هل كان الإلحاد ممكنا في القرن السّادس عشر؟

21-12-2012

هل كان الإلحاد ممكنا في القرن السّادس عشر؟

على هامش كتاب لوسيان فيفر:

"مشكلة اللااعتقاد أو اللاتديّن في القرن السّادس عشر.عقيدة رابليه"

Lucien Febvre

Le problème de l’incroyance au 16 siècle

La religion de Rabelais

 قبل الدّخول في صلب الموضوع نودّ أن نطرح هذا السّؤال: ما الفرق بين العصور الوسطى وعصر النّهضة؟ هل حقّا أنّه لا توجد أيّة علاقة بينهما كما كنّا نتوهّم سابقا؟ هل حقّا أنّ القطيعة ضخمة إلى مثل هذا الحد؟
قبل خمسين سنة كانوا يعتقدون أنّ الفرق بينهما لا يقلّ أهميّة عن الفرق بين الأبيض والأسود، أو حتّى بين السّماء والأرض! ولكنّهم الآن أصبحوا أقلّ قطعية من ذي قبل. فالواقع إنّ الحدود بينهما "مترجرجة" أكثر ممّا نتوقّع. وهناك جسور أكثر ممّا نظنّ. لا ريب في أنّه كانت هناك قطيعة ولكنّها ليست مطلقة إلى الحدّ الذي نتصوّره. ليست قاطعة كحد السيف! فمعظم مفكّري عصر النّهضة، إن لم نقل كلّهم، ظلّوا مسيحيين في أعماقهم على الرّغم من إعجابهم بالثّقافة الوثنيّة لليونان والرّومان. وحكاية "إلحاد رابليه" أسطورة لا تصمد أمام الإمتحان كما بيّن لوسيان فيفر في كتابه الشّهير الذي أصبح كلاسيكيّا الآن.

والسّؤال المطروح هو التّالي: هل ماتت النّزعة الإنسانيّة بموت ايراسموس عام 1536؟ وهو المفكّر الذي يحبّه اليوم جميع الليبراليين في الغرب. وكان قدوة لفلاسفة الأنوار الذين جاؤوا بعده بمائتي سنة كفولتير وسواه. لا ريب في أنّ الحروب المذهبيّة الضّارية التي دارت رحاها بين الكاثوليكيين والبروتستانتيين والتي استمرت سنوات طويلة وضعت حدا لعصر النّهضة وأغلقته. لا ريب في أنّ الحركة توقفت بعد انطلاقتها الرائعة. ولكن لا يمكن لحضارة استمرت قرنين أن تموت بلحظة واحدة! فمفكرو عصر النّهضة ربحوا شيئا ما على المدى الطويل. لقد ربحوا ذلك في مجال التّعليم مثلا.

وذلك لأنّ تدريس الثّقافة اليونانيّة الرومانيّة ظلّ متواصلا في الغرب طيلة أربعة قرون: أي حتّى اليوم تقريبا. وهناك درس آخر خلفوه لنا ولا نزال متعلقين به ألا وهو: الثّقة الكاملة بذكاء الإنسان وعظمته وإمكانيّاته وقدرته على تغيير العالم وصنع المعجزات. الإنسان قادر على أشياء كثيرة إذا ما أتيحت له الفرصة. ومعلوم أنّهم كانوا مفعمين بهذا الإحساس وشديدي التحمّس لهذه الفكرة. وقد أعدونا بها وهي أكبر حافز على التّفكير وتحقيق التقدّم بالنّسبة إلى البشريّة الأوروبيّة على الأقل. أمّا البشرية العربيّة الإسلاميّة فلا تزال تنتظر نهضتها المقبلة بعد أن غرقت في الحروب المذهبيّة والطائفيّة. ولا أحد يعرف متى تخرج منها…

لكن النّزعة الإنسانيّة في عصر النّهضة كانت نخبوية: بمعنى أنّها كانت محصورة ببعض الدوائر المستنيرة للمثقفين. أمّا عموم الشعب فكان في جهة الأصوليين ورجال الدّين (وهذه هي حالة العرب والمسلمين اليوم. انظر اكتساحهم للانتخابات في كلّ مكان… وهذا أكبر دليل على أنّ العرب – والمسلمين عموما – ما زالوا "غاطسين" في مناخ العصور الوسطى. بمعنى أنّهم ليسوا حتّى على مشارف عصر النّهضة)… وعندما حصل الإصلاح الدّيني البروتسانتي انقلب الشّعب أو قسم كبير منه في اتّجاه لوثر. والقسم الآخر ظل تابعا لبابا روما والفاتيكان. وبقيت النخبة مع الفلاسفة. وبالتّالي فلا ينبغي أن تكون لدينا أوهام حول الموضوع… النهضة دائما من صنع الأقليات المثقفة والمستنيرة قبل الأوان. بعدئذ ينتشر التنوير تدريجيا لكي يشمل شرائح واسعة من الشعب. ولكن ذلك يتطلب وقتا طويلا. المهمّ فيما يخص هذه النقطة هو حسم المعركة الفكريّة ضدّ الأصوليين.

ماذا نستنتج من هذا الكلام؟ نستنتج أن التّنوير الإنساني النّهضوي الأوروبي كان أقلية تماما مثل حالة المثقفين العرب اليوم. فنحن أيضا أقليّة بالقياس إلى شيوخنا الأجلاء الذين يملؤون شاشات الفضائيات ويفتون في كل شاردة وواردة. و"الليبراليون دخلاء على مصر" كما قال كبيرهم الدكتور يوسف القرضاوي مؤخرا. انظر الرد القوي والمقنع لأحمد عبد المعطي حجازي على هذه المقولة في "الأهرام" بتاريخ 28.2.2012. فالشيخ رفاعة رافع الطهطاوي كان مسلما حقيقيا وليبراليا تحديثيا في ذات الوقت. ولم يكن دخيلا على مصر، بل إنّ نهضة مصر قامت على "أكتافه". وقل الأمر ذاته عن بقيّة الليبراليين المصريين والعرب من أحفاده. معظمهم كانوا مسلمين أو مسيحيين ولكنّه الإسلام المستنير المستضيء بنور العقل والفلسفة والذي صنع يوما ما مجد الحضارة العربيّة الإسلاميّة في بغداد وقرطبة. وهو الإسلام الذي أضاء لأوروبا الطريق يوما ما عندما كانت لا تزال في ظلام دامس تتلمس خطاها نحو النور…

لنعد إذن إلى التيّار الإنسي أو الإنساني في عصر النّهضة. لقد تفرع إلى فرعين: فرع مختص بالآداب اللاتينية الرومانية القديمة: أي بمؤلفات فيرجيل وشيشرون الخ… وقسم أقل عددا كان مختصا بالثقافة اليونانية وأدبائها وشعرائها وفلاسفتها الكبار من هوميروس إلى أفلاطون إلى أرسطو الخ

ولكن أعمال بعض مفكري النخبة هؤلاء لم تنحصر أبدا ببعض المدن أو البلاطات الأميرية والملكية كما يقول لنا فيرنان بروديل. وإنما انتشرت في كل أنحاء أوروبا وان كانت نقطة انطلاقتها الأساسية هي فلورنسا في عصرها الذهبي: القرن الخامس عشر. بعدئذ حلت محلها روما. وكان هؤلاء المفكرون الإنسانيون يتراسلون مع بعضهم البعض عبر أنحاء القارة الأوروبية كلها. ومعلوم أنّ مراسلات ايراسموس، أمير عصر النّهضة، مع نظرائه بلغت اثني عشر مجلدا! وبالطبع كانت كلها باللاتينية لغة العلماء والمثقفين في ذلك الزّمان.

والسّؤال المطروح الآن هو التّالي: هل كانت النّزعة الإنسانيّة أو الفلسفة الإنسانيّة عبارة عن أداة حرب ضد المسيحيّة؟ هل ينبغي أن نرى في تلك الحركة اندفاعة واحدة نحو الإلحاد واللامبالاة بالدّين؟ أو على الأقل: هل ينبغي أن نرى في أشخاص من نوعية ماكيافيلي ورابليه ومونتيني الرواد الأوائل للفكر الحر الرّاغب في التخلّص من الدّين وقيوده المرهقة؟

يرى المؤرّخون المعاصرون أنّ هذا الرّأي مبالغ فيه ويوشك أن يوقعنا في خطيئة المغالطة التّاريخية أو الإسقاط: أي إسقاط تصوّراتنا الحالية على تصورات أناس عاشوا وماتوا قبل أربعمائة سنة. إنّه يعني إننا نحاكم عصر النهضة من خلال منظورنا الحالي أو ننظر اليهم بعيوننا اليوم لا من خلال عيون مفكري ذلك العصر. لا ريب في أنّ مفكري عصر النهضة والنزعة الإنسانية كانوا قد ضاقوا ذرعا بتعاليم القرون الوسطى الاجتراريّة اللاهوتية المفروضة عليهم فرضا من فوق كحقائق لا تناقش ولا تمس. لا ريب في أنّهم كانوا يشعرون بالاختناق في جوها المنغلق على ذاته. لا ريب في أنّهم كانوا يكرهون الفلسفة السكولائيّة وحذلقاتها المزعجة ومحاجاتها المملّة أو ثرثرتها التي لا تنتهي. هذا شيء مؤكّد ولولا ذلك لما هربوا منها إلى العصور البعيدة التي تقبع خلفها: أي إلى العصور الوثنية لليونان والرّومان حيث يتنفسون بحرية. وحيث ينهلون من آداب اليونان والرومان السابقة على المسيحية. وهي آداب تمجد الإنسان وتثق به على عكس اللاهوت القروسطي الذي يزهد به ويحتقره ويعتبر الحياة الدنيا مجرد عبور إلى الآخرة. كل هذا صحيح. ولكن هذا لا يعني أنّ الحركة النّهضويّة كانت موجهة كأداة حرب ضد الله أو ضد الكنيسة بالضرورة.

مشكلة الممكن التّفكير فيه/ والمستحيل التّفكير فيه

في عصر النّهضة

كان المؤرخ الشهير لوسيان فيفر قد خصّص دراسة ضخمة ودقيقة عن علاقة رابليه بالدين المسيحي أو بالإيمان كما ذكرنا آنفا. ومعلوم أنّ البعض يتهم رابليه بالإلحاد من شدة كرهه لرجال الدّين واستهزائه بهم. ولكن الخلاصة التي توصل إليها هذا المؤرخ الكبير هي أنّه كان من المستحيل على أي مفكر في عصر رابليه أن يكون ملحدا حتّى وإن كان عقلانيا جدا وكارها لرجال الدين وشعوذاتهم مثله. بل وحتى لو أراد ذلك فإنّه لا يستطيع. كان يستحيل على المفكر في عصر رابليه أن يتوصل إلى الإلحاد الفلسفي الواثق من نفسه كما سيحصل لاحقا في عصر التنوير أو في القرن التاسع عشر. لماذا؟ لأنّ التجهيزات العقلية أو الأدوات الفكريّة لذلك العصر لم تكن تسمح بذلك. لم يكن فكر القرن السّادس عشر على الرّغم من أهميته يقدم للمثقفين الكلمات المفتاحية، أو المحاجات العلمية المفحمة لمحاجات اللاهوتيين. باختصار لم يكن يقدم لهم الدعم العلمي الفيزيائي، لكي يستطيعوا أن يصبحوا ملاحدة فعلا أو يشكلوا نظرة الحادية مادية عن العالم والكون.

هذا الشيء ما كان ممكنا قبل انفجار الثورة العلمية وظهور الخمسة الكبار كوبرنيكوس وكيبلر وغاليليو وديكارت ونيوتن. عندئذ أصبح العالم لابلاس قادرا على أن يقول للإمبراطور نابليون الذي سأله عن مكانة الله في نظام الكون الجديد بعد أن شرحه له بالخرائط والصور والمعادلات الرياضية: يا جلالة الإمبراطور هذه فرضية لم يعد لها من لزوم! الله، أو التفسير الغيبي للكون، أصبح في خبر كان بعد انتصار العلم الحديث ونجاحه في فك ألغاز الطبيعة واكتشاف القوانين الفيزيائية – الفلكية التي تمسك الكون. لم يعد تفسير سر الكون واكتشاف القوانين التي تتحكم به من اختصاص رجال الدّين وإنما من اختصاص العلم والعلماء. وأصبح الدين للهداية الروحية والأخلاقيّة والميتافيزيقية فقط.

بمعنى آخر فإنّ الإلحاد كان يمثل بالنسبة إلى القرن السّادس عشر ما يدعى باللامفكر فيه أو المستحيل التفكير فيه. كان السقف الفكري الذي لا يستطيع تجاوزه. فما بالك بالعصور الوسطى؟ يضاف إلى ذلك أنه كان ترفا ما بعده ترف. ما حاجتنا إلى الإلحاد ونحن لا نكاد نجد لقمة الخبز إلا بشق النفس؟ "الإلحاد أرستقراطي" كما قال روبسبيير. يمكن أن نضيف: وبورجوازي أيضا. ويقول لنا علماء الاجتماع المعاصرون بأن الإيمان بالله هبط إلى مستوى النصف أو الثلاثة أرباع في الدول الغنية المتقدمة. لماذا؟ لأنهم ما عادوا بحاجة إلى الاتكال على الله بعد أن أنشأت الدولة نظام الضمان الاجتماعي وكذلك الضمان الصحي. وهكذا استطاعوا الاستغناء عن الله وخدماته في وقت الضيق حتى إشعار آخر… إذا كانت كل حاجياتك المادية والصحيّة مؤمّنة من قبل الدولة فما حاجتك إلى الاستغاثة والاستنجاد بالله؟ وهكذا انتهت وظيفة الله وأصبح عاطلا عن العمل لأوّل مرة في التاريخ!

صحيح أن عصر النهضة لم يهمل البحث العلمي التجريبي. ولكنه لم يضعه أيضا في مركز اهتماماته.

ينبغي العلم بأن الإلحاد لم يستطع أن يتبلور ويفرض نفسه إلا بعد تشكل علم مادي فيزيائي قوي وراسخ في القرون التالية. أما في القرن السادس عشر فبشكل عام لم يكن إنكار وجود الله يشكل جزءا من اهتمامات أو رغبات أو حتى حاجيات المثقفين آنذاك. بمعنى آخر لكي يستطيع المرء أن يصبح ملحدا في مجتمع مؤمن كليا من أعلى رأسه إلى أخمص قدميه ينبغي أن يكون "ظهره مسنودا" من قبل فلسفة علمية وعقلانية قوية وقادرة على مواجهة اللاهوت الدّيني وتفسيراته الغيبيّة للعالم. ولكي يصبح الإلحاد ظاهرة واسعة كما هو عليه الحال في أوروبا الحديثة ينبغي أن تنتشر هذه الفلسفة العلمية في أوساط الشعب ولا تقتصر على أوساط المثقفين. وعندئذ يتحول الإلحاد العلمي أو الفلسفي إلى عقيدة مقنعة مثل العقيدة الدينية وأكثر. غني عن القول إنّ الملحدين بهذا المعنى ليسوا مفرغين من المبادئ الأخلاقية السامية كما يتوهم عامة الناس عندنا.

على العكس فإنّهم قد يكونون أكثر أخلاقية ونقاء من أغلبية المتدينين المتعصبين الذين يبثون الشحناء والبغضاء في صفوف المجتمع ويؤلبون فئاته بعضها على البعض الآخر باسم الدين أو المذهب. انظر الفرق الشاسع بين تصرفات الشعوب الأوروبية الملحدة في معظمها وتصرفات شعوبنا المتدينة في معظمها. أحوال أوروبا في ازدهار مستمر على الرّغم من إلحادها وأحوالنا في انحطاط مستمر على الرغم من إيماننا! لا أحد هناك يغش في عمله أو يخلف في مواعيده أو يتوانى عن خدمة المجتمع والمصلحة العامة. هذا في حين أنّنا لا ننفك نصلي ونصوم ونحج ونزيد بالتراويح وتراويح التراويح ولكن دون أن ينعكس ذلك إيجابيا على تطور المجتمع. كل شيء "منفلت"، "خربان"، لا أمل في إصلاحه. ومن وصل إلى شيء نهبه دون أن يعبأ بالمصلحة العامة.

بل إنّ مفهوم المصلحة العامّة غير موجود أصلا في مجتمعاتنا. بقي أن نقول إنّ الملحد ليس ملحدا في الواقع لأنه مفعم بالفلسفة الإنسانية الحديثة. وبالتالي فهو مؤمن بالمعنى الحقيقي والقوي للكلمة. إنّه مؤمن بقيم محددة تماما. يضاف إلى ذلك بالطبع كل المؤمنين بجوهر الدين لا بقشوره الخارجية أو طقوسه اللانهائية أو عقائده الطائفية والمذهبية. وهم عادة يكونون مطلعين جيدا على الفلسفة ومتعمقين فيها.

لا ينبغي أن نتسرع ونتهم ماكيافيلي بأنه كان وثنيا لأنه انتقد الكهنة والكنيسة بشدة. ومعلوم أنه قال بأنهم جعلونا سيئين ونكره الدين بسبب فسادهم وجشعهم وتكالبهم على الأموال وخيانتهم لجوهر الدين. ولكنه عاب على الكنيسة أيضا تعظيمها للفقراء المتواضعين والنساك المتأملين العابدين، ثم لأنها وضعت الخير المطلق في التواضع والذل… هذا في حين أنّ الدّين الوثني القديم كان يضعه في عظمة الروح والأمجاد. ولكننا نلومه وبحق لأنّه انصاع إلى منطق الأمر الواقع لزمانه القاسي المليء بالفواجع والإجرام. نلومه لأنه استسلم لمنطق القوة والحيلة فوضع السياسة خارج نطاق الأخلاق كليا. من هنا لاأخلاقية ماكيافيلي. وقد ذهبت مثلا. فسياسة دون أخلاق لا تساوي شيئا.

بقي أن أقول بأن هذه الكلمات ليست دعوة إلى الإلحاد المادي على الإطلاق. فكاتب هذه السطور ليس ملحدا ماديا. وإنما هو مؤمن "باله الحق والعدل" طالما استنجد به جان جاك روسو. وتصور فولتير وروسو وكانط لله أو للعناية الإلهية والعدالة الكونية يناسبني تماما أيضا. ومعلوم أنّهم كانوا ربوبيين وما كانوا ملحدين على عكس ما قد نتوهم. وبالتالي فأنا لا أدعو إلى الإلحاد وإنما إلى الإيمان المستنير. ثم بشكل أخص فإنّي أدعو إلى التفريق بين التدين/ والإيمان. فهما شيآن مختلفان تماما على عكس ما نظن. فقد تكون مؤمنا حقيقيا دون أن تكون متدينا على الإطلاق. فهناك تدين خارجي، شكلاني، استعراضي، بل وحتى إرهابي أحيانا، وهناك إيمان داخلي جواني عميق.

انظر التفريق بين الكنيسة المرئية الخارجية/ والكنيسة اللامرئيّة الداخلية عند هيغل وشيلنغ وهولدرلين من خلال المانيفست الأول للفلسفة المثالية الألمانية… وهنا يكمن الفرق بين جوهر الدين وقشوره. كلما كثرت الطقوس والشعائر قل التدين الحقيقي والإيمان النقي. ثم هذا السؤال الخطير المرعب: لماذا كلما كثرت طقوسنا وعباداتنا كثر الغش والدجل والإخلال بالواجب في مجتمعاتنا بدلا من أن ينقص؟ لماذا تبدو مجتمعات "الكفار" مرتبة وشوارعهم نظيفة وأحوالهم مزدهرة على عكسنا نحن المؤمنين؟

عصر النّهضة:
عصر البهجة والفرح بالحياة
عصر الاستيقاظ على الحياة بعد طول خمود وهمود

لنتحدث الآن عن الأكاديمية التي أسسها لوران المديتشي. فقد كانت أفلاطونيّة الهوى أو ما يدعى بالأفلاطونيّة الجديدة. بمعنى أنها كانت تعتمد على الفلسفة المثالية لأفلاطون وتتخذ موقفا ضد الفلسفة الارسطوطاليسية. وربما كانت تبحث عن نوع من المصالحة بين الأفلاطونية والمسيحية. ومعلوم أنّ الفلسفة الأفلاطونية أقرب إلى المسيحية من الفلسفة الأرسطوطاليسية. ألم يهج نيتشه المسيحية قائلا بأنها "أفلاطونية الشعب"؟ ومعلوم أنه قام بأكبر انقلاب على أفلاطون أو على الفلسفة المثالية الأفلاطونية. وكان يفتخر بذلك لأنه حطم التعالي كليا وأعاد للعالم الأرضي اعتباره. وهو العالم الوحيد في رأيه وكل ما عداه أو ما وراءه مجرد أوهام أو أضغاث أحلام.

لكن لنعد إلى عصر النهضة وأكاديمية لوران المديتشي. من المعلوم أن بيك الميراندولي كان من تلامذتها ومريديها المتحمسين. وقد ألقى خطابا هاما عن عظمة الإنسان وكرامته. وكان معجبا جدا بالعرب وفلاسفتهم. ولكن هذا لم يمنعه من أن يحلم في أواخر حياته القصيرة بأن "يسرح" في المدن والقرى والمزارع هائما على وجهه بغية التبشير بالإنجيل والصليب في يده وقدماه حافيتان… وهذا مثال من جملة أمثلة أخرى عديدة على ما يمكن أن ندعوه بالنزعة الإنسانية الدينية أو الروحانية. فالإيمان الحقيقي، على عكس إيمان التعصب والجهل، لا يتناقض مع العلم والفلسفة. وأكبر دليل على ذلك في عصرنا الراهن بول ريكور. فقد كان فيلسوفا كبيرا ومؤمنا مسيحيا بروتستانتيا في ذات الوقت.

وأخيرا ينبغي العلم بأن عصر النهضة كان عصر الفرح بالحياة. بهذا المعنى فانه كان مضادا للعصور الوسطى الكئيبة المظلمة الزاهدة في متع الحياة عموما. وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور… كان عصر الفرح والبهجة بكل معاني الكلمة: أي الفرح بالنظر، الفرح بالروح، الفرح بالجسد، الخ. يحصل ذلك كما لو أنّ الغرب كان يخرج آنذاك من شهر صوم طويل استمر ألف سنة فقط! (أي طيلة العصور الوسطى).. هذا هو المناخ الروحي والنفساني لأناس عصر النهضة. وهو الذي لايزال يسحرنا ويجذبنا إليه حتى الآن. ربما لم يفرح عصر ما بالحياة، أو لم يستيقظ عليها، مثلما فرح عصر النهضة واستيقظ.

انه لمن النادر أن نجد أناسا يشعرون بأنهم يعيشون حياة سعيدة جديدة مثلما كان يشعر أناس عصر النهضة.

ينبغي أن نكتب "علم اجتماع الفرح – سوسيولوجيا الفرح" لعصر النهضة، أو "علم نفس الفرح – سيكولوجيا الفرح" لكي ندرك مدى بهجة ذلك العصر. فبعد عصر الموت الطويل للقرون الوسطى المظلمات انبثق عصر الحياة لعصر النهضة. هكذا انتقلت البشرية الأوروبية من عصر إلى عصر آخر. وهنا بالضبط يكمن الحدّ الفاصل بين عصر النهضة والعصور الوسطى.

لم يعد أحد يقول تلك العبارة التي كان يرددها القديس أغسطينوس:

"نحن هنا على وجه الأرض مجرد سائرين نحو الموت. إنها مجرد عبور إلى الدار الآخرة، دار الأبدية والخلود".
 ولم يعد أحد يعتقد بأن هذه الحياة هي موت اكثر مما هي حياة، أو إنها نوع من الجحيم كما كان يعتقد القديس الكبير، أستاذ العصور الوسطى المسيحية كلها. على العكس لقد استعادت الحياة قيمتها ومعناها ورونقها. وأصبح الإنسان يتجرأ لأول مرة على أن يفرح بها ويبجلها.

ولكن هذا الفرح عمره قصير ككل أنواع الفرح في الحياة. ممنوع أن تسعد على وجه الأرض أكثر مما ينبغي! حذار أن تفرح أكثر من اللازم أيها الإنسان! فبعد النصف الأول من القرن السادس عشر راحت عوامل عديدة "تفرمل" حركة الفرح والبهجة التي عمت أوروبا بعد ألف سنة من ظلام العصور الوسطى. راحت الغيوم الداكنة تتراكم على الأفق. وراح الناس الحزينون يملؤون الشوارع شيئا فشيئا ويطغون على مسرح الحياة الغربية. وذلك لأنه ككل عصور الفرح وإشراقات الشمس الساطعة، ككل الفترات السعيدة أو التي تعتقد كذلك، فان عصر النهضة لم يدم طويلا. كان عمره عمر الزهور… ونفس الكلام ينطبق على العصر الذي أشرقت فيه الحضارة على مدينة الإسكندرية، أو العصر الذهبي للحضارة العربية الإسلامية، أو حتى عصر التنوير الأوروبي. كل العصور العظيمة في تاريخ البشرية مهددة من قبل عصور التعصب والظلام!

هاشم صالح

المصدر: الأوان

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...