الفكر الديني وتحدّي العولمة وثورة الإتّصالات
لا أحد ينكر أن الفكر الديني التقليدي في مجتمعاتنا العربية والإسلامية يعاني جداً تحت تأثير ضربات قوية توجه إليه في العقود الأخيرة. فثورة الاتصالات المتمثلة في شبكة الانترنت قد خلقت فضاءً ساهم بشكل كبير في نبش التراث ومناقشته، وأهم ما يتميز به هذا الفضاء هو استقلاليته النسبية، وعدم خضوعه، وبشكل كبير لأي منع أو رقابة، سواءً من المؤسسات الرسمية أو الدينية.
إن جزءاً مهماً من تراثنا لا يحتاج إلا إلى مجرد أن (نسمع به)، أو نعرف عنه، حتى يثير ذلك فينا الكثير من (الاندهاش) أو (الاستغراب)، اندهاشٌ واستغرابٌ ناجمين عن تناقض الصورة الوردية الموجودة في أذهاننا عن التاريخ الديني والمقولات الدينية من جهة، مع تلك الحقائق الصادمة التي نستطيع معرفتها من خلال نبش ذلك التراث الديني من جهة ثانية. فأجزاء كثيرة من هذا التراث هي ما توصف بـ (المسكوت عنه)، أي الحقائق الفكرية الدينية المذكورة في كتب التراث الإسلامي لكنها تسبب إحراجاً يصعب مواجهته، مثل موضوع قراءات القرآن، وصراع الصحابة على السلطة بعد وفاة الرسول، وقضية (ملكات اليمين)، والعبودية، إضافة إلى ما يوجد في القرآن من الأخطاء النحوية والعلمية والأمور الأخرى التي تتعارض مع حقوق الإنسان والتي تزدري غير المسلمين…. وغيرها الكثير الكثير من القضايا التي أستطيع أن أذكر وأن أفصل منها العشرات، والتي يفضل رجال الدين إبقاءها طي الكتب، وعدم طرحها للنقاش لكي لا يهتز إيمان المؤمنين. بل إن الأنكى من ذلك أن رجال الدين يردون على تلك (التشكيكات) بردود وتبريرات متهافتة، غير متماسكة، وضعيفة، لا يَقبل بها ولا يَقنع بها إلا من لا يزال في قلبه إيمان شديد جداً، إيمان غير متفتح، إيمان معتمد على تنحية التفكير العقلاني، وعدم أخذ الأمور بطريقة عقلانية. بل ويقومون (أي رجال الدين) بتسمية تلك التشكيكات بـ(الشبهات) تدليلاً على أن من أخذ بهذه التشكيكات إنما هو (اشتبه) في أحقيتها، رغم بطلانها، كما يدعي رجال الدين. لكن عصر الإنترنت والاتصالات فتح كل الأبواب التي كانت مغلقة في السابق، ولم يبقِ شيئاً في الخفاء.
إن عدم معرفة شريحة واسعة من المؤمنين في السابق بهذه القضايا الإشكالية، كان سبباً في وجود الصورة الوردية المشوهة عند الكثيرين منهم عن تاريخ الدين، وعن واقعه. أما في الوقت الحالي فقد أضحى هؤلاء المؤمنون، ونحن معهم، بل والعالم كله معهم، أضحوا قادرين على النبش في التراث الإسلامي (بكبسة زر) كما يقولون.
إذا كانت شبكة المعلومات العالمية (الإنترنت) قد أحدثت صدمةً في المجتمعات التي أنجزت جزءاً مهماً من التحديث والتنوير، وعلى رأسها المجتمعات الغربية، فما بال مجتمعاتنا التي لا تزال تعيش قبل التحديث وقبل التنوير؟ لقد كان حجم الصدمة فيها لا شك أكبر. فصدمتنا كانت أسرع زمنياً، وأعمق وأكبر من حيث تأثيرها الفكري والاجتماعي. فشبكات التواصل الاجتماعي وسهولة التوصل إلى المعلومات المتعلقة بأي قضية أو قصة تتعلق بالتراث والفكر الديني، وتوافر نسبة كبيرة جداً من الكتب الدينية وغير الدينية، العربية وغير العربية، وبشكل مجاني على الشبكة العنكبوتية، هذا كله فتح مجالاً في ثقافتنا لتغيير فكري عميق في كل المجالات، كان أحدها، بل أهمها، هو مجال الفكر الديني.
أما طبقة المفكرين ورجال الدين المسلمين والعرب فلم تبق مكتوفة الأيدي أمام هذا المد الهائل والطاغي، فما يطرحه الجيل الجديد من الشباب المسلمين من تساؤلات حول أمور دينية غير مقنعة لهم، ومن إشكالات تعد بنظر هؤلاء الشباب غير متساوقة مع المنطق، وغير مقنعة، قد رتب رداً، من قبل رجال الدين، تجلى في إحدى شكلين:
فالنوع الأول من رجال الدين والمفكرين الإسلاميين هم (الأصوليون) الذين اكتفوا بالخطاب العدائي للغرب، وبالحديث عن أن من (يثير مثل هذه الأمور) في تراثنا ليس له إلا غاية سلبية، وهي محاربة هذا الدين، ومحاربة هذه الأمة، مقدمين في الوقت نفسه ردوداً ساذجة وسطحية على ما يسمونه (الشبهات في الدين)، ردود لا تقنع، كما قلنا أعلاه، إلا من يتوافر على إيمان أعمى أو شبه أعمى. وقد نسي رجال الدين أولئك أن هذه الإشكاليات قد أصبحت واضحة، وأصبحت تتبناها شريحة مهمة من شباب المسلمين، شريحة تزداد وتكبر يوماً بعد يوم، ولم تعد مقتصرة على المفكرين الغربيين من الباحثين في الشأن الديني الإسلامي.
أما النوع الثاني من رجال الدين فهم (الإصلاحيون) الذين اعترفوا، وإن بشكل متفاوت، بصحة هذه الإشكاليات في الفكر الديني، وقدموا لها مخارج تمثل بالقول بأن معظم تلك الإشكاليات يمكن النظر إليها كقضايا تخص زمان الإسلام الأول ومكانه. فالزمان والمكان اللذان نشأ فيهما الإسلام، قد طبعا النصوص الدينية، وطبعا تاريخ المسلمين وقتئِذٍ بطابعٍ نراه نحن، نحن من نعيش في القرن الحادي والعشرين، نراه بأنه مرفوض وغير منطقي، وغير صحيح. واستنتاجنا هذا، يقول رجال الدين، استنتاجنا بعدم ملاءمة جزء مهم من تعاليم الدين للوقت الحاضر، واستهجاننا لبعض السلوكيات (المرفوضة) للمسلمين الأوائل هو شيئ مفهوم، كون زماننا غير زمانهم، ومكاننا غير مكانهم. لكن ذلك لا يعني، برأي رجال الدين، لا يعني أن نتخلى عن الدين بأكمله برفضه ومحوه من حياتنا، لأنه، أي هذا الدين، يشكل جزءاً مهماً من هويتنا، بل هو هويتنا كلها. والحل برأيهم هو الأخذ بـ(القيم العامة) في الإسلام، وعدم الغرق في التفاصيل. فالدين الإسلامي ينطوي على قيم عامة، تُستنتج وتُستخلص منها معظم، إن لم يكن كل، التفاصيل الخاصة بتعاليم الدين ومقولاته وتشريعاته وأحكامه، من مثل (الرحمة) و (العدل) و (المساواة) و (رفض الظلم) و (حفظ مال الإنسان وحياته وعرضه)….إلخ، لذلك، وبحسب قولهم، فنحن نستطيع أن نُسقط من الأحكام الشرعية والإيمانية ما كان منها تفصيلاً خاصاً فرضته طبيعة عصر المؤمنين الأوائل، ونبني في الوقت نفسه تشريعات جديدة ومعاصرة تنسجم مع المبادئ العامة للدين الإسلامي، من الرحمة والعدالة والمساواة، وبهذا نكون، برأيهم، قد حافظنا على هويتنا من جهة، دون أن نجعلها تتعارض مع متطلبات حياتنا المعاصرة، ولا توقفُ عجلةَ تطورنا في هذا العالم الذي يسير بخطوات متسارعة
رغم إيماني العميق بموقف النوع الثاني الإصلاحي من رجال الدين، وتأييدي له، إلا أنه برأيي ينطوي على الكثير من الإشكاليات التي قد تواجههم، من مثل:
أولاً: من هي السلطة الدينية الإسلامية التي سيتفق كل المسلمين على إعطائها سلطة تمييز وفرز (المبادئ العامة) في الإسلام عن (الأحكام الخاصة) فيه، بحيث نبقي على الأولى، ونسقط، أو نُهمل، الثانية؟ هل هذه السلطة هي الأزهر في القاهرة، أم الحسينية في (قُم) بإيران، او النجف الأشرف، أم جامع القيروان في تونس، أم علماء الدين في دمشق، أم المغرب. وماذا عن الجاليات المسلمة في بلاد الاغتراب؟
ثانياً: هل سيرضى كل، أو حتى أغلب، المسلمين أصلاً بهكذا حل؟ أي هل سيقبلون من حيث المبدأ بحل إعادة تشكيل أحكام الدين لتتناسب مع الواقع المعاصر. إذا قَبِلَ بعض المسلمين بعملية (الغربلة) هذ، فإن قسماً مهماً منهم ستبقى متمترسة وراء شريحة رجال الدين، أصحاب (الخط الأصولي الأول) المذكور أعلاه، وهذا سيشكل برأيي التحدي الأهم.
