يطلبون رأسَ "الحُرَّة" ... لماذا ؟
الجمل- غازي أبو عقل: وَجدتُ في صحفٍ غربية صدى الحملةِ الإعلامية الموجَّهة من بعض الإعلام في الولايات المتحدة، ضد قناة "الحُرَّة" التي أُحدثت منذ أربع سنوات، وعُهد إليها بمهمة مستحيلة، فحواها "الدفاع عن صورة الولايات المتحدة في العالم العربي"، هذه الصورة التي لا يتوقف المسؤولون الأمريكيون عن تشويهها، عبر سياساتهم القصيرة النظر التي يمارسونها في المنطقة. مما يحبط أي جهد هدفه تحسين تلك الصورة، ولو تضافرت من أجل تجميلها قنوات كوكبنا كلها، مدعومة بمعاهد التجميل ودكاكينه الموزعة على سطح هذا الكوكب الأرض.
ليس بودي استعراض تفاصيل حملة بعض الإعلام الأمريكي على الحرة المسكينة، ولا التوقف عند أسبابها الظاهرة والخفية، ويستطيع من يهمه الأمر العودة إلى المصادر الأصلية، الأمريكية، أو الفرعية العربية.
ما لفتَ نظري أولاً، مسارعةُ بعض الإعلام الأمريكي "الحر" إلى مهاجمة القناة، بعد أن بدا عليها – فعلاً – ميلٌ ملموس إلى أن تكون "حرة" ولونسبياً. أعني أن تكون حرة من الاستعمار الصهيوني الفاشي في كوكبنا الهزيل، ومن منطق "المحافظين القُدامى" في بعض شؤون هذه الدنيا. ولا بد لي من الاستشهاد بما نُقل عن "واشنطن ﭙوست" وعن برنامج ستين دقيقة على قناة C.B.S.، الذي يُفصح عن العنوان الصريح للحملة، الهادفة إلى إبراز فشل فضائية الحرة التي تمولها الإدارة الأمريكية في تحقيق أهداف الولايات المتحدة و "مبادئها" في العالم العربي، لا بل والعمل أحياناً عكس تلك المباديء...
ما أود قوله بعد هذه السطور التمهيدية التي أَجَّلْتُ فيها التنويه بالأموال التي أُنفقت على الحرة، والتي تكاد تصل إلى أربعمئة مليون دولار إلى اليوم، وبميزانيتها السنوية ومقدارها 112 مليون دولار... ما أود قوله بسيط جداً وقد يفاجئ "الإدارة الأمريكية" وقناة الحرة ومهاجميها المطالبين بإغلاقها.
حجة أعداء الحرة، الذين يريدون إغلاقها، تقوم على فشلها "في تحقيق أهداف الولايات المتحدة ومبادئها في العالم العربي" كما ذكرتُ قبل قليل... انطلاقاً من هذه الحجة يقتضي "المنطق" المالي على الأقل، إعطاء المال إلى الجهة التي تنجح كل يوم في "تحقيق الأهداف ونشر المباديء"، الخاصة بالولايات المتحدة في العالم العربي... هنالك أكثر من جهة تُحقق هذا البند من دفتر الشروط، مما يستدعي "رسُوّ المناقصة" في صندوق مَن أَثبتَتْ التجربة الميدانية كفاءتها في "التحقيق والنشر".
سأتفادى – قبل إعلان ترشيحي الشخصي لتلك الجهة – الإشارة إلى إسهام الإعلام العربي إجمالاً في "التحقيق والنشر"، لأن هذا الإسهام لا يحتاج إلى برهان. ولن أتوقف عند "غباء" موزعي أموال دافع الضرائب الأمريكي على وسائل الإعلام المُكَلَّفة بالتحقيق والنشر، ولا عند عَمَى بصيرتهم عن رؤية واقع الحال، وأسارع إلى مطالبة هؤلاء بتحويل دولارات موازنة "الحرة"، أو غيرها مما يُوفرونه من دولارات، بعد أن رفعوا أسعار النفط لكي يسددوا نفقات غبائهم وجرائمهم في كل مكان، لا في فلسطين والعراق وأفغانستان فحسب، أطالبهم بتحويل تلك الأموال إلى المجموعة "العربية" المعروفة باسم "ميم باء سين" لأنها جديرة بها، لا بل تستحقها فعلاً أكثر من غيرها، من أجل جهودها المبذولة في "التحقيق والنشر". تحقيق أهداف الولايات المتحدة ونشر مبادئها في العالم العربي.
نعرف جميعاً أن "الثقافة" بما هي عادات مُكتسبة وملابس ومفردات وأطعمة، وغيرها من العناصر، تتحول بالامتصاص أو "الاستقلاب" إلى أفكار، أو إلى نمط في التفكير يؤثر على الفرد، بخاصة إذا طالت مدة "تَعَرُّضهِ" إلى الإشعاع... الثقافي، الذي يماثل في تأثيره، مفاعيل مساحيق الغسيل على الملابس.
المجموعة التي سلفَ ذكرُها، أوقفَتْ – بالمعنى الشرعي للكلمة – عدداً من أقنيتها على خدمة عملية "التحقيق والنشر". وإلا فكيف نُفسر هذا الدَّفق المتواصل آناء الليل وأطراف النهار، لجانب واحد من جوانب "الثقافة" الأمريكية، جانب قد يكون أكثرها تأثيراً في بني البشر حالياً، ألا وهي المسلسلات المتلفزة والإفلام أيضاً، التي تنحو باضطراد إلى أن تكون مسلسلات أي غير ذات موضوع.
مجموعة قنوات لا تعرض، ولو من قبيل الخطأ، أي إنتاج مصدره شعوب الأرض الأخرى من غير الـ W.A.S.P.، ولا أي مادة سمعية بصرية لآخرين إلا في ما ندر؛ فكيف نفسر هذا المنحى، وهذه الحماسة المندفعة في سبيل سكب أكبر كمية من اللاثقافة الممنهجة في مشروع "فني" إلهائي، على رؤوس قومٍ زَاغَةٍ منذ سقوط غرناطة والقسطنطينية. مع أن صاحب المجموعة كان قد قال لصحيفة عربية مرموقة، منذ أقل من عام: "إنه يحرص على أن تعكس مجموعته صورةَ المجتمع والبيئة التي نمثلها والقضايا التي تخصها، مع أخذ التنوع داخل المجتمع العربي الكبير"، وأضاف أنه يعتمد على فريق عمل مهني، يتمتع بمهارات وكفاءات عالية، يضم نخبةً من القيادات الإعلامية والإدارية المبدعة... إن من يشاهد ما تقدمه المجموعة، ويقرأ ما قاله صاحبها، لا يجد مناصاً من أن يحمل فعل "تعكس" على غير معنى الظاهرة الفيزيائية المعروفة في المرايا بل على معناه في لسان العرب: "عكسَ الشيءَ يَعكِسهُ: رَدَّ أوَّلَه على آخره، أو بمعنى شَدَّ حبلاً في خَطْم البعير إلى رسغ يديه ليذِلَّ، وفيهما ما فيهما من دقة، كي لا نقول إن العكْس: حبس الدابة على غير علف... لأن "العلف" الثقافي الذي تقدمه المجموعة يفيض ويزيد ويؤدي إلى التخمة، والحق يُقال...
هل نعتبر أن عكس صورة المجتمع والبيئة التي نمثلها، لا يصح إلا بعرض مسلسل تلعب فيه فتاة من الموساد دوراً بارزاً؟ أو بإحجام مسؤولي المجموعة عن رصد الحوارات في كثير من تلك المسلسلات، المتضمنة انتهاكاً صارخاً "للصورة إياها"؟ وهل ينبغي لنا تلقي دروس عن عدم التفكير بالاحتفال بعيد ميلاد يسوع والاهتمام بالفصح اليهودي؟ المسلسلات الأمريكية الموقوفة عليها قنوات المجموعة، كما يلاحظ من يتتبعها، متقنة الصنع، بخاصة في ما يتصل بالملابس، قديمها وحديثها، إلا إذا تعلق الأمر بالملابس العربية التقليدية، عندئذ ترى الأعاجيب في قلة الذوق وتعمّد البشاعة، خدمة لموضوع عكس صورة مجتمعنا وبيئتنا.. أو كما قال.
