المهددة للعمل العام المستقل، أكثر حذراً وتبيناً لمواقع الأقدام في حقل الحياة السياسية والثقافية السورية المفخخ، وربما أكثر تردداً أحياناً. حذره، على أية حال، لم يمس أبداً سلامة تحديده للمفصل الذي يتعين حزّه من أجل تغيير محرّر. ولم تُغْرِه أبداً تلك الثورية الإيديولوجية الصادحة التي تعادي الامبريالية و/أو «الأصولية»...، وتتحمس كثيراً ل«الحداثة» و«العلمانية» و... حديثاً الليبرالية، والتي يعوض بها كثيرون في سوريا عن خنوعهم وتواطؤهم السياسي. ولعل في اعتقاله ما يعطي فكرة عن مقر التطرف في البلاد السورية، وعن أصالة موقفه «المعتدل»، بل «ثوريته».
دخل ميشيل كيلو في سجالات كثيرة، بعضها غير موفق. وبعضنا يلومه على أنه «صغّر» نفسه في تلك السجالات. لكنه ببساطة، لم يكن يستطيع السكوت على ما يراه من عوج في الحياة السياسية والثقافية والأخلاقية السورية، وكم هو كثير! ولعله لذلك من أكثر المثقفين السوريين جمعا للخصوم. أكثرهم كذلك تعرضا لافتراءات وضيعة.
كان يجلس في مقهي «الروضة» مساءً، ربما كل مساء. يلتقي بأصدقائه، يتحدث في السياسة، قد يلعب «دق طاولة زهر»، وربما يشرد عن جليسه وهو يتابع الدق، لا يستطيع مقاومة إغراء متابعة مفاجئات النرد الدائمة ولا حركات اللاعبين الخاطئة مبدئياً. رجل يستغرق في كل شيء.
ياسين الحاج صالح
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد