نيتشه بين رطانة الألمانية وأناقة الفرنسية
- محمّد صلاح بوشتلّة:
إنه وإن كان إميل سيوران (1911-1995) يتبرّم من أربعين ألف سنة من تاريخ لُغة بني البشر، بعلة أنّه لا يجد فيها حرفًا واحدًا يصفُ من خلاله الشّعور بالغيض الذي بداخله، على أتمّ ما هو ذلك الشّعور. ويُسَاوِقه في هذا خورخي بورخيس (1899-1979) الذي كان يرى العالم من خلال عكّازته ومن خلال إنصاته المتمعّن للغة، حينما يؤكد من جهته، أن المرء يقرأ ما يرغب فيه، لكنه لا يكتب ما فيه يرغب، وإنما ما يستطيعه فقط، فإنّنا نجد فريدريك نيتشه (1844-1900) صاحب الحساسيّة المرضيّة من كل ما هو ألمانيّ كدِر، يرى في لُغته الألمانيّة رمزًا للعَيّ وفقرًا في التّعبير لا يُضاهى، ومصدرًا لكل غبشٍ وتعقيد. حاكمًا عليها بالرّثاثة والرّكاكة في الوصف الجميل والقدرة على التّعبير الواضح، وواصفًا ما كُتب ضمنها بالرّداءة غير المحتملة، دون أن يضع بباله سائر الألمان المتعصّبين للغتهم، الذين يصفهم بأنهم وإن تظاهروا بالصّفوية غير أنّهم لا يستطيعون تركيب جملةٍ واحدةٍ1 صحيحةٍ بلغتهم، بما فيهم فاغنر الذي فيه كثير من فيلهلم فريديريش هيجل (1770-1831) الذي شعر فاغنر «أنّه الرّجل المناسب له! وعمل على تخليده!»2، لذا «لم يفعل سوى تطبيق خصائصه على الموسيقى، وابتكر له أسلوبًا، «يعني اللامتناهي»؛ وأصبح بذلك وريث هيغل: الموسيقىــ ”فكرة”»3 ، الشّيء الذي أثّر بالتّأكيد في ألحانه كما على طريقة كتابته، فمعاشرة هيجل تُصيب بالكدَر وبلوثة التّعقيد المنفّرة وغير المحبّبة.
1 ـ اللّغة الألمانية أو عن سُوء التّعبير:
حساسيّة نيتشه المفرطة اتجاه لغته الأم، اتخذت شكل اعتراف وتعبير عن السّخط منها، تعبير يُلخّصه تفضيله قراءة شُوبنهَاور (1788-1860) في ترجمته الفرنسية، لا في أصله الألماني، وبالضّبط مؤلَّفه الرّئيسي: العالم إرادة وتمثلًا الذي تُرجم بحسب نيتشه إلى الفرنسية لمرّتين. جاءت التّرجمة الثّانية، بحسبه، على غاية من الجودة والامتياز، ليحدُث لنيتشه مع ترجمة شُوبنهَاور الفرنسية ما سيحدث للألمان مع ترجمة فينومينولوجيا الرّوح لهيغل إلى الفرنسيّة، من تعويلهم على النّسخة الفرنسيّة في استيعاب مضامين الأصل الألماني. ففي إقرار من نيتشه بكفاءة التّرجمة الفرنسيّة، وبزّها لمكانة الأصل الألماني، بشكل يتضمّن إقلالًا حتى من مكانة شوبنهاور الكاتب الأصلي، يقول نيتشه: «إنني صرت أُفضّل قراءة شُوبنهَاور بالفرنسيّة»4 ، وذلك على حساب قراءته في الألمانية التي كَتب بها كتابه العُمدة: العالم إرادة وتمثلًا. في قلبٍ غريب لتلك النّصيحة التي تهب الأصل قداسته، التي قد لا تُعجبنا غالبًا؛ من أنّه يجب علينا أن نبحث عن الأصول، وأن نقرأ الكتاب في صيغته الأصل، نصيحة سيُؤيدها فالتر بنجامان (1892-1940) الذي يرى ألّا شيء يُغني عن الأصل على الرّغم من أن كلًّا من الأصل وترجماته في حاجة دائمة لبعضهما؛ بقدر نَقدر معه أن نُغلّب جانب أحدهما الموقَّر، لكن ثمة تنبيهًا بسيطًا، بألا ننصاع مرة واحدة إلى جانب التّرجمات، ونترك جانب الأصل مَلومًا محسورًا.
ربما لا يتعلّق الأمر إذن، بقضية التّرجمة في حدّ ذاتها، وإنما بلُغات دون أخرى، لغات تختلف من جهة صفائها ووضوحها، كما من جهة كفاءتها في المقدرة على النّقل وعلى الاستيعاب الأسلوبي والاقتراح القاموسي. أَوَليس أنه متى ما حلّ هيغل حلّ سوء الفهم الكبير كما الحالة في ترجمة فينومينولوجيا الرّوح؟ ومتى ما حلّت الألمانية تكدّر صفو الحديث5 وتضبّبت مواضيعه على حدّ سواء؟ ثم أليس كثيرٌ من معلمي نيتشه الفرنسيين، إنما أفسدتهم، في الحقيقة، الفلسفة الألمانية المكتوبة بلغة ألمانية؟ فلا ننسى أن الفرنسي «مسيو تاين»6 إنما أخذ سُوء فهم كبار الرّجال وورث سوء التّعامل مع الحقب التّاريخية من هذا الألماني المدعو هيغل. باختصار فحيثما حلّ اللّسان الفرنسي في نص إلا زانه، ومتى ما وفَدَت الألمانية على نصّ إلا شانته وتكدّر صفو الثّقافة فيه7 ، وتراجع منسوب صبيب الوضوح. على عكس الألمان تمامًا؛ تقف الفرنسيّة والفرنسيّون الذين يجد لديهم نيتشه وضوحًا ودقّة كبيرتين8 لم يتوفّر عليهما اليراع الألمانيّ، ورسبت في كل محاولات نيل نياشينهما.
يُسجّل نيتشه قدرة خارقة للفرنسيّة على إعادة توطين النّصوص المنتمية للغاتٍ أخرى؛ البعيدة منها والقريبة على حد سواء، وشفافيّة أكبر في قلب العُتمة والضّبابية التي تولد مع الأصل الألماني إلى وضوح رؤية وصفاء نَظر، وإن كان هذا الوضوح، سيسجّله بعضهم كأحد نقائص فرنسا، لا الفرنسية فقط، كما يؤكد ذلك سيوران، وضوح أدّى إلى إعراض فرنسا والفرنسية عن «الغامض والضّبابيّ»9 ، وبالتّالي إلى ضديـّتها للشعر، وضديّـتُها للميتافيزيقا10، صفتها الأخيرة هذه هي التي لربما كانت مصدر إغراءِ وإثارةِ الفرنسية وجاذبيتها عند نيتشه، بحيث جعلته يتودّد من يُترجمه هو إلى الفرنسية، ويودّ لو يقرأ نموذجه الأسمى شُوبنهَاور ضمن فرنسيّة ظلت تستهويه وتستثيره؛ وبقي يراها فرنسية مثيرة وشهية.
من هنا كان نيتشه يؤكد على أنه ليس هناك من سبب يَغضب منه الألمان عندما يسخر منهم الفرنسيّون لكونهم غير مثيرين، وتنقصهم الأناقة! فهم على الحقيقة غير مثيرين، وتنقصهم الأناقة. ولهذا فــ«ـعندما يرغب أحد الألمان أن يكون دَمثًا وراقيًا، تُذكرهم بالهندي الذي يريد الحصول على حلقة في أنفه، ويصرخ من أجل أن يوشم»11. إن كل شيء في فرنسا، بحسب نيتشه، يتم بأناقة ويُنجز بلُطف وبحسب قواعد الإتكيت الفرنسية الباذخة والمشهورة، إذ حتى التّعاسة، بحسب سيوران، حينما تكون بمعاشرة الفرنسيين، تجعل من صاحبها تعيسًا، لكن تعيسًا بلطف12 .
2 ـ الألمانية وأمراض اللّسان الـمُعدية:
إرادة التّسفيه والازدراء النّيتشوي للثقافة الألمانية ولعناصرها الكبيرة، وفي المقابل تمجيده للثقافة الفرنسيّة وإن كانت ستُسقِط نيتشه في مركز دائرة انتقاداته التي كان قد وجّهها لأساتذة اللّغة الألمانية المزامنين له؛ من الذين كانوا يزرعون في طلبتهم بذور إرادة فظّة ترمي إلى إساءة فهم أدباء ألمانيا الكلاسيكيين، فنيتشه لا يهمه ذلك، حتى وإن ظهر لمرات منافحًا عن رموز ثقافته خاصة من الكلاسيكيين، وخاصة من إساءة فهمهم، حيث يُعيب محاولات تقليدهم كمحاولة لنقد جمالي من لدن هؤلاء الأساتذة، معتبرًا ذلك بأنه ليس سوى همجيّة وقحة وجراءة بشعة. يتعلم فيها تلامذة ألمانيا أن يتكلموا عن شيللر بتفوق صبيانيّ، و«يتم تعويدهم على السّخرية من أنبل ما خططه ومن أشده ألمانية، من ماركيز بوزا (Marquis de Posa)، من ماكس وطيكلا، سخرية تغضب العبقرية الألمانية وستخجل منها الأجيال القادمة الأفضل من هذه»13 . رغم إيمان نيتشه هنا بأدباء ألمانيا الكلاسيكيين، فإنه لا يتأخر في مناوشتهم هم الآخرين، فيُعدّد كتبهم، في غير ما سياق، نقاط ضعفهم الخطرة، التي على رأسها الألمانية، إذ إنّ «أضعف جانب في أيّ كتاب كلاسيكي هو كونه قد كتب باللّغة الأم لمؤلفّه»14 .
إنّ الملاحظة المتعلقة بالدّقة والوضوح لدى الفرنسيّين، والتّعقيد والرّطانة الألمانيّتين اللتين امتاز بها الشّعب الألماني عن باقي شعوب أوروبا كلها، ستُستعاد في الزّمن المعاصر مع سيوران المتأثّر بنيتشه، الذي يرى أن الفرنسيّين قد أساؤوا للأسلوب الواضح والكتابة الشّفّافة بتأثّرهم بما هو ألماني يتمسّح بالرّطانة المرهقة وبالتّعقيد المكلّل بالعناء، تأثير اعتبره سيوران كارثيًّا، إذ صار معه الفرنسيّون غير قادرين على التّعبير بعفوية ووضوح. لتصير الألمانيّة مرضًا معديًا يُصيب الأسلوب، وليس كونه مجرّد لغة. يؤكد هذا الرّوماني سيوران الذي يذكر بأنّ من ساعده على الكتابة بلغة صافية دون رطانة وتعقيد، والذي شفاه من مرض الألمانية الذي نزل به أيام دراسته في ألمانيا إنما هو الشّاعر الفرنسي بول فاليري.
إن التّعقيد الذي أصاب فرنسيّين كسارتر وفوكو ودولوز ودريدا الذي يعتبر أن قراءة هيجل وهوسرل وهيدجر هي من زوّدت الفكر الفرنسي فيما بعد الحرب بأفضل موارده المفاهيميّة، وإلى جانب هؤلاء ألتُوسير والبقيّة من الذين لا يسعنا إلا أن نتفق على «تحذلقهم وتصنّعهم، وشغفهم بالتّورية والإيماء»15 ، إنما أصابهم كل هذا من فيلسوف ألماني هو هيجل، وطمّ الوادي بهايدغر، إذ بينما لا نحتاج إلا لكلمة للحديث عن الموت هي كلمة «الموت» ذاتها، فإننا مع هايدغر نلجأ إلى جُملٍ وفقراتٍ طويلة، لأجل قول أشياء في منتهى البساطة، في نوبة جنون عظمة تقود الفيلسوف إلى أن يختلق عالمه الوهميّ الخاص حيث يكون هو السّيد والآمر النّاهي على اللّغة المسكينة، ولهذا لا يجد سيوران حرجًا في تأكيده على أن إقامته الطّويلة في فرنسا إلى جانب قراءاته لشعراء الفرنسية هي من كانت سببًا في تداويه من الرّطانة والتّعقيد الألمانيين اللذين اكتسبهما أيام دراسته في ألمانيا.
3 ـ بأي لغة نقرأ شوبنهاور؟
مع رغبته في قراءة شوبنهاور بالفرنسيّة، إلا أنّه يسجّل نَدمه وتحسّره الشّديدين على عدم إتقانه الجيّد للفرنسيّة، من أجل قراءة فيلسوفه الأثير، في لُغة فيلسوفه الأثير فُولْتِير، والأثير لدى شُوبنهَاور كذلك، ومن قبلهما عند والد شُوبنهَاور، هذا الأخير الذي قاد ولدَه إلى تطويع أكثر من لغة، وتأبّطها تحت لسانه، بشكلٍ جعله في علاقة دائمة بالنّصوص في أصولها الأولى، دون الاعتماد على الخدمة التي يقدمها المترجمون، إذ كان يكتب ويقرأ ويتكلم الإنجليزية التي تعلمها في معهد ديني كنسي، بالإضافة إلى اللّاتينية والإغريقية القديمة اللّتين كان يمسك حساباته البنكيّة بهما، كي لا يتعرّف عليها أحد، علاوة على اطّلاعه الجيّد على الإيطالية والإسبانية، ثم الفرنسية التي كادت تُنسيه لغته الأصل. التي لربما تمنّى، هو الآخر، أن يقرأ بها كل النّصوص الألمانية، بل وتمنّى أن يكتب بها كذلك، والسبب هو ارتباطه الكبير منذ الصّغر بها، إذ آثر والده أن يرسله وهو ابن تسع سنوات لدراسة الفرنسيّة إلى لوهافر مدينة الفيلسوف ليبنيز الذي كتب ثلث أعماله بالفرنسية.
سيتطور حبُّ شوبنهاور بالفرنسية وسينمو تعلّقه بأدباء الفرنسيّة الكلاسيكيين إلى درجة يؤكد معها بأنه «لا يوجد في أي لُغة من لغات العالم نثر أجمل ولا أكثر إمتاعًا من النّثر الفرنسي»16 ، ليكون النّثر والنّاثر الفرنسي الأجود بالنّسبة إليه والأقرب عند أي قارئ، في مقابل «كتابة الكاتب الألماني الذي ينسج أفكاره جميعًا، جملة، في عبارة يلويها ويعقدها، ثم يعقدها، ويلويها»17 ، ببساطة «لأنه يريد أن يقول ستة أشياء في وقت واحد بدلا من أن يقدمها إلى القارئ واحدة بعد الأخرى»18 . دون أن ننسى بطيعة الحال، وطِبقًا لحكم سبق لشُوبنهَاور أن وجَّهه نحو الفرنسيين، أن الفرنسي والفرنسية قد ينتميان إلى عالم القِردة، لا عالم بني البشر، فهو القائل في غمرة نزغة قومية مفاجئة اعترته، وبسخريته المعهودة بأن «القارّات الأخرى لها قرود، وفي أوروبا الذي لدينا إنما فرنسيين فقط»، فهو يبقى بمشاعر قومية، تصون وتحفظ عرى الودّ مع بلده، غير أنه لا يحفظها اتجاه لغته، فهو قد أدخل عليها المهانة قبلًا حينما جعل لسانه يلوك أكثر من لغة أوربية بسلاسة ودون أي مركَّب نقص أمام لغته الأم، كما كان يتجول دول أوروبا وكأنه بلده وهو الذي رتّبت أسرته كل شيء لتتم ولادته في إنجلترا، لا في بلده الأم، حتى يستفيد من حقوق المواطن الإنجليزي. ولكن مرض الأم المفاجئ خيّب مساعي الأسرة، هذه الأم التي لم يكن شوبنهاور بارًّا بها، كما هي هذه الأم لم تبادله مشاعر الأمومة، وقس على ذلك علاقته باللّغة الأم والوطن الأم. وهذا ما يشير إليه نيتشه في العلم المرح من أنّ شوبنهاور ظلّ يبدو في الغالب إنجليزيا بشكل كبير وألمانيًّا بشكل أقل! لتتنازعه الجنسيّات الأوربية فقد اختير له أصلًا اسم آرثر (Arthur) لأنه يُكتب بالألمانية والإنجليزية والفرنسية بنفس الحروف.
إنّ رَغبة نيتشه في قراءة شُوبنهَاور المترجَم، أو بالأحرى شُوبنهَاور في صيغته الفرنسيّة المكرّرة، تجعلنا نطرح السؤال عن كيف يصير شُوبنهَاور بُعيد ترجمته؟ خاصّة ونيتشه هو من يُنبهنا إلى وقوف شوبنهاور في الطّرف النّقيض من الفرنسيّين في أسلوب كتابته، فقسوة شُوبنهَاور وروحه المتجهّمة تُعلّم بحسب نيتشه الكثير بشكل قد نشعر معه «بغياب المرونة والكياسة الفاتنة للكُتّاب الفرنسيين الجيّدين، مثلما تُعلّمنا أن نكرهها حتى لن يجد أحد لديه ذلك المقلد، كالفرنسية المزيفة المطليّة بالفضّة، التي يعول عليها الكتاب الألمان كثيرًا»19 . ثم يقودنا هذا إلى أن نسأل ثانية لماذا الاضطرار إلى قراءة ترجمته إلى الفرنسية؟ خاصّة ونيتشه يُسجل من جهة ثانية، في سياق آخر إعجابه الكبير بأسلوب شوبنهاور الذي قرأه من خلاله أول مرة20 ، معتبرًا أن القراءة له كانت أحد ثلاثة جُرعاتٍ مُهدِّئة منحت نيتشه الرّاحة والسّكون، التي هي موسيقى شومان وجولات العزلة في البراري قرب البحيرات والأودية ومطالعة شُوبنهَاور بأسلوبه الحماسيّ وروحه المتجهّمة، بحيث لا يذكِّره إلا بنموذج الكلاسيكي: غوته، المحضيّ عنده؛ من بين جميع الألمان، باعتبار جودة الكتابة وتفتُّقها، إذ يُشكل وحده كوّة نور وسط عتمة من يكتبون بالألمانية.
في تعبيرٍ صريحٍ عمّا يستهويه في شوبنهاور، يصف نيتشه ويمدح ويُعلي من طريقة كتابة معلّمه ومربيه شوبنهاور؛ بقوله عنه: «إنه لا يذكرني بأي نموذجٍ ألمانيّ على الإطلاق، إنه يكتب بطريقة يعرف، كيف يعبر الإنسان عن العميق ببساطة، والمؤثّر بدون تورية، والعلمي الدّقيق بدون حذلقة: فمن أي ألماني أمكنه أن يتعلم هذا؟ إنه متحرّر أيضًا من الأسلوب المتشنج والمداهن (…) إنني لا أمدح شُوبنهَاور، بل أصفه فحسب، حين أردد: إنه صادق حتى ككاتب؛ إنه يوجد كتاب قليلون جدًّا صادقون، بحيث إن على المرء ألّا يثق في الواقع بأي شخص يكتب. أنا أعرف كاتبًا واحدًا فقط، يمكنني أن أضعه من حيث الصّدق عاليًا في مستوى شُوبنهَاور، وفي الحقيقة أضعه حتى أعلى منه: مونتاني»21 .
شوبنهاور وإن كان يكتب بالألمانيّة، وللألمان، فإن نيتشه لا يستدعي أحدًا قد يكون أخذ منه شوبنهاور شيئًا، كما لا يستدعي شبيهًا له من بني جنسه؛ من الجِرمان، ولكنه لا يستدعي إلا واحدًا من الفرنسيين الرّائعين عند نيتشه؛ إنه ميشيل دي مونتاني الذي يستدعيه نيتشه ليقارنه بفيلسوفه المقرب، ويتحقق من فضائل أسلوبه، ويُنبه لما بين هذا الألماني وذاك الفرنسي من شَبه عند الحديث عن الصّدق في التّعبير، وعن الابتعاد عن التّشنج، والتّحرر من المداهنة والتّسويف. مونتاني الذي كان أول من أصدر كتابًا فكريًّا مهمًّا وأصيلًا باللّغة الفرنسية، عوض اللاتينية التي اكتسبها على يد مُعلم ألمانيّ اختاره بعناية والده لأنه لا يجيد اللّغة الفرنسية، حتى لا تكون إلا اللاتينية واسطةً بينهما، فلِمَ التّرجمة الفرنسية إذن ما دام أنه لا يكتب ككل الألمان؟ ولمَ التّرجمة الفرنسيّة أصلًا ما دام يكتب بنفْس نفَسِ كتابة مونتاني محطّ اعجاب نيتشه؟
إن لحظات التّفوّق التي يمثلُها شُوبنهَاور تتجاوز المستوى الثّقافي الذي عليه الألمان جميعهم، تفوّق لا يُلحق بقائمته إلا اسمًا وحيدًا هو غوته، إنما يتجاوزون كلّ من يكتب بالألمانية بمسافات كبيرة، فـ«ـأنّى للشعب أن يكون يومًا ما في مستوى فن غوته الذي يَنفُذُ بالرّوحانية إلى الرّفاهية والإرعاء! مثلما ارتقى بتهوفن بالموسيقى وشُوبنهَاور بالفلسفة ليتجاوزا الألمان، كذلك تجاوزهم غوته بنظمه Tasse (تاسو) وIphigénie (مسرحية إفيغينا)»22 .
بعيدًا عن حالتين أو ثلاث مثّلث طفرات في التّعبير والأداء الألمانيين، فبقية الألمان عنده ليسوا فقط ضعاف يراعٍ في الكتابة، بل وضعاف بصيرةٍ فيها؛ لذا فطريق النّجاح في الكتابة، يكون بالتّقليل من ألمانية الكاتب، أو لربما التّخلي عنها نهائيا، فغوته الاستثناء الكبير لدى نيتشه كان «الفنان الألماني الوحيد في ميدان الكتابة الذي لا يزال حضوره قويًّا في الحاضر»23 لأنّه ببساطة لم يكن يريد أن يكون ألمانيا مُحترفًا24 ، فأن تكون ألمانيًّا صالحًا معناه أن تنسلخ من الجرمانية25 . لذا فغوته يُعبّر عن امتلاكه لمواهب عديدة يقدر على أدائها، باستثناء واحد هو أن يفكّر ويحسّ كما أيّ ألماني.
4 ـ العمَالة اللّغوية:
أن يصير الألمانيّ أقّل ألمانيّةً كي يكتب بوضوح هذا ما ينطبق على نيتشه هو الآخر، لا على غوته، ولهذا كَتب لا كالألمان، فكتب كُتبًا جيّدة، فريتشل26 أستاذ نيتشه الذي يدين له بالكثير، يعقب على كتابات تلميذه بأنّه يكتب أبحاثه الفيلولوجية كما أيّ روائيّ باريسيّ27 ، لا كما أيّ ألماني، وبشكل مثيرٍ وأخّاذ. والنّاس في باريس من جهتهم، كما ينقل لنا نيتشه، كانوا مندهشين من جرأته، وفي الوقت نفسه من رقّته. لكن لا ننسى أن ريتشل هو من قال لنيتشه: «إننا نحن المثقفين الألمان لدينا دائمًا ولعٌ بفرنسا، غير أنه حُبٌّ مؤسف وسيبقى كذلك. ولن يفهمنا الفرنسيّون مطلقًا، ولن نتبادل المشاعر الجيّاشة بيننا».
نسبة أبحاث نيتشه الفيلولوجية إلى أسلوب كتابة روائيي باريس، لا يمكن مقارنته إلا بإشارة أخرى من نيتشه إلى الرّوايات الشّائنة التي كُتبت عن الألمان في فرنسا، فهل يكون نعتُ نيتشه بالرّوائي الباريسي إشارة إلى عَمالة نيتشه الثّقافية لجهة معادية؟ خاصّة ونحن نعرف أن أحسن من يعرف التّلميذ هو أستاذه، أو أن الأمر مجرد فذلكة وتفريكة أُذن من أستاذ كان يتقن بشكل منقطع النّظير كَيْل التّهم المبطنة28، حيث يصف الأستاذ ريتشل أو العالم العبقري الوحيد الذي التقاه نيتشه، بعبارة الأخير، يصف تلميذه في موضع آخر، وبنفس الوصم الحامل للهوية الفرنسية: “الرّومانسي الفرنسي”، هذه الصّفة التي ستُلازم نيتشه حتى نهايته إذ ظلّ مثابرًا ومتحمسًا لقراءة أدباء ونقاد فرنسا29 ، وظلت عينه متنبّهة إلى كل ما يكتبون، كما ظلت مكتبته قريبة من كل إصدراتهم.القراءة لشوبنهاور بغير لغة الوطن الأم، أكيد ستظل عملًا غير وطنيٍّ بالمرة، غير أنها قد تكون أُمنية شوبنهاور نفسه الذي رأى في الآداب واللّغة الفرنسية لغة بالغة البذخ البلاغي، في الوقت الذي سنلفي فيه شُوبنهَاور الذي وُلِد قبل الثّورة الفرنسيّة بعام واحد، يَصِم من يكتبون بالألمانية، ما بعد فيخته، بالتّحذلق والتّصنع المفاهيميّ والمعجميّ، لأنهم لا يملكون، أصلًا، شيئًا مفهومًا يستحق أن يُقال، ليصير عدم قولِ شيءٍ واضحٍ ومتميز قاعدةً أو خاصية أساسية للفيلسوف الألماني.
إن الألمان يحدثون قُرّاءهم من وراء الأقنعة، ويتكلمون دوما من وراء حُجب، ليجعلوا مهمّة الإمساك بهم مهمة دونها خَرْطُ القَتاد، يجدون في ذلك متعتهم السّعيدة، وهذه الأقنعة لا توجد، بحسب شهادة شُوبنهَاور، إلا في ألمانيا، تناوب فلاسفة ألمانيا على الاحتماء بها، فكان فيخته الوطني الألماني الغيور أول من دشّنه، ثم وصل به إلى درجة الكمال شيلنغ الذي يعدّ هايدغر إحدى جمله أعمق من كل أعمال هيغل، ثم صعد به إلى ذروته وتمامه هيغل! ولعب على وتره بشكل بشع كانط ثم توالت البقية وتولّت اللعب عليه باختلاف بسيط، وليجد هذا النّوع من الكتابة طريقه للجامعة التي لم يكن لشبونهاور فيها صيتٌ ولا حظ، على أيدي أشباه الفلاسفة، ولتبقى بالتّالي ترجمة هيغل للفرنسيّة نتيجة لمجهود مُظنٍ من جهة فرنسي مسكين، لإفهامنا ما يريده هيغل، وليتمحل هيبوليت مهمة نزع كل أقنعة صاحب فينومينولوجيا الرّوح، وليجرده من كل ملابسه التي يُدثّر بها معاني فلسفته.
ستكون اتهامات نيتشه للكُتّاب الألمان وللغة الألمانية مُنساقة إلى حد بعيد مع اتهامات مُربِيه شُوبنهَاور للكتابة بالألمانية، إلى حد التّطابق والتّكرار، فما يمكننا الحكم به، أصلًا، على هذين الفيلسوفين، يمكن أن نجده لدى أفلاطون الذي يُلخّص الشّبه الذي يكون للفيلسوف بالسّفسطائي بأنهما شبيهان شَبه الذئب بالكلب، غير أنّنا لا نستطيع بالضّبط أن نحدّد بين نيتشه وشُوبنهَاور أيّهما الكلب وأيّهما الذّئب؟ فهما يأخذان مرّة دور الكلب، ومرة دور الذّئب، لذا تتشابه مواقفهما من الألمانية، فمن بين كل ما
كان يقوم به نيتشه في الثّانوية كان التّدرب على أساليب اللّغة اللّاتينية التي كان يُتقنها، مثله في هذا مثل شُوبنهَاور، وذلك كأعلى شيء كان يقوم به، في حين اعتبر أن إعطاء الإنشاء باللّغة الألمانية المقام الأول في النّظام التّعلِيمي يعدّ همجية وغلطًا تربويا فادحًا، لأنه ليس لدى الألمان أسلوب ألماني نموذجي على مستوى الفصاحة الشّائعة30 . من هنا يرى أن الألمان مجبرون على ارتياد مدارس الفرنسيين، فهذا هو الطّريق الحقيقي الوحيد.
هذا الموقف مما يُكتب بالألمانية، تُلخّصه قاعة مطالعات نيتشه التي تشكَّى منها كثيرًا، بكونها تُصيبه بالإرهاق إلى درجة معاداته الكتب الجديدة، خاصّة الصّادرة بالألمانية، والمكتوبة في ألمانيا، والتي لا يقرأ منها إلا القليل31 ، فليس في هذه القاعة إلا عدد قليل من الكُتاب الفرنسيين العريقين الذين يضطر نيتشه للعودة إليهم على الدّوام، حيث يقول هنا: «إنني لا أؤمن إلا بالثّقافة الفرنسية، أما كلّ ما عدا ذلك مما يطلق على نفسه اسم «الثّقافة» في كل أوروبا فلا أعتبره سوى ظاهرة سوء فهم، ليس إلا – ولا داعي طبعًا للكلام عن الثّقافة الألمانية. حتى الحالات القليلة من ذوي الثّقافة الرّاقية الذين التقيهم في ألمانيا كلهم من أصل فرنسي»32 .
5 ـ مع اللّسان الفرنسي وضدّ ليسينغ
إنه وإن كان نيتشه قد رأى فيما هو مكتوب بالألمانية مجرّد خردة لا تصلح لشيء، فإنه رأى فيما هو فرنسي ماركات مسجلة وذات قيمة، بما في ذلك الأشياء التي يمقتها نيتشه، فلا أحد، بالنّسبة إليه، «يستطيع منافسة الفرنسيّين على كونهم كانوا أفضل شعب مسيحيّ على وجه الأرض: كانت الجماهير الفرنسيّة أشدّ ورعًا ممن سواها، وأشكال المثل الأعلى المسيحي العصيّة على التّطبيق تجسدت هناك في رجال ولم تظل مجرد تصور، أو نية، أو صيغة أولية ناقصة. باسكال هو أكبر المسيحيّين كلهم، يجمع بين الورع، والعقل والاستقامة، ـ لنفكر في كل ما تطلب الأمر الجمع بينه هنا! وفينلون Fénelon، النّموذج الجذاب المعبّر عن الثّقافة الكنسيّة بمختلف أشكالها: توازنٌ رائعٌ قد يغرينا، كمؤرخين، أن نبرهن على استحالته، بينما لم يكن في الواقع سوى كمال من الصّعب والمستبعد جدًّا حدوثه. ومدام غويون Guyon، وأمثالها أتباع مذهب الطّمأنينة الفرنسيين: كلّ ما حاول الحواري بولس أن يخمنه، بفصاحته وحماسته، عن سمو المسيحي، ومحبته، وصمته وانتشائه، عن طبيعته الشّبه إلهية إجمالا، أصبح حقيقة هنا، متجرّدًا من ذلك الإزعاج اليهودي لله الذي نجده عند القديس بولس، ورافضا له بفضل بساطة في الكلمة والحركة، بساطة أنثوية، دقيقة ورقيقة كما عرفتها فرنسا القديمة. ومؤسس أخوية الرّهبان التّرابيين (Trappistes)، وهو آخر من أخذ المثل الأعلى المسيحي مأخذ الجد، ليس كاستثناء بين الفرنسيين، بل بوصفه فرنسيًّا حقيقيًّا: لأنّ هذه الأخويّة القاتمة التي ابتكرها لم تتوطن وتزدهر إلا لدى الفرنسيين، لقد لحقت بهم إلى الألزاس والجزائر. ولا ننسى الهوغنوتيين (Huguenots): لم يحدث بعدهم أن تمّ الجمع بين العقل المحارب وحب العمل، بين الأخلاق الرّفيعة والصّرامة المسيحية. وبور روايال، حيث شهدنا آخر ازدهار عرفه العلم المسيحي: والعظماء في فرنسا يتقنون الازدهار أكثر من أمثالهم في البلدان الأخرى. رغم عدم كون العظيم الفرنسي سطحيًا فإنه يحتفظ بظاهر سطحي، غشاء طبيعيّ يغلف جوهره وعمقه، أما عظمة الألماني فيتمّ الاحتفاظ بها ملفوفة بشكل غريب داخل قارورة، كإكسير يسعى لحماية نفسه، بذلك الغلاف الصّلب والفريد، من الضّوء ومن الأيدي الطّائشة. ولنخمن بعد هذا لماذا أنجب هذا الشّعب، الذي كان من بين أبنائه أشد رجال المسيحية كمالًا، رجالًا على النّقيض من هؤلاء، رجال الفكر الحر المناقض للمسيحيّة! لقد كان المفكر الحر الفرنسي يحارب، في نفسه هو، عظماء حقيقيين، وليس فقط عقائد ومسوخًا رائعين، كما يفعل المفكرون الأحرار في بقية الشّعوب»33 .