لن يتسع المجال "لنقد" طوفان المسلسلات التي تبثها قنوات المجموعة، لاستحالة الأمر، فاهتمامي غير معني لا بالإباحية الجنسية ولا بالملابس العربية، بل بالدعاية الصهيونية المباشرة وغير المباشرة. ولن أطالب "نخبة القيادات الإعلامية والإدارية المبدعة العاملة في المجموعة" بالتصدي لها، لسبب بسيط، لأنهم لو فعلوا لَتَعرَّضوا لما تعرضَّتْ له الحرة عندما حاولت أن تُصدّق أنها كذلك. كما لن أطالبهم بتحويل أموالهم من شراء مسلسلات الإلهاء، الناجحة في أداء مهمتها، إلى شراء حقوق بث برامج الأقنية الراقية التي لا يمكن مشاهدتها إلا لقاء ثمن قد لا يتاح لأكثرية سكان المنطقة، وذلك من أجل بثها مجاناً كما يفعلون حين يشترون مسلسلات التفاهة والعنف التي يملؤون بها فضاء رؤوسنا – فضاء هنا بمعنى فراغ – لماذا لا يشترون برامج العلوم والمكتشفات والجغرافيا والموسيقى ذات السوية الرفيعة، ويغدقونها علينا، لقاء الأموال التي ندفعها للإتصال الهاتفي بمسابقاتهم وبرامجهم؟
مع ذلك، سأثابر على مشاهدة طوفان الغثاثة الأمريكية الهادر على قنوات ميم باء سين لأسباب تخصُّني شخصياً، كي لا أقع في مصيدة "الدرامات" اليعربية المتنوعة، لأن تَحَمّـل مسلسلات الولايات المتحدة أفضل بألف مرة من تحمل إبداع درامانا الفانطازية والتراثية والحداثوية... ذلك أنني مازلت أفضل عليها كلها "مقالب غوار" و "حمام الهنا". فلقد توقفت بعدهما عن مشاهدة أي دراما أو كوميديا عربية لتخلف سوياتها عن ذينك العملين الذين يستحقان، رغم كل شيء، الإعجاب والتقدير.
ولا بد لي من التنويه، في الختام، بالعدد الخاص من صحيفة "الكلب" الصادر في ابريل نيسان من سنة 2004، بعد بدء بث الحرة بقليل، المتضمن "رؤية كلبية لصورة الولايات المتحدة"، هذا العدد الذي لو اطلع عليه أصحاب الحرة لوفروا على أنفسهم وعلى دافع الضرائب الأمريكي الملايين.
مع أنني لا أشاهد الحرة إلا ما ندر، لانشغالي بمسلسلات من نوع لاس ﭭـيـﭽـاس وفرندز وغيرهما كثير. إلا أنني لن أخفي أسفي على اختفائها، لو نجحت الحملة عليها التي يقودها إعلاميو الصهاينة القدامى والجدد الراتعون بين "الدبابير" من البيض المحتجين W.A.S.P.، والأنـﭽلوساكسون طبعاً... لأنها تحاول بقليل من التوفيق ربما أن تكون اسماً على مُسَمّى.
الجمل
للكاتب أيضاً:
حساب ذهني: "قَرن روسي، من لينين إلى ﭙـوتين"
عصر امبراطورية "أوپيك" أم عصر أمبراطورية بيلدِربيرچ"؟..
غازي أبو عقل: مَن أُصَدِّقُ.. مناحم بيجن أم جهاد الخازن ؟
غازي أبو عقل : نقد "النقد الذاتي بعد الهزيمة" (1 من 4)
غازي أبو عقل: نقد "النقد الذاتي بعد الهزيمة" (2-4)
غازي أبو عقل: نقد "النقد الذاتي بعد الهزيمة" (3-4)
إضافة تعليق جديد