ثالثاً: أين يمكن لتلك السلطة الدينية الإسلامية أن ترسم، داخل الفكر الديني الإسلامي، ذلك الخط الفاصل بين ما نعتبره (خاصَّاً) و ما نعتبره (عامَّاً) في الدين؟ أي كيف تميز تلك السلطة الدينية، المكلفة بهذه المهمة، بين ما هو (مبادئ عامة عابرة للزمان والمكان في الإسلام)، من جهة، وبين (تفاصيل تشريعية قديمة خاصة بالزمن القديم)، ويمكن إسقاطها وتغييرها، من جهة أخرى. فأنا مثلاً أذكر مسلماً ملتزماً بتعاليم الدين، كان ينكر وجوب الصلاة على المسلمين، وينادي بضرورة إسقاطها ك (فرض عين) عليهم، وهذا ما سيرفضه الكثيرون بلا شك. وهناك أيضاً، في نفس السياق الإصلاحي هذا، من أنكر ضرورة قطع يد السارق (الشيخ المصري محمد عبد الله نصر “الشيخ ميزو” الذي أُلقي في الحبس بسبب هذه المقولة)، وهناك من يقول بأن قانون الأحوال الشخصية الإسلامي يجب أن تعاد كتابته لتحذف منه بعض الأمور التي تسيئ، برأيهم، لحقوق المرأة. وهنا سينبري جزء من المسلمين ليرفض المساس بقانون الأحوال الشخصية الإسلامي، سيما أن بعض أحكامه مستمدة من القرآن الكريم ذاته.
والموضوع الأهم برأيي هو محاولات إعادة النظر في مفهوم الجهاد والحرب في الإسلام، ومفاهيم (دار الحرب) و(دار الصلح). ونذكر هنا المفكر السوداني (محمود محمد طه) في كتابه (الرسالة الثانية) الذي قال فيه بأن المرحلة المدنية من حياة البعثة النبوية لا تمثل الإسلام الحقيقي، فهذه المرحلة قد انطوت على بعد سياسي عسكري خاص بظروف تلك المرحلة، مما أدى إلى إغراق النصوص الإسلامية المقدسة بعبارات تدعو للفتك بالمخالفين وقتلهم، ويقترح بدلاً عن ذلك أن المرحلة المكية في الإسلام، وتعاليمها (المسالمة)، هي التي يجب أن تمثل الإسلام، فهي تمثلت في عدم استعمال العنف أو الحرب ضد الآخرين. وقد جر عليه هذا الكتاب نقداً حاداً وعِداءً كبيراً كلفه حياته في نهاية المطاف.
منذ أن حققنا، كأمة عربية وإسلامية، أول تواصل لنا مع الغرب، إبان غزو نابليون لمصر عام 1798، وصولاً حتى مشارف القرن الحادي والعشرين، كان موضوع (ضرورة تحديث النظرة الدينية) مطروحاً، وتراوحت شدته وشكله صعوداً وهبوطاً. لكن منذ أن غزانا هذا الفضاء الافتراضي في عقر دارنا، وبالتحديد منذ أواخر القرن المنصرم، أصبح تحديث الفكر الديني مطلباً أساسياً، بل ومستعجلاً. إن النتيجة التي قد تؤول إليها الأمور في خضم هذا الصراع والنقاش داخل أروقة المؤسسات الدينية في العالم الإسلامي، وداخل صفحات الفضاء الإفتراضي، ستكون مهمةً في رسم تاريخنا القادم لألفٍ من السنين. إن مجتمعاتنا على أعتاب تغيير مهم في هذا المجال، ومن الصعب التنبوء بالمسار الذي سنسير عليه.
ولا نزال نذكر جميعاً ذلك النقاش الحامي والحاد، الذي حصل في مطلع العام 2020، خلال مؤتمر تجديد الفكر الديني في مصر، بين شيخ الأزهر (أحمد الطيب) المنتمِ إلى التيار الأصولي، وبين رئيس جامعة القاهرة (محمد الخشت) المنتمي للتيار الإصلاحي. هذا النقاش الحاد والمشحون بالعواطف يدل على أن هناك بالفعل حالة انقسام حادة في مجتمعاتنا تجاه الموضوع المطروح أعلاه. لكن هذا الإنقسام غير متساويٍ في أعداد الموالين له بين طرفي الخلاف، فالأصوليون لا يزالون حتى الآن يحظون بالقسم الأكبر من الموالين.
كلمة أخيرة أقولها: إما أن نرضى بالتغيير والتحديث والتنوير، أو أن ننقرض ببطء. فالمثل يقول: {لا تكن سهلاً فتُعصَر، ولا صُلباً فتُكسَر}…..، وأنا لا أريد لأمتنا أن تُكسر…..
لؤي الرنتيسي
إضافة تعليق جديد