«القضاء والقدر» و«انتحار» الحجاج
يتوافد المسلمون من كل عرق ولون، ومن شتى بقاع العالم، إلى مكة المكرمة مع اقتراب أول أيام الحج للعام 1437 هـ، وتعود إلى الأذهان في هذه الأيام، صور جثث الضحايا الحجاج وهم في لباس الإحرام، مكدسة بعضها فوق بعض في منى العام الماضي، في حادثة وصفت بالأسوأ والأكثر دموية منذ ربع قرن. أكثر من ألفي حاج راحوا ضحية التدافع، الذي سبقه بأسبوعين سقوط رافعة ضمن مشاريع توسعة الحرم المكي، أودت بحياة مئة. كوارث متتالية، فرضت تساؤلات يبحث المسلمون عن جواب شافٍ لها، حول الإجراءات السعودية الجديدة للمناسك.
وككل عام، تزاحمت الشّعارات التي يرفعها المسؤولون السعوديون حول خدمة الحجّاج، لإظهار الكعب العالي في الاحتياطات الأمنية والإدارية. وأعلنت وزارة الحج والعمرة اعتماد خطة طوارئ للدفاع المدني ينفذها 17 ألف ضابط وفرد و3 آلاف آلية معدة، تضمنت 13 افتراضاً للأخطار المحتملة، واتخذت لمواجهتها «أعلى درجات الجاهزية والاستعداد» بحسب الوزارة.
يوضح الباحث والمفكر الإسلامي الشيخ محمد المحفوظ، أن «القاسم المشترك لهذه الإجراءات هو تقليل الكتل البشرية الكبيرة للحجاج»، مشيراً إلى قرار وزارة الحج والعمرة، بحظر خروج الحجاج من مخيماتهم لرمي الجمرات في منى 4 ساعات يومياً، للحد من كثافة الحجاج في تلك البقعة، ولتنظيم المناسك، ووضع خطط مرورية في المشاعر (منى ومزدلفة وعرفات)، ومنع «طواف القدوم» قبل الصلاة وبعدها بساعة، بالإضافة إلى رفع مستوى التعاون بين القطاعات الأمنية في وزارة الداخلية لمواجهة الأزمات والمواقف الطارئة، وإجراءات أخرى من شأنها تكثيف برامج «التثقيف بأمور السلامة» كتوزيع 9 ملايين نسخة توعوية على الحجاج.
من جانب آخر، لفت المحفوظ إلى أنّ عدد الحجاج قليل في الأصل هذا العام، وذلك بسبب الأحداث التي رافقت موسم العام الماضي وارتفاع تكاليف الحج، بعدما أصبحت الشكاوى من ارتفاع هذه التكاليف سمة عامة في السنوات الأخيرة في السعودية والدول الإسلامية. ويعود ارتفاع الأسعار إلى ارتفاع رسوم تأشيرات الدخول أولاً، وتقليص عدد الحجاج ثانياً، ففي ظل تقليص عدد الحجاج، أعلنت السعودية، في آب الماضي، رفع رسوم التأشيرات والمخالفات المرورية ضمن مبادرة قدمتها وزارتا المالية والاقتصاد والتخطيط لتعزيز الإيرادات، فيما تسعى الحكومة السعودية، منذ أن بدأت أعمال التوسعة التي يشهدها الحرم المكي، إلى تقليل عدد الحجاج من الداخل والخارج. وأقر مجلس الوزراء في حزيران الماضي تقليص عدد الحجاج لهذا العام من العالم الإسلامي بنسبة 20 في المئة، ومن الداخل السعودي بنسبة 50 في المئة، لكن القرار «مؤقت واستثنائي» بحسب ما يؤكد المسؤولون السعوديون، فالسعودية تطمح إلى زيادة عدد المعتمرين إلى 15 مليوناً سنوياً بحلول العام 2020، في إطار «برنامج التحول الوطني 2020» مقابل حوالي ستة ملايين حالياً، بعد إكمال أعمال التوسعة، بهدف رفع معدلات حجم عوائد الحج والعمرة.
وأوضح المحفوظ أنّ ثمة تكاليف أخرى غير التأشيرات «لا تتحكم بها الحكومة السعودية بل هي مرتبطة بحركة الرساميل المالية والعرض والطلب»، وتعود إلى ارتفاع أسعار الخدمات الأساسية كالإقامة والتنقلات والطعام والفنادق، التي ارتفعت أسعارها مع زيادة خدماتها بعد الموجة العمرانية التي أتت ضمن منظومة المشاريع التوسعية في الحرمين الشريفين والمشاعر المقدسة، مع الإشارة إلى أن «قلة أعداد الحجاج يحمّل البعثات والحملات أعباءً مادية أكبر».
من بين الإجراءات السعودية التي تفاخرت بها الصحافة السعودية، مراقبة حركة الحجاج من خلال «أساور ذكية» مزودة بتقنية «جي بي أس»، لكنها بحسب موقع «الإذاعة العبرية»، إسرائيلية الصنع، وهو ما أنكره السعوديون، ووفقاً لتقرير نشره الموقع الإسرائيلي الخميس الماضي، تعاقدت الإدارة المنظمة للحج مع شركة «G4S» الامنية البريطانية لتأمين الحجاج منذ العام 2010، وباتت الشركة التي تشرف على أبشع أنواع التّعذيب والاحتجاز والاعتقال الإداري في المعتقلات الإسرائيلية في فلسطين، تشرف على أمن الحجاج اليوم. وبحسب التقرير، فإنّه في حال وقوع أي حادث، تكون غرفة العمليات الأمنية للاستخبارات السعودية المشرفة على الأساور، مرغمة على أخذ المعلومات المطلوبة من الشركة الأمنية المتعاونة مع الاحتلال، والتي ستمتلك مجموعة البيانات الضخمة عن الحجاج.
كارثة منى أثارت الذعر، وكشفت بحسب مراقبين، هشاشة الإجراءات والخدمات التي تعلن عنها السعودية لتنظيم المناسك عند كل موسم، فضلاً على بطء الإجراءات لتحديد مصير المفقودين وهوية القتلى ونقلهم إلى بلدانهم ومعالجة الجرحى، وهو على الأقل، جانب من تقصير الإدارة المنظمة للحج، الأمر الذي دفع دولاً إسلامية، خصوصاً إيران، التي تلقت العدد الأكبر من الضحايا، إلى اتهام السعودية بـ «عدم الكفاءة» و «سوء الإدارة»، إذ كان على السعودية بحسب المسؤولين الإيرانيين، أن تحسب قدراتها على تنظيم شعيرة رمي الجمرات في مشعر منى، من خلال تحديد العدد المناسب المتوجه من أفواج الحجاج إلى موقع رمي الجمرات.
وبعيداً عن الإجراءات، ثمة أسباب أخرى جعلت السعودية في قفص الاتهام في نظر المراقبين، منها، ما تردد أنّ سبب تقاطع الحجاج بكثافة وحصرهم في مساحة ضيقة نسبياً في منى، كان إغلاق طريقين من أجل مرور موكب لأحد أمراء العائلة المالكة، بحسب ما أشارت صحيفة «الاندبندت» البريطانية ومحطة «أي بي سي» التلفزيونية الأميركية بعد الحادثة، فضلاً على عشرات المقاطع المصورة التي انتشرت على «تويتر» و «فايسبوك»، وتظهر موكباً رسمياً في منى، قيل إنّه السبب في تغيير مسير أفواج الحجاج.
اتهام الضحية
رفضت السعودية كل الاتهامات والانتقادات، وأغلقت صبيحة عيد الأضحى الباب على أية رواية أخرى غير الرواية الرسمية، المحملة اتهامات مبسطة للحجاج والضحايا، وسارع المسؤولون السعوديون إلى تبريرات جاهزة استبقت التحقيقات (المستمرة إلى الآن)، وبثت أحكاماً متسرعة زادت الشكوك عند المراقبين. ولدفع الانتقادات، عمد المسؤولون السعوديون بمساهمة كبيرة من الإعلام، إلى استحضار الصراع الإيراني ـ السعودي في قضية تعني العالم الإسلامي برمّته، واعتبرت الانتقادات الإيرانية لإدارتها «تسييساً للحج»، على الرغم من أنّ العدد الأكبر من الضحايا الحجاج كانوا إيرانيين، من بينهم أربعة ديبلوماسيين، أحدهم السفير السابق في لبنان غضنفر ركن آبادي. وبعدما اتهمت الرياض طهران على لسان وزير خارجيتها عادل الجبير في أيلول العام 2015، بـ «الشغب في الحج منذ الثمانينيات»، تهافتت وسائل الإعلام الرسمية، بعناوين عريضة حمّلت الحجّاج الإيرانيين المسؤولية الكاملة عن الحادثة، وتعمّدت بعضها نقل شهادات زعمت أنّ الحجاج الإيرانيين لم يلتزموا بالوقت المحدد لتفويج بعثتهم لرمي الجمرات، ما أدى إلى الازدحام.
بدت الأدوات السعودية لاحتواء الموقف جاهزة، بدءاً من تصريحات المسؤولين وتوجيه الإعلام وصولاً إلى استنهاض رجال الدين، الذين ألبسوا الانتقادات ثوباً طائفياً، وعزوا مقتل الآلاف إلى «القضاء والقدر»، بل لمّح بعضهم إلى انتحار الحجاج! هذا ما يُستنتج من فتوى المفتي العام للمملكة ورئيس «هيئة كبار العلماء» عبد العزيز آل الشيخ بعد يوم واحد من المأساة، بأن «تعمُّد الموت في الأماكن المقدسة يعد انتحاراً»! مرفقاً فتواه بإرشادات للحجاج بالالتزام بقوانين السير.
ويرى مراقبون أن الرد الممنهج على الانتقادات، لم يخف اعترافا سعوديا بالمسؤولية جاء على شكل توجيه من الملك سلمان للجهات المعنية بمراجعة الخطط المعمول بها، وضرورة تغيير خطة تنظيم المناسك، على الرّغم من أنّه أتى خالياً من أي قرارات تطيح المسؤولين المباشرين، في ظل تكتم على التحقيق، لم يخرج عنه سوى رواية خطيرة كشفت عنها ابنة السفير غضنفر، زهراء، بعد مرور 11 شهراً على الكارثة، بأن السلطات السعودية نكّلت بجثة والدها و «استخرجت أعضاءه الداخلية الحيوية كالدماغ والقلب والكليتين والرئتين» خلال عملية التشريح التي أجريت على جثمانه.
التعنّت السعودي بوجه أي شكوى أو انتقاد لأداء الحكومة وخططها التنظيمية، أحال التحقيق المستمر، أجوف المضمون وبلا جدوى، ودفع رفض المملكة الكشف عن أي معلومات أو مشاركة أي جهة في التحقيق، سواء المغربية أو المصرية أو الإيرانية أو غيرها، الرئيس الإيراني حسن روحاني للمطالبة من على منصة الأمم المتحدة بتحقيق دولي في الحادث، وهو ما جدد المطالبة به، المرشد الأعلى للجمهورية الإيرانية السيد علي خامنئي، بعد يوم من كلمة له وصف فيها آل سعود بـ«الشجرة الملعونة»، لدى استقباله جمعاً من أسر ضحايا فاجعة منى أمس، بأنه «يجب تشكيل لجنة إسلامية ـ دولية لتقصي الحقائق» بشأن الحادثة، وهو الأمر الذي يخشاه السعوديون، لما يترتب عليه من إشراف دولي على شؤون الحرمين، يجعل من مكة والمدينة منطقة إسلامية مفتوحة. ورداً على اعتبار دول مجلس التعاون الخليجي أمس التصريحات الايرانية «تحريضاً مكشوف الأهداف» ومسعى «لتسييس الحج»، قال خامنئي بوضوح، إنّ «لهذه الحادثة أبعادا وجوانب مختلفة ويجب تبيان حقائقها السياسية والاجتماعية والأخلاقية والدينية، ويجب عدم نسيان هذه الأبعاد»، معتبراً أنّ أميركا شريكة في «الجريمة السعودية»، فيما أكد روحاني أنّ إيران «لن تغفر أبداً لمن أراقوا دماء شهداء منی المظلومین».
واعتبر روحاني في «الذکری السنویة لاستشهاد حجاج بیت الله الحرام»، أنّ الاعتذار والوعد بالتعویض عن تلك المشكلة والتعاطف مع سائر الدول الإسلامیة والتعاون معها من أجل توفیر الأمن لمراسم الحج في المستقبل لو تم، کان من شأنه أن «یغطي إلی حد ما علی عدم الكفاءة»، مشيراً إلى أنّ المملكة «أضافت إلی سجلها الأسود الصد عن سبیل الله».
وأضاف «لو کانت المشكلة الموجودة تنحصر في الحج وکارثة منی، لكان من الممكن التوصل إلی حل لرفعها، ووضعها في المسار الصحیح، لكن من المؤسف، أن هذا النظام، من خلال الجرائم التي يرتكبها في المنطقة، ودعمه للإرهاب، هو في الحقیقة یقوم بإراقة دماء المسلمین في العراق وسوریا والیمن، حیث یقوم یومیاً بقتل النساء والأطفال الیمنیین في غاراته الوحشیة».
أبرز الحوادث في تاريخ الحج
سلسلة من الحوادث المؤلمة التي شهدها موسم الحج خلال السنوات الماضية:
÷ عام 1975 ـ وفاة 200 حاج في حريق هائل في مخيمات للحجاج.
÷ عام 1979 ـ وفاة 153 حاجا بعد محاولة جماعة سلفية مسلحة الاستيلاء على المسجد الحرام.
÷ عام 1987 ـ وفاة 402 حاج على يد قوات الأمن السعودية أثناء قمع تظاهرات لحجاج رددوا شعارات إسلامية وأخرى معادية لإسرائيل.
÷ عام 1989 ـ وفاة حاج واحد وجرح 16 آخرين في انفجارين، الأول في أحد الطرق المؤدية للحرم المكي والآخر فوق الجسر المجاور للحرم المكي.
÷ عام 1990 ـ وفاة 1.426 حاجا في تدافع داخل نفق منى إلى الجنوب من مكة، بعدما توقف نظام التهوية عن العمل داخل النفق.
÷ عام 1994 ـ وفاة 270 حاجا بسبب الازدحام أثناء رمي الجمرات.
÷ عام 1997 ـ وفاة 343 شخصا بسبب حريق كبير نجم عن سخانة تعمل بالغاز في وادي منى.
÷ عام 1998 ـ وفاة 118 حاجا في حادث تدافع في منى.
÷ عام 2004 ـ وفاة 251 حاجا في حادث تدافع في منى.
÷ عام 2006 ـ وفاة 421 شخصا في حادثين مختلفين، انهيار فندق في مكة المكرمة وتدافع في منى.
÷ عام 2015 ـ وفاة 2.408 حجاج في حادث سقوط رافعة في الحرم المكي وتدافع في منى.
علي جواد الأمين
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد