السيد أردوغان هل يقرأ؟
في الخطاب الذي ألقاه رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان على وزراء الخارجية العرب في القاهرة أقف عند جملتين منه أولاهما أن "تركيا والعرب يشتركون في العقيدة والثقافة والقيم". العقيدة، بلا منازع، هي الإسلام. هنا كلام يتضمن أن دولته لا يرى وجود اثني عشر مليون مسيحي عربي على الأقل وهؤلاء لا ينتظرون من أجنبي تحديد هويتهم القومية. في ما يختص بالثقافة اللغة التي كان لها أثر كبير في الأناضول هي اللغة الفارسية. بعد محمد الفاتح صارت القسطنطينية قطب جذب للشعراء العرب والفرس حتى تأصل التركي البسيط. ولكن بعامة لم يبقَ من تأثير عربي غير مختلط بالأثر الفارسي حول القرنين الخامس عشر والسادس عشر.
بظهور التنظيمات في القرن التاسع عشر اتجهت تركيا أدبياً نحو الغرب. ثم مع حرب الاستقلال وإعلان الجمهورية التركية السنة الـ 1923 تصلّب الشعور التركي حتى جاء ناظم حكمت الثوري (1902-1963) ثم اتسع الأفق بدءًا بالسنة 1939 بالترجمات والاتجاه نحو الفكر المجتمعي والسياسي. ما هو حي الآن في الأدب لا علاقة له بالعروبة. أما القيم التي يشير إليها السيد أردوغان على أنها مشتركة بيننا وبينهم فمنها القديم والحديث، فما من شك أن القديم غير ضاغط علينا وأننا تواقون إلى الحداثة وذائقون أوروبا بعمق في حين أن الأتراك متعلقون بالعتيق بشدة وأوروبا عندهم أمل في الانصهار السياسي بها استكمالا لحلف شمال الأطلسي الذي يجمعهما ويجعل تركيا قوية في دنيا العرب على رجاء عثمانية ما العرب فيها حليف صغير لا شريك كبير.
أما الأكثر مخافة مما سبق فقول السيد أردوغان: "كان في التاريخ التركي شاب تولى إنهاء حضارة سوداء وتدشين حضارة جديدة عريقة عندما فتح اسطنبول وهو محمد الفاتح". أنا لا أناقش عراقة الحضارة التركية وعظمتها. ولكن ابدأ بسؤال للسيد أردوغان لا ينبغي أن يصدمه وهو هل قرأ الحضارة البيزنطية التي يسميها سوداء. الأتراك عسكر أقوياء استطاعوا مع مؤامرة الأساطيل الغربية التي كانت تربض هناك أن يغلبوا أعظم فكر حضاري السنة الـ1453. ولكن كيف يريد السيد أردوغان أن يقنعنا أن الحضارة المتكاملة العناصر والخلاقة والسامية روحيا حتى السماء كانت سوداء. كيف لا يرى أن نهضة أوروبا ما أخذت تظهر إلا بهجرة العقول البيزنطية إلى الغرب الذي اقتبس منهم العقل الإغريقي وانشأ الفكر الحديث؟
الحضارة البيزنطية أهم ما فيها الثقافة. عرفت الخط مكتوبا باليونانية واللاتينية في أعمال المؤرخين القدامى ورسائل في الزراعة والفن العسكري، في الطب والطب البيطري، في تأويل الأحلام، كل هذا ألف مكتبة كبيرة. إليها كانت مكتبة البطريركية المسكونية التي كانت تحوي أعمال المجامع وكتب الآباء. إلى هذا مكتبات خاصة. هنا وهناك كتب طقوسية. ندرة الكتب نابعة من كونها غالية.الوصول إلى الكتاب يسهل في العائلات الغنية. المدرسة الابتدائية يشرف عليها الأسقف، يتعلّم الولد فيها القراءة والكتابة والحساب. الكتاب الرئيس هو المزامير. في المدرسة علم الجمل حيث لكل حرف قيمته في الرقم كما في العالم العربي. الترتيل متقن في المدارس.
كل الأولاد كانوا يتبعون المدارس الوسطى. تعلم الناس كل ما في الحضارة القديمة: هوميروس، الهندسة، البلاغة، الرياضيات. كانت الفلسفة تتضمن اللاهوت والرياضيات، الموسيقى، علم الفلك، الطبيعيات. في القرن الثالث عشر ظهر في الترجمة أعمال لاتينية وفارسية وعربية. أخذ القوم عن اللاتينية مفردات الحياة الإدارية وعن العربية تلك المتعلقة بالنسيج. كانت الكنيسة متعلقة باللغة القديمة. عرفت القسطنطينية غير مؤسسة جامعية، ثم كان للبطريركية تعليم جامعي.
المعرفة العالية كان لا بد أن تتضمن تفسير الكتاب المقدس، وبعد تحديد العقيدة ظهرت المفردات اللاهوتية. لقد اثر النسك والتصوف في التعليم وتركزت العقيدة على كتب يوحنا الدمشقي. الصوفيون الكبار كانوا سمعان اللاهوتي الحديث وغريغوريوس بالاماس ونيقولاوس كبازيلاس. هنا تظهر سير القديسين. الكتب الطقوسية وضعت بين القرن الرابع والقرن الخامس عشر وعليها يعيش الأرثوذكسيون حتى اليوم. جزء أساسي من الثقافة البيزنطية أن تعرف استعمال كتب العبادات ولاسيما حسب الأعياد والمواسم.
ثم تأتي الأعمال الأدبية الموضوعة بلغة العلماء. وتعالج التاريخ والجغرافية والفن العسكري والبلاغة والقصة، والفلسفة والألسنية وقواعد اللغة.
التاريخ يبدأ من بدء الخليقة وينتهي عند زمن الكاتب. إلى هذا الفلسفة اليونانية التي أظهرت آباء الكنيسة. وقد استعار الفكر المسيحي مصطلحات الفلسفة لينتقل ورأى انه يكمل الفكر القديم بالوحي. غير أنها بقيت مستقرة في جوهرها. استعملت أساليب مختلفة في بناء اللاهوت غير أن عدد الفلاسفة الأصيلين كان قليلا ولكن كثر العالمون بالآداب اليونانية الكلاسيكية والنقاد وعلماء اللغة وبرز شعراء مسرحيات.
لعل أجمل ما كتب الشعر الديني. كل ما يسمى في الصلوات القنداق والقانون شعر. إلى هذا عرفت بيزنطية الشعر الشعبي والقصة بالفصحى وبالعامية. كذلك عرف علماء رياضيات وفيزياء وبصريات.
عرف البيزنطيون علم الحيوان من الناحية التطبيقية وعلم النبات التطبيقي أي استعمال النبات في الطب والصيدلة. اخذوا الخيمياء عن سترابون وطبقوها في المعادن والصبغة والأدوية والزجاج.
على الصعيد الطبي في التنظيم الصحي. أسست مستشفيات وصار للأطباء تعليم نظامي وعززت مواردهم. اشتهروا في علم العين: بولس من إيجينا كان دارس الجراحة والتوليد وأثر في الطب العربي. ميخائيل بسيلوس وضع قاموسا في الأمراض. خصصوا كتبا في طب الأسنان والتمعوا في البيطرة وفي طعام الحيوان. الصيدلة كانت عندهم جزءا من تعليم الطب وأخذوا في الصيدلة شيئا من العرب والفرس.
عظمت الخطابة وسيلة للدعوة السياسية أو الدينية. ومن الخطابة الوعظ الذي اشتهر فيه يوحنا الذهبي الفم في القرن الرابع ومطلع الخامس في أنطاكية والقسطنطينية ولدينا مواعظه في اللغة اليونانية مترجمة إلى معظم اللغات الأوروبية وبعضها إلى العربية.
ظهرت الأيقونة الخشبية أو الجدارية في الإمبراطورية ولاسيما لتعليم الأميين. منذ القرن الرابع بدأ الرسم كما الفسيفساء. أقدم الفسيفساء (العذراء، القديس جاورجيوس) في سالونيك. القليل حفظ في آيا صوفيا وبقيت أيقونات كشف عنها من عهد أتاتورك. القليل في قبرص والأكثر في رافينا (إيطاليا). وبسبب غلاء الفسيفساء استعيض عنها بالرسم الجداري الذي عرف كثيرا في ما هو الآن المشرق العربي وهو في حال التجدد اليوم في كل أنحاء سوريا ولبنان. كذلك زينت المخطوطات بالتصاوير ولاسيما كتب الأناجيل. وارتبطت الصور بصناعة الصياغة والتطريز.
انتبهت الكنيسة إلى ضرورة الأيقونة في المجمع المسكوني السابع وحددت تكريمها تحديدا عقديا في السنة الـ787 ملأت الكنائس والبيوت في الدنيا الأرثوذكسية وكان بادئ التنظير لها القديس يوحنا الدمشقي الذي عاش راهبا في فلسطين وتبنت الكنيسة رأيه في الأيقونة وهو القائل أن التجسد الإلهي يفرضها. إن روحانية الأيقونة في كل بيت أرثوذكسي في العالم إلى جانب استلهامها في الكنائس كان من العوامل التي حفظت الإيمان.
كل البيزنطيين، كما يؤكد المؤرخون، كانوا مؤمنين. إذا وجدوا راهبا في الطريق يطلبون بركته. في هذا الجو لك أن تفهم اهتمامهم بالمرضى والفقراء.
لقد ظلم بعض الأباطرة لكن بعضهم تركوا الملك ودخلوا الديورة رهبانا. كان هذا المجتمع على خطاياه يريد أن يدشن في الأرض ملكوت الله في استقامة الرأي وطهارة السيرة. علامتها البكاء على الخطايا واللطف والتسامح والسلام والتعاطف والزهد بالمال والتقشف. هذه كلها مجتمعة بكلمة واحدة هي محبة الرب.
الأمر كله أن يهتدي الإنسان من الأمور الخارجية إلى الأمور الداخلية. بكلام آخر كل المؤمنين في وسط هذه الحضارة كان نهجهم صوفيا، بحيث تقيم في سر الله ولا تعلم حواسك شيئا مما تأخذ من إلهك وتصلي دعاء الرب يسوع في داخل قلبك مرددا اسمه مئات المرات في اليوم أو ألوفا حتى تنطفئ الكلمات ويصبح قلبك كلمة.
من عرف العبادات البيزنطية التي تكونت أصلاً من بلادنا يرى فيها غنى لا يتجاوزه غنى آخر. كل صلاة من الصباح إلى الغروب إلى نصف الليل تحمل هذه القناعة التي نعبر عنها يوم الفصح بقولنا: "المسيح قام من بين الأموات" أنت في القداس ترجو الله بعد أن يأتيك جسد الرب ودمه أن يجعلك في "كمال ملكوت السماوات"، متحررا من المحاكمة في اليوم الأخير ومن الدينونة. كل هذه الصلوات الكثيفة، العميقة، البلورية وجسدك ساجد أو منتصب ونفسك بلورية نابعة من الكتاب الإلهي أو هي نظم له لتصبح شعرا إلهيا مع الجماعة.
إذا قرأ السيد أردوغان كل هذا هل يقدر أن يقول إن كل هذا البهاء الذي وصفناه ما قدر لنا هو حضارة سوداء؟ أنت لست معذورا إن قرأتنا وفهمتنا خطأ. أنت لست معذورًا إن رأيت النور ظلاما. أجدادك اقتحموا المدينة التي كانت تعرف أنها وحدها آنذاك مقر الحضارة في العالم. أنصف ما كان قبلك جميلا واقرأ لأنك مسؤول.
الأب جورج خضر
المصدر: النهار
التعليقات
لوناديت
الى محكومة بلأمل
إضافة تعليق جديد