يكاد نيتشه يُسجل تفوّقًا فرنسيًا في كل شيء، على حساب الألمان الذين يحتاجون إلى عقودٍ وقرونٍ للحاق بالتّقدم الفرنسيّ، خاصة مع الأيادي الطّائشة التي تفسد كل شيء في ألمانيا، أيادي لا تملك أنامل، وإنّما حوافر فقط، كما لا يملكون أحشاء مرحة وإنما أمعاء متشنّجة، الشّيء الذي يُفقد الألماني أي اعتزاز بنفسه أمام الشّعب الفرنسي الذي أسّس تفوّقه على كل أوروبا، وتوهّجت «حضارتهم الأخلاقية المتنوّعة القديمة التي بفضلها يصادف المرء عادة، حتى عند روائيي الجرائد الصّغار وروّاد الأرصفة في باريس، حساسيّة وفضولًا سيكولوجيّا ليس للألمانيّ، على سبيل المثال، أي فكرة عنه (ناهيك من الشّيء نفسه!) فالألمان يفتقرون، في هذا المجال، إلى عدّة قرون من نمط أخلاقي لم توفّر فرنسا على نفسها معاناته»34 .
يقول نيتشه عن انتقادات ريتشل الموجهة إليه: «كان الرّجل الوحيد في حياتي الذي أستمع لانتقاداته بكل سرور، لأنّ أحكامه صحيّة وقويّة، إنه نوع من الضّمير العلمي».
احترامًا من نيتشه لما هو فرنسيّ، سنجده يتخلّى عن مشاعر الرّأفة بالكبار من أدباء ألمانيا، إذ لا يجد مندوحة من أن يحمل على ابن بلدة مارتن لوتر، ويُسِفّ به، في تنكّر من نيتشه حتى لشهاداته العديدة في حقّه، فقط لأنه نقّص من الفرنسية وعاب ما يُكتب بها. إنه ليسينغ الذي يعتبره، في موضع آخر، أحد العلماء الثلاثة رفقة: غوته، ووينكلمان من وضعوا الوجود الثقافي الألماني بمجهوداتهم في القمّة، غير أنه ينسبه إلى من يهدرون المداد ويخسرون الكاغد، هكذا دون طائل، ليقتدي نيتشه في ذلك بشُوبنهَاور الذي لم يكفّ عن اللّمز والهمز في كتب ليسينغ، مخصصًا بالهمز واللّمز كتبًا بعينها، هي التي توجه فيها ليسينغ بالتّجريح في الفرنسية، ككتاب Hamburgische dramaturgie الذي هجم فيه على الأدب والدّراما والشّعر الفرنسي، وبالتّحديد على الفرنسي العزيز على نيتشه وشُوبنهَاور: فُولْتِير (Voltaire)، وأغار فيها ليسينغ على فرنسيّين آخرين عزيزين على فُولْتِير هما: جون راسين (Jean Racine ) وبيير كونيي (Pierre Corneille).ليسنيغ الذي سيرُكّز نيتشه، من جهته، على اهتمامه بما هو فرنسي، كنوع من التّركيز على نقطة قوة هذا المربي الألماني، وكنوع من محاولة فضح مصادره التي جعلته يتفوّق على كثير من الألمان. فليسينغ لم يُترجم بيير بايل إلى الألمانية اعتباطًا، بحسب نيتشه، وإنما لأنّه كان يبحث طوعًا في بيير بايل عن ملجأ في أنحاء الجهات التي يحكمها ديدرو، ويبحث عن موقع له بقرب البلاد التي تَدين بالولاء لفُولْتِير، أي البحث في النّاحية الفرنسية عن قواعد خلفية يستخدمها في أطماعه التوسّعية، وفي الوقت نفسه ليهرب مما هو ألماني سرًّا فـ «لقد كان ليسينغ يتصنّع العقل الحرّ حتى في طريقة أسلوبه؛ وكانت تلك طريقته في الهروب من ألمانيا»35 ، لقد كان يرى هو الآخر في فرنسا طوق نجاة ومرفأ صالحًا للاستقرار.
يفاجئ نيتشه أيَّ فرنسي وأيَّ ألماني حينما يعتبر أن ميزة ومَزيّة هذا الألماني ليسينغ هي فرنسيّته الأصيلة، فـ«قد تردد بمثابرة، بوصفه كاتبًا، على المدرسة الفرنسية: إنه يعرف كيف يُرتّب أموره ويعرضها بشكل جميل في الواجهة. لولا هذا الفن الحقيقيّ لظلّت أفكاره، تمامًا مثل مواضيعها، في دائرة الظّل»36، في إشارة من نيتشه على تأثر ليسينغ المبكر بما هو فرنسيّ، فقد كان ابن الاثني عشر ربيعًا حينما رغب في تقليد مسرحيات موليير، وليسينغ هنا ليس سوى نموذج واحد لنماذج متكثرة من داخل الأقاليم الألمانيّة، تُشكل فئة لا بأس بها، تدين بالولاء الثّقافي خفية لفرنسا فـ «ـالذين ينتمون إلى هذا الكيان الفرنسيّ ما زالوا يتحركون طيّ الخفاء: ربما هم فئة قليلة من الذين يتجسد فيهم ويحيا من خلالهم هذا الكيان، وربما يضاف إليهم عدد من الذين لم يقْوَ عظمهم بعد، وهم إما قدريون وقاتمون ومرضى، أو متفرقون ومتكلفون، منتهى طموحهم أن يغدوا متكلفين؛ غير أنهم يمتلكون كل ما ظل العالم محتفظًا به من أشياء سامية ورفيعة»37 .
على سبيل الختم
في الشّذرة التّاسعة والتّسعين من كتابه العلم المرح، والمعنونة بـ “مريدو شوبنهاور” التي قد تكون أطول شذرات هذا الكتاب، يتساءل نيتشه عما اعتاد مريدو شوبنهاور في ألمانيا أن يستعيروه مع معلمهم لأول وهلة؟ وموقفهم هنا لا يتجاوز موقف اتصال الشعوب المتحضرة والمدنية بأخرى متخلفة وبدائية، والمريدون يجب عليهم بحسب نيتشه أن يشعروا بأنهم متخلفون إذا ما قُورنوا بثقافة شوبنهاور العالية. ليبقى أحد أسباب تفوّقه أنه عاش ومات «فولتيريا»، متأثِّرًا مثل والده بالفرنسي فولتير، وفي المقابل حينما يود نيتشه الحديث عن جانب المريدين المتخلفين أو من يمثل الحضارة الدنيا ممن يشرعون بشكل منتظم في استعارة رذائل ونقائص وعنف الحضارة المتفوقة، يختار نيتشه أشهر الشّوبنهاوريين الأحياء: ريشار فاغنر الذي ضحية اغتراره بأحد أعداء شوبنهاور وهو هيغل شرع في تعريف نفسه بمجموعة من المفاهيم المغترّة بنفسها، ليناقض روح شوبنهاور، وليبقى الشوبنهاوري لدى فاغنر هو تحمسه للتنديد بفساد اللّغة الألمانية، غير أنه يرسّب في تقليد شيخه شوبنهاور في هذا، ما دام أسلوب فاغنر نفسه لا يخلو من المعاناة من تلك الأورام والدّمل التي سيغضب شوبنهاور لرؤيتها أشد الغضب، لنخلص عقب كل هذا، إلى أن اليد التي جعلت شوبنهاور يتفوق على بقية الألمان هي يد الفرنسي فولتير، واليد التي أفسدت مريدي شوبنهاور هي يد الألماني هيغل38 ويداهما هي نفسها يدا ثقافتين ولغتين شديدتي الاختلاف في الرّكاكة والرّثاثة وفي الأناقة وحسن البيان، بالطّبع بحسب نيتشه.
كانت له القدرة على الإفساد، التي نتميز بها نحن أبناء منطقة ثورينج، والتي تجعل حتى من الألماني شخصًا لطيفًا: إننا نُفضّل الطّرق الملتوية للوصول إلى الحقيقة»
غير أن ريتشل هذا هو الذي يكتب في أحد رسائله ممتعضا ومتذمّرًا من طلاب حلقته الدّراسية التي قد يكون نيتشه واحدًا منهم، بأنهم كانوا من النّوعية الرّديئة، نيتشه الذي أصدر غير ما مرّة في لهجة ساخرة أحكامه ضد فقه اللّغة.
نيتشه نفسه في أحد رسائله يقول أنّه كان أولى له لو وُلِد في باريس، لهذا كان دومًا يود أن يعيش كباريسي بالولادة، وبالتّأكيد كان يشعر بالإطراء حينما يعتبره أحدهم بأنه فرنسي. وكان يأمل دومًا أن يولد مرّة أخرى كفرنسي، غير أنها ولادة على مستوى التّرجمة واللّغة. وإن لم تكن بأصول باريسية فيجب أن تكون كائنًا من البرمائيات «أن تكون ألمانيًا بقدر ما تكون باريسيًا»، باريس التي كانت تسمى أنذاك مدينة الحظ والسّرور كانت بالنّسبة إلى نيتشه المكان الأبرز للحداثة، إنها ضربة حظ طوبوغرافية سرعان ما ستتحول إلى بؤرة لتفشي وباء الأدب والثّقافة والمسرح والشّعر. إنها مكان من أمكنة العبقرية المقدسة «انظروا إلى جميع الأماكن التي تواجد فيها أصحاب البديهة القوية، التي كان الدّعاء، والسّخرية، والرّقة يشكلون فيها جزءًا من السّعادة: ستجدونها كلها مناطق جافة. باريز، منطقة بروفانس، فلورنسا، القدس، أثينا، كل هاته الأسماء تدل على شيء واحد: هو أن العبقري لا يستطيع أن يعيش بعيدًا عن الهواء الجاف والسّماء الصّافية، أي بعيدًا عن التّبادلات السّريعة، عن إمكانية التّزود المستمر بكميات كبيرة من الطّاقة» (ف. نيتشه (1900)، هذَا الإنسَان، ص. 33.)، إنها قدس أخرى تتقدّس فيها الحداثة غير المسيحية وتتنزل فيها بركاتها، وفلورنسا أخرى المحتضنة للعبقرية والمحتفية بالعباقرة والملتحفة بأعمالهم. لهذا كان نيتشه مقتنعا بأن باريس وحدها من تصلح كبيتٍ يلمُّ عائلة أهل الفنّ والفكر فـ «كفنان ليس لديك بيت في أوروبا كلها إلا بيت في باريس»، لهذا كانت ملتقى كثير من الألمان فماركس وانجلز الألمانيان لم يلتقيا في ألمانيا، وإنما وأول لقاء لهما إنما كان في باريس، ولربما موقف نيتشه قد يمتد إلى زمن ألماني آخر هو مترجم بروست وبودلير إلى الألمانية والتر بنيامين (1892ـ 1940) الذي زار باريس لمدة قصيرة من سنة 1913 وعدّ باريس بأنها الوسط الملائم للحداثة البرجوازية بما هي المدينة الأمثل للإنسان الحديث، ويشار إلى أن بينيامين قد يكون تلقى الهوس بما هو فرنسي من نيتشه فقد قرأه في وقت مبكر من عام 1910. واستلهم من محاضرات نيتشه حول مستقبل مؤسساتنا التّعلِيمية أفكارًا لمحاضرته الخاصّة عن حياة الطّلاب المعنونة بـ (Wandervögel) «الطّيور المهاجرة». لتظل باريس مدينة لا يمكن التّشافي منها حتى ولو كانت سببا في كل المصائب التي تُلحقها بساكنها يقول سيوران في نهاية رسالة إلى صديق بعيد: «لا أريد أن أختم دون أن أحذرك مرّة أخرى من مغبّة الحماسة أو الغيرة اللّتين قد يثيرهما فيك ”حُسْن حظّي”، وتحديدًا، كوني أستطيع الاسترخاء في مدينة لاشكّ أنّ ذكراها تلازمك على الرّغم من تجذرك في وطننا المُتبخّر. هذه المدينة التي لا أستبدلها بأي مدينة في العالم، هي، لهذا السّبب تحديدًا، مصدر كل مصائبي، لقد أصبح كل ما عداها متساويًا في نظري حتى إني أتحّسر في كثير من الأحيان على كونها نجت من الحرب ولم تهلك مثل مدن أخرى كثيرة. لو دُمِّرت لخلصتني من سعادة العيش فيها، ولأمكن لي أن أقضي أيامي في مكان آخر في أقاصي أي قارّة من القارّات. ولن أغفر لها أبدًا أنّها ربطتني بالفضاء وأنّي أصبحت بسببها منتميًا إلى مكانٍ ما. أقول هذا دون أن أنسى أن أربعة أخماس سكانها، وقد لاحظ ذلك شامفور من قبل ”يموتون غمًّا”. وأضيف أيضًا لعلمك، أنّ البقيّة الباقية من أصحاب الامتيازات القلائل وأنا منهم لا يكترثون لذلك، حتى إنهم يحسدون الأكثريّة الغالبة على الميزة التي تنفرد بها: أنّها تعرف بماذا تموت» (سيوران، إميل (1911-1995)، تاريخ ويوتوبيا، ترجمة: آدم فتحي، بيروت: الجمل، 2010، ص. ص. 43. 44.). سيوران الذي حصل خلال العام الجامعي 1934 ـ 1935 على منحة دراسية في ألمانية لإعداد أطروحة في الفلسفة، لم ينتج عنها أي شيء، ليمر بمرحلة عقم في حياته لم تميزها سوى رحلة إلى باريس لمدة شهر، سيقرر على إثرها الإقامة الدّائمة في باريس (سيوران، إميل (1911-1995)، لو كان آدم سعيدًا: شذرات؛ ترجمة: محمد علي اليوسفي، عمان: أزمنة، 2008، ص. 9.) لما تمثله هذه المدينة من فرص للشهرة وما تمثله من إمكانات إبداعية كبرى.
يقول نيتشه عن ريتشل ونصائحه الملتوية: «كنت في الرّابعة والعشرين من عمري آنذاك. وقبل ذلك بسنتين كنت قد أصبحت فقيه لغة: أقصد أن أول عمل أنجزته في فقه اللّغة، أي بدايتي، كان أستاذي ريتشل هو من طلب مني أن أقوم به لفائدة «متحف رينان» الخاص به، أستاذي (ريتشل الذي كان، وأقول ذلك بافتخار، العالم العبقري الوحيد الذي التقيته حتى الآن.
هوامش
ف. نيتشه (1900)، هذا هو الإنسان، ترجمة: علي مصباح، دار الجمل، ط 2، 2006، ص. 90.
ف. نيتشه، قضية فاغنر، يليه، نيتشه ضدّ فاغنر، ترجمة: علي مصباح، بيروت: منشورات الجمل، 2016، ص. 53.
المصدر نفسه، ص. 53.
ف. نيتشه، هَذا الإنسَان، ترجمة: محمد النّاجي، الدّار البيضاء: أفريقيا الشّرق، 2013، ص. 143. وانظر نيتشه ضد فاغنر؛ وثائق خبير نفساني، ترجمة: علي مصباح، بيروت: منشورات الجمل، 2016، ص. 114. على نفس الخطى نجد فرنسيًا يؤكد، من جهته كفرنسي، أنه أمام «بعض النّصوص الصّعبة، في الفلسفة مثلًا، قد يكون من الأفضل أن نقرأ أيضًا ترجماتها الجَيّدة في اللّغات التي نعرفها، حتى وإن كانت كتبت بلغتنا الأم. ألا يقرأ كثير من أصدقائنا الألمان كَنت أو هيغل بالفرنسية أيضًا؟ ونحن سعداء جدًّا لأننا بإمكاننا أن نقرأ لاكان (J. Lacan) باللّغة الألمانية أيضًا..» (لادميرال، جان روني (1942-…)، التّنظير في التّرجمة، ترجمة: محمّد جدير؛ مراجعة: نادر سراج عنوان موازي، بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2011، ص. 338.).
حتى ج. هيبوليت الذي يؤكد غير ما واحد أنه أعاد لـ فينومينولوجيا الرّوح صفاء، وأزاح عنها غبش العبارات الغامضة، والأساليب المغرورة بتعقيدها، حينما ينتقل إلى الألمانية عوض الفرنسية، ويحاول أن يحاضر بها، إنما ينتقل إلى دائرة الغموض والرّكاكة، ينقل لنا غادامير وصفه لهذه اللّحظة حين زيارة هيبوليت لألمانيا في إحدى النّدوات: “كان حضور أحد الأساتذة الزّائرين في الحلقات الدّراسية جان هيبوليت مُثيرًا بسبب التزامه، ولكن كان حضورًا غير مفهوم بسبب نطقه الرّديء للُّغة الألمانية. إن مترجم هيغل المميز هذا غرّب اللّغة الألمانية عن الأفهام.” (غادامير، هانس غيورغ (1900-2002)، التّلمذة الفلسفية: سيرة ذاتية؛ ترجمة: علي حاكم صالح، حسن ناظم، بيروت: دار الكتاب الجديد المتحدة، 2013، ص 246.).
هيبوليت تاين (Hippolyte Taine) (1828-1893) مؤرخ وفيلسوف فرنسي، وأستاذ علم الجمال وتاريخ الفنّ في مدرسة الفنون الجميلة في باريس وعضو في الأكاديمية الفرنسية، يتفق مع نيتشه في رفض الثّورة الفرنسية، كان نيتشه قد أرسل إلى Taine نسخة من ما ورَاء الخَير والشّر في عام 1886 من خلال ناشره Naumann، حيث امتدحها تاين بطريقة ودّية جدّا، وتمّ تبادل للرسائل بينهما. وكان نيتشه قد أخبر شقيقته أن تاين خليفة لمفظّله الفرنسي الآخر ستاندال، ليكون من بين الفرنسيين الأكثر نفوذا عند نيتشه، لهذا تفاخر نيتشه ذات مرّة أمام أصدقائه بأن تاين كان أحد القرّاء القلائل الذين سيفهمونه جيّدًا، وهذا تمامًا ما يؤكده تاين لنيتشه حينما أخبره بأنه لا يتورّع في أن يضع كتابه هكذا تكلّم زاردشت عند رأسه ليطالعه كلما أراد أن ينام.
ف. نيتشه (1900)، هذا هو الإنسان، ص. ص. 46. 47.
ف. نيتشه (1900)، المُسافِر وظلُّه، ضمن إنسان مُفرطٌ في إنسانيته: كتاب العقول الحرة، أفريقيا الشّرق، 2001، الشّذرة: 214، “كتب أوربية”، ج 2، ص. 183.
سيوران، إميل (1911-1995)، المياه كلها بلون الغرق، ترجمة: آدم فتحي، بيروت: منشورات الجمل، 2013، ص. ص. 27. 28.
المصدر نفسه، ص. ص. 27. 28.
نيتشه، شُوبنهَاور مُربّيًا، ترجمة: قحطان جاسم، الرّباط: دار الأمان؛ بغداد: دار أوما؛ الجزائر العاصمة: منشورات الاختلاف؛ بيروت: منشورات ضفاف، 2016، ص. ص. 82. 83.
سيوران، إميل (1911-1995)، المياه كلها بلون الغرق، ص. 85.
ف. نيتشه (1900)، مستقبل مؤسساتنا التّعلِيمية، ترجمة وتقديم: محمّد النّاجي، الدّار البيضاء: أفريقيا الشّرق، 2009، ص. 127.
ف. نيتشه (1900)، إنسان مُفرطٌ في إنسانيته، الشّذرة: 132، “كتب كلاسيكية”، ج 2، ص. 159.
عبد اللّه العروي، الإيديولوجيا العربية المعاصرة، المركز الثّقافي العربي، الدّار البيضًاء، ط 1، 1995، ص. 11.
أ. شُوبنهَاور، فن الأدب: مختارات من شُوبنهَاور، أعدها بالإنجليزية: بيلى سوندرز؛ ترجمة وتعليق: شفيق مقار؛ مراجعة: عبد الحميد الإسلامبولي، القاهرة: الدّار القومية، 1970، ص. 92.
نفس المصدر، ص. 92.
نفس المصدر، ص. 92.
ف. نيتشه (1900)، شُوبنهَاور مُربّيًا، ص. 30.
مع أن نيتشه في سياق حديث آخر عن فاغنر يؤكد أن التّشوّه سمة لا يمكن إخفاؤها في أعمال فاغنر وشُوبنهَاور.
ف. نيتشه (1900)، شُوبنهَاور مُربّيًا، ص. ص. 30. 31.
ف. نيتشه (1900)، إنسان مُفرطٌ في إنسانيته، الشّذرة: 170. “الألمان في المسرح”، ج 2، ص. 55.
المصدر نفسه، الشّذرة: 227. “أخطاء غوته”، ج 2، ص. 78.
المصدر نفسه، الشّذرة: 170. “الألمان في المسرح”، ج 2، ص. 56.
المصدر نفسه، الشّذرة: 323. “أن تكون ألمانيًّا صالحًا معناه أن تنسلخ من الجرمانية”، ج 2، ص. 98.
يقول نيتشه عن انتقادات ريتشل الموجهة إليه: «كان الرّجل الوحيد في حياتي الذي أستمع لانتقاداته بكل سرور، لأنّ أحكامه صحيّة وقويّة، إنه نوع من الضّمير العلمي». غير أن ريتشل هذا هو الذي يكتب في أحد رسائله ممتعضا ومتذمّرًا من طلاب حلقته الدّراسية التي قد يكون نيتشه واحدًا منهم، بأنهم كانوا من النّوعية الرّديئة، نيتشه الذي أصدر غير ما مرّة في لهجة ساخرة أحكامه ضد فقه اللّغة.
نيتشه نفسه في أحد رسائله يقول أنّه كان أولى له لو وُلِد في باريس، لهذا كان دومًا يود أن يعيش كباريسي بالولادة، وبالتّأكيد كان يشعر بالإطراء حينما يعتبره أحدهم بأنه فرنسي. وكان يأمل دومًا أن يولد مرّة أخرى كفرنسي، غير أنها ولادة على مستوى التّرجمة واللّغة. وإن لم تكن بأصول باريسية فيجب أن تكون كائنًا من البرمائيات «أن تكون ألمانيًا بقدر ما تكون باريسيًا»، باريس التي كانت تسمى أنذاك مدينة الحظ والسّرور كانت بالنّسبة إلى نيتشه المكان الأبرز للحداثة، إنها ضربة حظ طوبوغرافية سرعان ما ستتحول إلى بؤرة لتفشي وباء الأدب والثّقافة والمسرح والشّعر. إنها مكان من أمكنة العبقرية المقدسة «انظروا إلى جميع الأماكن التي تواجد فيها أصحاب البديهة القوية، التي كان الدّعاء، والسّخرية، والرّقة يشكلون فيها جزءًا من السّعادة: ستجدونها كلها مناطق جافة. باريز، منطقة بروفانس، فلورنسا، القدس، أثينا، كل هاته الأسماء تدل على شيء واحد: هو أن العبقري لا يستطيع أن يعيش بعيدًا عن الهواء الجاف والسّماء الصّافية، أي بعيدًا عن التّبادلات السّريعة، عن إمكانية التّزود المستمر بكميات كبيرة من الطّاقة» (ف. نيتشه (1900)، هذَا الإنسَان، ص. 33.)، إنها قدس أخرى تتقدّس فيها الحداثة غير المسيحية وتتنزل فيها بركاتها، وفلورنسا أخرى المحتضنة للعبقرية والمحتفية بالعباقرة والملتحفة بأعمالهم. لهذا كان نيتشه مقتنعا بأن باريس وحدها من تصلح كبيتٍ يلمُّ عائلة أهل الفنّ والفكر فـ «كفنان ليس لديك بيت في أوروبا كلها إلا بيت في باريس»، لهذا كانت ملتقى كثير من الألمان فماركس وانجلز الألمانيان لم يلتقيا في ألمانيا، وإنما وأول لقاء لهما إنما كان في باريس، ولربما موقف نيتشه قد يمتد إلى زمن ألماني آخر هو مترجم بروست وبودلير إلى الألمانية والتر بنيامين (1892ـ 1940) الذي زار باريس لمدة قصيرة من سنة 1913 وعدّ باريس بأنها الوسط الملائم للحداثة البرجوازية بما هي المدينة الأمثل للإنسان الحديث، ويشار إلى أن بينيامين قد يكون تلقى الهوس بما هو فرنسي من نيتشه فقد قرأه في وقت مبكر من عام 1910. واستلهم من محاضرات نيتشه حول مستقبل مؤسساتنا التّعلِيمية أفكارًا لمحاضرته الخاصّة عن حياة الطّلاب المعنونة بـ (Wandervögel) «الطّيور المهاجرة». لتظل باريس مدينة لا يمكن التّشافي منها حتى ولو كانت سببا في كل المصائب التي تُلحقها بساكنها يقول سيوران في نهاية رسالة إلى صديق بعيد: «لا أريد أن أختم دون أن أحذرك مرّة أخرى من مغبّة الحماسة أو الغيرة اللّتين قد يثيرهما فيك ”حُسْن حظّي”، وتحديدًا، كوني أستطيع الاسترخاء في مدينة لاشكّ أنّ ذكراها تلازمك على الرّغم من تجذرك في وطننا المُتبخّر. هذه المدينة التي لا أستبدلها بأي مدينة في العالم، هي، لهذا السّبب تحديدًا، مصدر كل مصائبي، لقد أصبح كل ما عداها متساويًا في نظري حتى إني أتحّسر في كثير من الأحيان على كونها نجت من الحرب ولم تهلك مثل مدن أخرى كثيرة. لو دُمِّرت لخلصتني من سعادة العيش فيها، ولأمكن لي أن أقضي أيامي في مكان آخر في أقاصي أي قارّة من القارّات. ولن أغفر لها أبدًا أنّها ربطتني بالفضاء وأنّي أصبحت بسببها منتميًا إلى مكانٍ ما. أقول هذا دون أن أنسى أن أربعة أخماس سكانها، وقد لاحظ ذلك شامفور من قبل ”يموتون غمًّا”. وأضيف أيضًا لعلمك، أنّ البقيّة الباقية من أصحاب الامتيازات القلائل وأنا منهم لا يكترثون لذلك، حتى إنهم يحسدون الأكثريّة الغالبة على الميزة التي تنفرد بها: أنّها تعرف بماذا تموت» (سيوران، إميل (1911-1995)، تاريخ ويوتوبيا، ترجمة: آدم فتحي، بيروت: الجمل، 2010، ص. ص. 43. 44.). سيوران الذي حصل خلال العام الجامعي 1934 ـ 1935 على منحة دراسية في ألمانية لإعداد أطروحة في الفلسفة، لم ينتج عنها أي شيء، ليمر بمرحلة عقم في حياته لم تميزها سوى رحلة إلى باريس لمدة شهر، سيقرر على إثرها الإقامة الدّائمة في باريس (سيوران، إميل (1911-1995)، لو كان آدم سعيدًا: شذرات؛ ترجمة: محمد علي اليوسفي، عمان: أزمنة، 2008، ص. 9.) لما تمثله هذه المدينة من فرص للشهرة وما تمثله من إمكانات إبداعية كبرى.
يقول نيتشه عن ريتشل ونصائحه الملتوية: «كنت في الرّابعة والعشرين من عمري آنذاك. وقبل ذلك بسنتين كنت قد أصبحت فقيه لغة: أقصد أن أول عمل أنجزته في فقه اللّغة، أي بدايتي، كان أستاذي ريتشل هو من طلب مني أن أقوم به لفائدة «متحف رينان» الخاص به، أستاذي (ريتشل الذي كان، وأقول ذلك بافتخار، العالم العبقري الوحيد الذي التقيته حتى الآن. كانت له القدرة على الإفساد، التي نتميز بها نحن أبناء منطقة ثورينج، والتي تجعل حتى من الألماني شخصًا لطيفًا: إننا نُفضّل الطّرق الملتوية للوصول إلى الحقيقة» (ف. نيتشه (1900)، هذَا الإنسَان، ص. 47.).
تذكر أخت نيتشه العديد من الأسماء التي واظب نيتشه على قراءتها من الفرنسيين، ويأتي هو مرّة مرّة على ذكر بعضهم، من مثل:« Paul Bourget, Pierre Loti, Gyp, Meilhac, Anatole France, Jules Lemaitre, Guy de Maupassant. Sainte-Beuve, Henri Louis Rémy Didon, Émile Gebhart, Taine, Renan, Brunetière, d’Autrevilly, Paul Albert, Lois Desprez, Eugène Fromentin, Bérard Varagnac, Jules Lemaître, Emil Montégut, Edmont Scherer, et the brothers Goncourt».
انظر ف. نيتشه (1900)، إنسان مُفرطٌ في إنسانيته، الشّذرة: 203. “تهيؤ الفن الذي كان”، ج 1، ص. 113.
ف. نيتشه (1900)، العِلْمُ المَرِح، ترجمة وتقديم: حسّان بورقية، محمّد النّاجي، الدّار البيضاء: أفريقيا الشّرق، 1993، الشّذرة: 104، “عن نبرة اللّغة الألمانية”، ص. 117.
ف. نيتشه (1900)، هذا هو الإنسان، ص. 46.
– ف. نيتشه (1900)، الفجر، ترجمة: محمد النّاجي، الدّار البيضاء: أفريقيا الشّرق، 2013، الشّذرة: 192، “الرّغبة في خصوم كاملين”، ص. 138.
ف. نيتشه (1900)، ما ورَاء الخَير والشّر: تباشير فلسفة للمستقبل، ترجمة: جيزيلا فالور حجار؛ مراجعة: موسى وهبه، بيروت: دار الفارابي، 2003، الشّذرة: 254، ص. 235.
ف. نيتشه (1900)، ما ورَاء الخَير والشّر، ترجمة: حسّان بورقية، الدّار البيضاء، أفريقيا الشّرق، 2006، ص. 42.
ف. نيتشه (1900)، المُسافِر وظلُّه، ضمن إنسان مُفرطٌ في إنسانيته، ج 2، الشّذرة: 103، “ليسينك”، ص. 152.
ف. نيتشه (1900)، نيتشه ضد فاغنر، ص. 113.
يقول نيتشه عن قدرات هيغل الخارقة في إفساد كل شيء، في معرض حديثه عن الفرنسيّين الذين أَحبّهم: “لا أفشي سرًّا إذا قلت لكم إنني أفضل هذا الجيل على جيل الأساتذة القدماء الذي أفسدته الفلسفة الألمانية (السّيد تاين Taine، على سبيل المثال، الذي أفسده هيغل، فتحت تأثيره أخطأ بخصوص الكثير من العظماء والعصور المزدهرة).” (ف. نيتشه (1900)، هذَا الإنسَان، ص. ص. 36. 37.).
إضافة تعليق جديد