الأزهر يرد على الأزهر
بقدر ما كانت فتوى الإمام العقلانية حول الفنون انقطاعاً معرفياً عن تيار التعصب والجمود، في مدى تواصله وتزايد درجات سطوته، كانت هذه الفتوى نقطة الانطلاق التي مضى منها تلامذة الإمام ومن انتسبوا إلى عقلانيته التي بنوا عليها، وأضافوا إليها بحسب سنة زمانهم المتغير. وهو ما نراه في كتابات الأخوين علي ومصطفي عبدالرزاق، وذلك في السلسلة التي تصل أمثال الشيخ شلتوت بالتيار الذي راده الإمام، ولم ينقطع، بل ظل مستمراً إلى أن وصل - في النهاية - إلى علماء دين من أمثال الدكتور أحمد الطيب الذي انتهى إلى النتيجة نفسها من منظور التصوف الذي هو حجة فيه، والدكتور محمود زقزوق الذي هو الاستمرار المتطور لعقلانية الإمام أو الدكتور عبدالمعطي بيومي الذي حمل التقاليد العقلانية بين جوانحه، مواصلاً الدفاع عنها، مؤكداً أن الإسلام دين المدنية، وأن لا كهنوت فيه، وأن مفهوم «المجتمع المدني» لا يتعارض مع الشريعة التي لا تستوجب دولة دينية بالضرورة، ولا تمنع من قيام «دولة مدنية» تعمر بالديموقراطية، وتثري بالتعدد والفصل بين السلطات، وتؤمن باحترام الديانات والعقائد في اختلافها ما بين المواطنين - وليس الرعايا - الذين يتمتع كل واحد منهم بالحقوق نفسها بلا تمييز بين ديانة الغالبية والأقلية، ما ظلت حرية الاعتقاد والتعبير والإبداع حقاً أساسياً من حقوق المواطنة في كل مجال.
صحيح أن التيار الذي يمثله أمثال هؤلاء تم تهميشه ابتداء من السبعينات، أي منذ أن أكد «الرئيس المؤمن» محمد أنور السادات شعار «الإيمان» ليعقل به معنى العلم في دولة «العلم والإيمان». وكان ذلك في سياق تحالفه المعلن وغير المعلن مع جماعات الإسلام السياسي، الأمر الذي أدى إلى تصاعد المطالبة بالدولة الدينية التي لا بد من أن تحل محل الدولة المدنية، وذلك في علاقة بعوامل داعمة، داخلية وخارجية، إلى أن انقطع التحالف بين السادات وجماعات الإسلام السياسي التي تضخمت واتسع نفوذها بدعمه، فانقلبت عليه، ولم تتردد في اغتياله، فكان وإياها أشبه بمن أدفأ ثعباناً في صدره، فانتهى الأمر بغرس الثعبان أنيابه السامة في الصدر الذي أدفأه، وكان من الطبيعي أن ينقلب التراتب في الزمن الساداتي، وأن تسود نزعات التقليد الموافقة للسياسات الساداتية والمؤيدة لها، إلى أن اغتيل السادات، وابتدأ زمن جديد أكثر انفتاحاً، وأكثر اتساعاً في هوامشه الديموقراطية، فعاود تيار العقلانية الدينية مسيرته الصاعدة، على رغم هامشيته، واحتل ممثلوه ما يليق بهم في المؤسسة الدينية التي لا يزال الجمود مسيطراً على معظمها، شأنه في ذلك شأن متعصبي الاتِّباع الذي تكاثر الناطقون باسمه من الأزهريين المعاصرين. ولذلك عندما انفجرت اعتراضات مثقفي المجتمع المدني على فتوى المفتي، علي جمعة، حول تحريم التماثيل، وجدت آراء المفتي من علماء الأزهر من يدعمها، ويدافع عنها، متضامناً مع المفتي في ما ذهب إليه، على رغم تهافت منطوق الفتوى وهشاشته، كما وجدت الفتوى من يرفضها، ويعترض عليها من العقلانيين المحدثين الذين يستبدلون الاجتهاد بالتقليد.
ولم يكن من قبيل المصادفة أن يعلن المفتي السابق على الدكتور جمعة، أعني الدكتور أحمد الطيب، ما يبدو نقيضاً لفتوى سلفه، قبل صدورها بثلاثة أعوام تقريباً. وكان ذلك في حوار أدارته معه نشوى الديب المحررة في جريدة «العربي» الناصرية في القاهرة (بتاريخ 42/3/2002) فأكد الرجل أن التماثيل ليست حراماً لأنها من الفن، والفن قيمة سامية، يمكن أن ينقلنا عن هدفه لو تحول إلى إثارة للغرائز، مفتخراً بأن جده كان فناناً عملاقاً أشبه أن يكون فيلسوفاً، وكان يصنع التماثيل. ولا يكتفي الدكتور الطيب بذلك، بل يجيب عن سؤال المحررة التي طلبت رأيه في زعم من يزعم أن التماثيل حرام، وأنه يجب إزالتها من الميادين، فيؤكد لها أن بعض العلماء قالوا ذلك، ولكن العلماء الثقات - وعلى رأسهم الشيخ بخيت المطعني والشيخ محمد عبده وكل العلماء المستنيرين والمدققين في النصوص وفي علل الأحكام - يقولون إن التماثيل لا بأس بها لأنها حُرّمت من أجل العبادة في الجاهلية، والتماثيل لا تُعبد في مصر أو غير مصر، و «أنا مع من يرون أنها ليست حراماً». وقد سار في طريق المفتي السابق، أحمد الطيب، العالم الأزهري عبدالمعطي بيومي، عضو مجلس البحوث الإسلامية وعميد كلية أصول الدين السابق، فأعلن أكثر من مرة ضرورة التمييز بين الأوثان والتماثيل: الأولى محرمة لأنها تنطوي على معنى الشرك والعبادة لغير الله، والثانية مباحة لأنها تجسيد للجمال الذي لا يخلو من قيمة خلقية أو تربوية. وقد نشر الرجل رأيه في مواجهة إعلان طالبان عن تدمير تماثيل بوذا وكل التماثيل الموجودة في متاحف أفغانستان، وذلك في مقال بالغ الدلالة بعنوان «تماثيل... لا أصنام يا طالبان» نشره في مجلة «المصور» القاهرية، في الثالث والعشرين من آذار (مارس) سنة 2001. وكان ذلك بعد فشل مهمة وفد العلماء الذي سافر إلى كابول لإقناع زعيم حركة طالبان الذي رفض أن يقابلهم، ورفض ممثلوه آراء الوفد الإسلامي الذي ترأسه الشيخ يوسف القرضاوي بحجة أنهم لم يقدموا حجة دينية تثبت بطلان هدم الأصنام، فاضطر الدكتور عبدالمعطي بيومي إلى الرد على المنطق الطالباني بمقاله الذي يكشف حكم الإسلام الأصيل في التماثيل، وذلك في نوع من المحاجة العقلانية التي تسترجع منطق الإمام محمد عبده وتضيف إليه المنطق الموازي الذي دفع مصطفى عبدالرازق - وكان شيخاً للأزهر لفترة من الوقت - إلى وصف آراء الإمام محمد عبده بأنها «دعوة بليغة إلى الفنون الجميلة لا نعرف قبل الأستاذ الإمام من جهر بها على رغم التقاليد. ولسنا ندري من يوجد اليوم في من لهم صبغة الأستاذ من يردد لهذه الدعوى صدى».
وقد نسي الشيخ مصطفى عبدالرازق أن الشيخ محمد رشيد رضا قد مضى في طريق أستاذه الإمام، وأكد ما سبق للإمام تأكيده من إباحة التماثيل التي هي فن من الفنون الجميلة التي ترتقي بالأرواح. ولم يقتصر طريق عقلانية الإمام السمحة علي محمد رشيد رضا ومصطفى عبدالرازق فحسب، فقد انضم إليهما الشيخ بخيت المطعني والشيخ شلتوت وأمثالهما.
ولكن كان ذلك كله قبل أن يتغير الزمن، وتنقلب الأحوال، وتعاود السلفية الجامدة التي اعتمدت عليها طالبان الظهور في فتاوى الأزهر التي تتابعت منذ السبعينات، عبر فتاوى أمثال الشيخ جاد الحق علي جاد الحق، والشيخ فريد واصل وغيرهما من الذين تابعهم الدكتور علي جمعة في المدار المغلق نفسه. وكان ذلك في السياق الثقافي الذي انهمرت فيه الفضائيات المتأسلمة بالعدد الكثير من الفتاوى التي ما أنزل الله بها من سلطان، والتي تضر المسلمين أكثر من أن تنفعهم. ولحسن الحظ انبرى علماء عقلانيون من طراز عبدالمعطي بيومي للكتابة عن فوضى هذه الفتاوى والتحذير من عدم الصدقية في أكثرها.
ولم يكتف الدكتور بيومي بذلك، بل أكد ما سبق أن أقره الإمام محمد عبده، مضيفاً إليه ما يؤكد أن التماثيل ليست حراماً ما دامت لا تستخدم للعبادة، وأردف ذلك بقوله إن التماثيل لا تستخدم للعبادة في هذا الزمان، وإنما لأغراض أبعد ما تكون عن العبادة بمعناها الوثني الذي انتهى مع ظهور الإسلام واستقراره.
وقد طرح الدكتور بيومي وجهة نظره، في رؤية شرعية أصولية، نشرها في مجلة «المصور» القاهرية (بتاريخ 13/3/6002). وهي رؤية تنطلق من أن علم أصول الفقه علم معياري هو بمثابة الإطار المرجعي لتأسيس مناهج استنباط الأحكام على قاعدة راسخة، لا تضل معها أنظار الفقهاء، خصوصاً أولئك الذين يأخذون أحكام الفقه منقولة عن الأئمة، منزوعة عن قواعدها التي استنبطوها في عصرهم. ومن أهم ما يهتم به هذا العلم تحقيق المناط في تقرير الأحكام، وتحديد سبب التحليل أو التحريم. وتعليل الأحكام بعللها هو أهم ما في تحقيق المناط، فالحكم يدور مع العلة وجوداً وعدماً، فإذا وجدت العلة وجد الحكم، وإذا انتفت انتفى. ولذلك يتغير الحكم من عصر إلى عصر، بل ربما يتغير الحكم الواحد في العصر الواحد بانتفاء العلة أو وجودها.
وتساعد أمور عدة في إدراك العلة التي يستنبطها العالم البصير، بالتشريع الإسلامي، وأهم هذه الأمور:
1- فهم لغة النص وإدراك معناه في زمنه.
2- معرفة سبب وروده، فمعرفة سبب نزول الآية أو سبب ورود الحديث، والسياق الواقعي الذي ربط بين النص وسببه، والملابسات بينهما، تأخذ بيد المشرِّع وعقله إلى إدراك العلة.
3- معرفة الواقع الذي يُراد تطبيق حكم النص عليه، وهل يتشابه مع سبب النزول. وعندئذ ندرك هل العلة مشتركة أو متطابقة في التحريم أو التحليل. وبعبارة أخرى، هل هي موجودة أو مشتركة بين الواقعة الأصلية والواقعة المستجدة حتى يمكن اشتراكهما في الحكم، أو يكون هناك خلاف بين الواقعتين في العلة، ومن ثم يختلف الحكم. وأخيراً: هل الأسباب التي أدّت إلى الحكم الأول باقية أو لا؟
وفي ضوء هذه القواعد المعيارية، ينتهي الدكتور عبدالمعطي بيومي من دراسة قضية الرسم والنحت إلى ما يأتي:
أولاً: معنى التصوير، كما ورد في الأحاديث النبوية، هو النقش لصور الأشياء على قماش أو جلد أو خشب أو نحاس، أو جعل صورة مجسمة (نحت) للشيء، أو الرسم والنحت بعبارة أخرى.
ثانياً: التصاوير التي ورد ذكرها في الأحاديث كانت للتماثيل المعبودة من دون الله، وكانت الأمم تصور ملوكها أحياناً أو أنبياءها حتى يعبدوا أو يصوروا ملوكهم وآلهتهم على النقود والأواني أو غيرها، ومنها تماثيل كسرى، وتماثيل اللات والعزى في الجاهلية.
ثالثاً: طبيعي - والأمر كذلك - أن القرآن، حين يتحدث عن التماثيل والأصنام، يشفع حديثه باستنكار عبادتها. أما حين يتحدث عن الأوثان فلا حاجة إلى ذكر عبادتها، بل يكفي ذكر الوثن لاستنكاره في ذاته.
رابعاً: وخلاصة ذلك أن سياق الأحاديث في واقعها قرين استئصال عبادة التماثيل وقطع دابرها من الواقع الإسلامي، لأنها تعبد من دون الله، أو لأن المصورين - أي النحاتين أو النقاشين الراسمين - كانوا ينحتون التماثيل أو يصورونها بنقشها على الأشياء: إما لبيعها للذين يعبدونها، وإما بقصد إبراز أنهم يستطيعون أن يخلقوا كخلق الله. وكل ذلك منهى عنه شرعاً، ولذلك أراد الرسول (صلى الله عليه وسلّم) أن يقطع دابر عبادة غير الله، ويقطع ادّعاء أن يخلق أحد كخلق الله. والنتيجة هي أحاديث من مثل «إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون».
خامساً: ويعني ذلك أن الرسول (صلى الله عليه وسلّم) كان على أعلى درجات الإعجاز التشريعي، حين استثنى الحالات التي يفهم منها أن التصاوير ليست للعبادة أو للادعاء بخلق كخلق الله أو الاستعمال في غير صور التعظيم، فأباحها عندما قال «ألا رقماً في ثوب» أي نقشاً على سبيل الزينة لا التعظيم، كما أباح التوسد.
وقد أفاض شرَّاح الحديث – في ما يؤكد عبدالمعطي بيومي - في ضبط الفارق بين كون الصور (التماثيل) للعبادة أو للزينة أو لمعنى الرقم في الثوب، أي زخارفه أو صوره. وبين العبادة والحلية والزينة تتشعب الأقوال، ويضع كل فقيه تصوره للفارق حتى قال البعض إن الحلية تكون لجسد بلا روح أو لجسد بلا رأس أو لمنظر طبيعي. ولكن عصرنا لا يحتاج إلى مثل هذه الضوابط التي جهد الفقهاء القدماء في تبيانها، لأن الوضوح في عصرنا في الفرق بين العبادة والزينة أو التذكار أصبح لا يحتاج إلى بيان، ومن ثم تكون الحرمة للتماثيل أو النقوش المعبودة من دون الله هي موضع التحريم في الأحاديث. أما إذا لم توجد على سبيل العبادة بأن كانت للتكريم أو الزينة أو التذكار فهي مباحة ولا تحريم لها.
ويمضي عبدالمعطي بيومي مؤكداً أن بعض الفقهاء قد يتعلل بالتحريم حتى مع هذه الشروط سداً للذرائع، ولكن لا ذرائع ما أمن اللبس، واتضحت الغاية في أذهان المصورين وأذهان المتلقين لها، أو المتمتعين بها. هكذا، ينتهي الدكتور عبدالمعطي بيومي إلى نقيض فتوى المفتي، في ضوء منهجه العقلاني الذي لا يختلف جذرياً عما انتهى إليه غيره من علماء الدين المؤيدين له، ومنهم عبدالصبور شاهين الذي أكد أن الأحاديث التي حرمت التماثيل كان يُقصد بها التي يصنعونها محاكاة لبعض الخلق، والإيهام أن لها سراً يتعلق بالعبادة. وقد كان موقف الشريعة من هذه التماثيل بتحريمها لأنها تؤدي إلى الوثنية. وكان ذلك في فترة بدائية العقل البشري، حيث كان الناس يعتقدون بعبادة هذه الصور وهذه التماثيل، وبالتالي يكفرون بوجود الله. والآن لم يعد هناك مُصوِّرون بمعنى صُناع التماثيل، وصارت كلمة مصور تدل على من يستخدم الكاميرا لالتقاط صور حقيقتها الضوء والظل، وبذلك فقد تغير الحال، وبلغ العقل الإنساني رشده باستقرار اعتقاده في وجود الله، الخالق الواحد الذي لا شريك له، وتحولت التماثيل إلى لعب أطفال، ولم تعد موضع تقديس أو عبادة. وتحتفظ بعض المنازل بشيء من هذه التماثيل كنوع من الديكور لا أكثر. والهدف لم يعد للعبادة، وإنما صار للتجميل والديكور بعد أن ابتعدت صناعة التماثيل عن المعنى الديني الذي كان في الجاهلية.
ولا يختلف ما انتهى إليه الدكتور سالم عبدالجليل، مدير عام الإرشاد الديني بوزارة الأوقاف، عن النتيجة النهائية التي أكدها عبدالصبور شاهين، ففي رأي الدكتور سالم أن الحكم الشرعي في التماثيل والصور يختلف باختلاف طبيعتها، سواء كانت مجسمة أو غير مجسمة، وباختلاف الغاية منها. فإذا كانت قد صُنعت بقصد العبادة أو التشبه بالخالق كما كان يحدث في الجاهلية فهي محرمة، أما إذا كانت مصنوعة للزينة وللتجميل فهي حلال. ولذلك لا معنى لتحريمها في الأزمنة المتأخرة لانسداد الذريعة، أي انتفاء العلة. وما له دلالة تاريخية، في هذا السياق، ترك الصحابة ما وجدوه في إيوان كسرى من الصور مع صلاتهم فيه. ويستشهد الدكتور سالم بما ذكره محمد رشيد رضا عن عدم دخول الملائكة بيتاً فيه صورة، مؤكداً أن وجود التصاوير في مكان ليس مانعاً ذاتياً لدخول الملائكة فيه، إذ لو كان الأمر كذلك لم يختلف فيه حكم شرائع الأنبياء عليهم السلام، ودين الله فيهم واحد، وإنما اختلفت فيه شرائعهم بما يختلف ضره ونفعه وفساده وصلاحه باختلاف الزمان والمكان. وما ذكره الله تعالى من منته على نبيه سليمان عليه السلام - في هذه المسألة - دليل على أن عمل التماثيل له، واتخاذه إياها في مبانيه، لم يكن فيه مظنة عبادة، ولا تشبه بالمشركين.
الطريف أن فضيلة الإمام الأكبر محمد سيد طنطاوي، شيخ الجامع الأزهر، رفض التعليق على فتوى الدكتور علي جمعة حول تحريم التماثيل، وقال: يُسأل المفتي عن فتواه، ولا علاقة لي بالأمر، وهو تنصّل لا يخلو من دلالة لافتة في ذاته.
جابر عصفور
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد