الخطـــاب القـــرآني مرجعيـــة العمـــل النهضـــوي

12-07-2009

الخطـــاب القـــرآني مرجعيـــة العمـــل النهضـــوي

لماذا الخطاب القرآني مرجعية للعمل النهضوي، عنوان لهذا العمل؟
قد لا تكون الاجابة صعبة، لما بين العرب والقرآن الكريم من روابط، الا ان الدافع الرئيسي لهذا العمل يكمن في السؤال عن اسباب نجاح الدعوة المحمدية في نقل العرب من واقع الى واقع، وهو سؤال يقتضيه تعثر العمل النهضوي المعاصر.
لم يكن الذهاب الى تحري اسباب النجاح، والوقوف عليها يتوخى تكريرها في الواقع الراهن، فان ذلك يضيع الجهود، ويتجاهل سنن التاريخ، بل ارى انه ينبغي تعرف تلك الاسباب لتشكل معرفة يؤسس عليها في اكتشاف اسباب النجاح المرجوة.
وبما ان النص القرآني الكريم قد انطوى على مرجعية سلوك الرسول العربي، في مواجهة مثالب قومه والانسانية، او في تعزيز محاسنهم، اخذت على عاتقي ان اتنخل في النص بعض مستويات الخطاب القرآني، واعمد الى التعامل معه بالوصف والتحليل ليبوح بالاسلوب الذي انطوى عليه بوصفه مرجعية سلوك رسولي.
وهنا لا اناقش الافكار النهضوية السائدة منذ قرن ونيف، فأنا لا افتقد الذكاء فيها، ولا عمق التفكير، ولا بعد الرؤية ولا نبل المقاصد، بل تحت تأثير الفشل الذريع، افتقد أسلوب العمل الدعوي الملائم لتلك الافكار والرؤى والمقاصد. وذلك أن هذه الأفكار النهضوية رأت في التجارب الناجحة غرباً وشرقاً، مرجعية للسلوك الدعوي، الأمر الذي جعلها تصطدم بالواقع العربي النفسي والثقافي والاجتماعي. ولا يعني هذا ان العرب لا يقبلون الثقافة الوافدة، بل يعني ذلك أن الأمم العريقة لها خصوصيتها الثقافية، وينبغي أن تراعي تلك الخصوصية اذ يتم الانفتاح على الآخر، ومحال أن يكون هناك تقدم نهضوي من دون تلاقح، ولكن محال ايضا ان يكون التلاقح غطاء لاغتصاب حضاري مؤسس على ما يهدد الشخصية القومية وخصوصيتها (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن اكرمكم عند الله اتقاكم ان الله عليم خبير) (القرآن الكريم، سورة الحجرات 49، 13).
اذن يأتي هذا العمل، وفي نيته تأكيد المرجعية القومية للعمل النهضوي العربي سواء كانت أفكار العمل علمانية، او اسلامية، او ماركسية، او ليبرالية، او غير ذلك، فالقرآن الكريم حاجة كل عربي في ميادين الحضارة الانسانية المعاصرة، سواء كان هذا العربي مسلما، متديناً أو غير متدين، كتابياً او ملحدا... وذلك لكونه النص الذي أحدث الانقلاب المنهجي في الحياة العربية منذ مئات السنين كما اسلفنا، ولا يزال تأثيره حتى يومنا هذا، متمثلا في لغتنا، وعاداتنا، وتقاليدنا وتعبيراتنا، وابداعاتنا وقيمنا... سواء قبلنا بهذا او لم نقبل، لا يمكننا ان ننقلب على تعثرنا في مسعانا الانقلابي اليوم، بادارة الظهر اليه بحجة تقادمه، لأن الانتكاسة بعيداً عنه، تسبب ارتدادا خطيراً يحوله الى صنم نقدس له، ويعمينا عن كونه نصاً له معنى، وله منهجه الخاص في معاينة الوقائع والحقائق، وبالتالي يجعلنا على هامش التاريخ.
قد يأتي من يقول ان القرآن الكريم كتاب الله الى الانسانية جمعاء فكيف تسمه بالمرجعية القومية؟ كونه الى الانسانية جمعاء؛ لا يتناقض مع كونه مرجعية قومية، اذ نلتفت اليه تحت تاثير سوء واقعنا القومي على جميع المستويات، وبوجه خاص، المستويات الاخلاقية. وأرى من اللازم ان يتصدى المثقف العربي لذلك السوء، بسلوك تتعاضد في تشكيله عناصر ثلاثة هي:
اولا: استيعاب الواقع الرديء استيعاباً علمياً يقف على كل مكوناته، وظواهره وتناقضاتها، رابطاً بالاستناد الى العلم والمعرفة كل ظاهرة بأسبابها الحقيقية، وشاملاً كل تداعيات الظواهر وتشابكاتها من دون استثناء او تجاهل، وملامساً كل الجذور الحقيقية لذلك الواقع السيئ، بهدف الاحاطة بها وفهمها فهماً عميقاً يتيح التخطيط والتوقع، كما يتيح استنباط السنن.
ثانياً: استيعاب تجارب الأمم الاخرى بتنوعها واختلافها، وفق المبادئ والأسس التي تتم بها معاينة الواقع واستيعابه، وكشف سننها بهدف الاستفادة من نجاحاتها واخفاقاتها، واستثمار منجزاتها في تطوير آلية التفكير والبناء. وان لا يتم رفض ما يرفض منها بدافع الكراهية والحقد، وان لا يقبل ما يقبل منها بتأثير من الشعور بالنقص.
ثالثاً: استيعاب تجارب الأمة، بعيداً عن الانجذاب الوجداني الى مباعث الاعتزاز فيها، والتغنّي بها، كي تسلم العقول من التلعثم والارتباك، إذ يتطلب الأمر تتبع الظواهر بعد تحديدها، ووصفها وصفاً علمياً وجذرياً وشاملاً، كما انه ينبغي ان تستوعب تلك التجارب الماضية وفي أنفسنا ايان راسخ بأنه لم يعد بإمكاننا تغيير اي شيء فيها، فقط يمكن ان نغيّر نظرتنا اليها، فلا يكون نقدنا لها نوعاً من المحاسبة، ولا يكون اعجابنا بها موهماً بإمكان تكريرها.
وإذا ما تعاضدت هذه العناصر الثلاثة، دون تنازل عن اي واحد منها، فإننا نستطيع ان نرصد سبيل الخلاص القومي وانبعاث الحياة فيه، من دون تبعية للماضي او الآخر، ومن دون الرضوخ لراهنية الواقع، وتاسيساً على ذلك، ارى ان الاستناد الى الخطاب القرآني، فيه شيء من الحصانة القومية الضرورية اثناء التعامل مع الماضي والحاضر والآخر، فلا يكون الماضي سيداً على سلوكنا، ولا يكون الحاضر مهيناً لكونه أقصر قامة من الماضي، ولا يكون الآخر سبباً لاتّهام قدراتنا أمام انجازاته العظيمة. فالقرآن الكريم يمثّل تلك الحصانة لكونه النص الاعلى في مكوناتنا الثقافية، الى كونه مقدساً عند اكثر العرب، يحدد علاقتهم بالكون والحياة قبل الموت وبعده، فتنتظم العادات والتقاليد والاعراف على مبعدة او مقربة منه، فهو المكوّن الاصيل لروائز العربي في التعاطي مع الجديد والمستجد، لذلك لا يمكن ان يكون القرآن الكريم قد شكّل منظومتنا الثقافية على مدى قرون متتالية، غير صالح لان نستند اليه في قراءتنا لواقعنا وامراضه، ولأفكار الآخرين ومناهجهم، ونحن في سبيلنا الى بناء امة يكون لها دورها الرسولي في بناء الحضارة الانسانية، ومن خلال ذلك، اي من خلال فهم عصري، يمكن ان يصبح العرب المتحضّرون رُسُل القرآن الى العالم.
ومن مقتضيات هذا البحث ايضاً، الاحساس بأن النص القرآني، بوصفه نصاً مرجعياً للثقافة المنتشرة، في البلاد العربية بخاصة، وفي العالم الاسلامي بعامة، ينطوي على العناصر البنيوية للمنهجية التي كانت علّة سيادة هذه الثقافة ردحاً من الزمن، الأمر الذي يدفعنا باتجاه التعامل معه بهدف الوقوف على هذه العناصر ما استطعنا؛ لعله يُستأنس بها في مسيرة العمل النهضوي العربي.
وتجدر الاشارة هنا الى امر بالغ الاهمية، اذ يحق لأحدهم ان يقول لي: ألا ترى في امتك إلا المسلمين؟ ولا تقبل الآخرين الا اذا تحوّلوا الى مرايا لا تعكس الا صورتك التي تتباهى بها، وتريد الآخرين فيها على شاكلتك؟
قد يكون ذلك السؤال مشروعاً، بل هو مشروع فعلاً، فالحال هذه بلا شك هي البيئة المثلى لنمو النفاق والتكاذب، لذا ينبغي ان يعرف المسيحي اني مسلم وأضع تصوراً لمستقبل العلاقات السلوكية النهضوية تأسيساً على كوني مسلماً، وأضعها بين يدي ابناء امتي على أنها رؤية مسلم، ولا اعتقد ان المسيحي سيكون مرتاحاً اذا زعمت له ان اختلاف الدين ليس مهماً، او اني مستعد للتنازل عن كثير من معتقداتي كي أتوافق معه؛ وهمّشتُ زوراً وبهتاناً كل الفروق والاختلافات، بل ينبغي أن أقدّم رؤيتي كما هي، لكي يعرفني كما أنا.
هل أكون قد استثنيته من عائدات هذا المشروع؟
بالطبع لست في وارد الاستثناء، ولا في وارد الضم والهضم؛ ولا ينبغي لي، بل كل ما يمكن أن أقوله يا أخي المسيحي، هذه رؤيتي التي استطعت أن أحصّلها من القرآن الكريم، فهات رؤيتك التي تحصّلها من الكتاب المقدس، من العهدين القديم والجديد، ومن أعمال الرسل، لتكون بين أيدي أبناء الأمة، نمتاح من أعماقها ما يشفي الغليل، وما تحسبه أنه القيم العُلا، فلنضعها معاً في سبيل مجتمع حضاري متميز.
ومما يدفعني ايضاً الى التعامل مع النص القرآني الكريم، ومع بعض مستويات الخطاب فيه، أننا كنا وما زلنا نرى أن الاتجاهات النهضوية العربية المختلفة، تنطوي على وعود كبيرة، وتطلعات كثيرة، ولكنها أصيبت بنكسات كبيرة، سواء كانت النكسات من تصادم هذه الاتجاهات، أو من الانشقاقات، او من الانحرافات، او من أوهام القوة... او من أوهام القوة... او من الاستهدافات العدوانية الاستعمارية؛ فهي مظاهر متعددة لمرض واحد هو التخلف، فلم يستطع العلم أن يقضي على تخلّفنا، ولا العمل الحزبي، ولا المساجد، ولا الكنائس، ولا الصحف، ولا الكتب ولا المذياع ولا التلفاز، ولا السينما ولا المعرض ولا أي شيء! فهل نحن أمة أعطت كل ما لديها ولم يعد بإمكانها شيء؟ ومصيرنا الآن مصير السيف الذي لم يعد له دور في عصر أسلحة الدمار الشامل، يعلّق على جدُر القصور علامة على عراقتها، أو يستعمل لتقطيع الحلوى في الاعراس، لماذا الآن بعد أكثر من مئة سنة على محمد عبده، وجمال الدين الافغاني، والكواكبي، وسواهم، لمّا نزل نعيش عالة على إبداعات الأمم؟ أعتقد أن هناك سراً لما نكتشفه، هو الذي يجعل العلم نافعاً والحزب نافعاً والتديّن نافعاً، وهذا الذي يجب أن ينصبّ اهتمامنا على البحث عنه، ولا أدّعي بعملي هذا أني عرفتُ هذا السر؛ ولكني أعتقد أن أحد مظاهر الخلل قائم في أسلوب الدعوة الى أفكارنا وقناعاتنا. وحتى لا أكون موارباً او مدارياً، إن كثيراً من الكذب والنفاق، يعتري سلوكنا مع السائد، نشعر أن إيمان الكثير، ليس إيماناً حقيقياً، وأشعر أن الالتزام بالمبادئ يكون لكثير من الاسباب سوى الاسباب الحقيقية.
تجاوباً مع هذه المقتضيات الموضوعية، والهواجس الشخصية، عمدتُ الى القرآن الكريم بوصفه نصاً أدبياً، أبحث في آياته التي انتخبتها لاعتبارات ذاتية وموضوعية، واصفاً ومحلّلاً، معتمداً التحليل اللغوي الذي يفترض المعنى من النحو الذي تترتّب فيه الكلمات بحسب قواعد اللغة صرفاً ونحواً، أي بمقتضى طبيعة اللغة المستخدمة، كما أن رصد الدلالة لا تكفيه معرفة القواعد الصرفية والنحوية على أهميتها؛ فالعبارة شبكة علامات مثيرة للسؤال في مقتضى استخدامها دون سواها، وبخاصة أن هذا المقتضى هو في الحياة، وفي اللغة، أي في العلاقة بين الانسان، والزمان، والمكان، واللغة، الامر الذي يقتضي التحليل الاسلوبي العلامي الذي يبدأ بتعيين الظاهرة الاسلوبية، ثم وصفها، ونقدها شرحاً وتوضيحاً وتعليلاً و... هنا لا بد من الركون الى أساليب القول العربية التي تشكّل مظهراً لرؤية المتلقي فرداً وجماعة، ومظهراً لآلية إنتاج مواقفه، فالنص لا يكون من لدن عليم خبير الا بمقتضى قدرة الجماعة اللغوية على التلقي، فالنحو نحو هذه الجماعة، وكذلك الصرف، وكذلك الاساليب، اضافة الى أن المفردات هي مفرداتها، فهي علامات صوتية او بصرية (مكتوبة) على رؤيتها الخاصة لبيئتها الطبيعة، والاجتماعية، والتاريخية، الرؤية التي تحدّد شكل علاقتها بالكون وما وراء الكون، أي شكل حاجاتها على كل المستويات والأصعدة.
لذا؛ رصدت في النص القرآني الكريم عدداً كبيراً من الآيات التي ترضي طموحي في رصد أسلوب الدعوة؛ الا أنني تعاملت مع بعضها وفق المنهج المصرّح عنه تحت عناوين هي:
- منهج الدعوة الى الله
- الدعوة الى الله
- أسلوب الدعوة الى التعامل مع الآخر.
- دعوة الأقربين
- دعوة الخصوم
- الامر والنهي
- خلق الداعية
وقد تتداخل الدعوة الى الله في الآيات الكريمة، مع الدعوة الى الدين، مع الدعوة الى التعامل مع الآخر او الذات، وهذا لكون النص القرآني الكريم نصاً محكماً، متلائماً في ترتيب بناه مع طبيعة مقاصده في المجتمعات الانسانية؛ إذ لا فصل بين الدعوة الى الله، والدعوة الى رفع الظلم، او الايمان بقيمة الانسان فوق كل قيمة في الوجود. ويأتي عملنا في التفصيل من باب التسهيل الإجرائي لتحليل النص تبعاً لقدراتنا المنهجية لا أكثر ولا أقل، فالتفصيل هذا لا يُلزم أحداً، ولا يمكن أن يكون نهائياً.

 الخطاب القرآني اسم الكتاب الصادر حديثاً عن المركز الثقافي العربي - الدار البيضاء - 2008.

سعد كموني  (استاذ الحضارة العربية والاسلامية في الجامعة اللبنانية الدولية)

المصدر: النهار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...