توصيات المؤتمر الإسلامي في الأردن تثير جدلاً بين الشخصيات الإسلامية
لم تكن توصيات مكررة أو معتادة تلك التي خرج بها المؤتمر الثاني «نحو خطاب إسلامي مدني ديمقراطي»، الذي نظّمه «مركز القدس للدراسات» في عمان بالتعاون مع «مؤسسة كونراد أيديناور»، بمشاركة عدد كبير من الشخصيات الإسلامية من قرابة عشرين دولة، بينهم ممثلون عن الحركات الإسلامية في مصر والأردن والمغرب والكويت والسعودية علاوة على عدد من المفكرين الإسلاميين من أندونيسيا وماليزيا وباكستان وكينيا واليمن ولبنان وفلسطين، علاوة على شخصيات إسلامية أردنية.
واستمرت مداولات ونقاشات المؤتمر يومي 1-2 أيلول (سبتمبر) الجاري، ونوقشت فيه أوراق عمل عدة حول «دسترة القيم السياسية الإسلامية».
ويؤكد مدير مركز القدس للدراسات، عريب الرنتاوي، أن المؤتمر سعى إلى «تحقيق أهداف رئيسة أبرزها توضيح المساحات الملتبسة أو الثقوب السود في خطاب الحركات الإسلامية المعتدلة، وبناء شبكة من «الإسلاميين المعتدلين» تضم حركات وقوى ومفكرين من مختلف الدول العربية والإسلامية ومن الجاليات الإسلامية في الغرب، بقصد إبراز صوت الإسلام المعتدل الديموقراطي، في وقت يتم التركيز في الإعلام الغربي على الصوت الإسلامي المتطرف». ويوضح الرنتاوي أن الأسماء المدعوة «تمثل اتجاهاً فكرياً وسياسياً إسلامياً مؤمناً بالديموقراطية والقيم المدنية وبضرورة الاجتهاد والتطوير».
وكان واضحاً من النقاشات خلال أعمال المؤتمر أنّ هنالك رغبة شديدة لدى أكثر المشاركين بتجاوز الأطر التقليدية وحالة الالتباس في خطاب الحركات الإسلامية تجاه قضايا عدة، وقد انعكست هذه النزعة بوضوح من خلال التوصيات الختامية التي دعت إلى دمج الحركات الإسلامية في الحياة السياسية. وأضافت التوصيات: «لقد برهنت تجربة التحول الديموقراطي في العالم العربي أن من دون النجاح في إتمام عملية دمج واستيعاب الحركات الإسلامية، فإنّ التجربة ستظل عرضة للانتكاس والتراجع».
وفي ما يتعلق بشكل الدولة، أكدت التوصيات أنّ الإسلام «لم يقرر شكلاً معيناً لنظام الحكم، وترك الأمر مفتوحاً للاجتهاد». وذكرت أنّ الدولة، في الرؤية الإسلامية، هي دولة «مدنية، محدودة الوظائف، وغير شمولية، يحكمها مدنيون وليس فقهاء أو رجال دين أو عسكريين».
وشددت التوصيات على مبدأين رئيسين، الأول أنّ الأمة هي مصدر السلطات، والثاني وجوب تداول السلطة وعدم احتكارها. وشدّدت على مبدأ «المواطنة» باعتبارها «الأساس الوحيد الناظم والمقرر لعلاقة الفرد بالدولة»، وعلى تساوي جميع المواطنين بصرف النظر عن الدين والمذهب واللون والعرق والجنس، وعلى تحفيز مشاركة المرأة في إدارة شؤون الدولة والحكم وتمتعها «بقدر المساواة بكل الحقوق والواجبات، بما فيها الولاية العامة والقضاء».
إلى هنا تبدو التوصيات متسقة مع رؤية تيار فكري وسياسي إسلامي، تقدّمت خطوات خلال السنين الأخيرة. لكن ثمة توصيات ومواقف بالفعل مثيرة للجدل، وتمثل سابقة حقيقية في خطاب مؤتمر إسلامي عام.
من أبرز التوصيات الجدلية تأييد المؤتمرين حق المرأة في تولي منصب رئاسة الدولة، وهي قضية من المعروف أنها كانت – باستمرار- موضع رفض كامل من الغالبية في الخطاب الإسلامي القديم والجديد، استناداً إلى التراث السياسي الإسلامي والقاعدة التي تقول: «ما أفلح قومٌ ولّوا أمرهم امرأة».
وأكدت التوصيات حقوق «المواطنين غير المسلمين» الكاملة في إدارة الدولة والحكم، بصفتهم «شركاء في الوطن»، وحرية الاعتقاد والرأي والتنظيم وحقوق الطوائف والمذاهب في تنظيم القوانين الخاصة بأتباعها للأحوال الشخصية. وفي هذا السياق عكست التوصيات السجالات المتعددة داخل المؤتمر التي أكدت رفض مصطلح «أهل الذمة» باعتباره مصطلحاً تاريخياً يتناسب مع مراحل سابقة، ويناقض مبدأ المواطنة والمساواة الحقيقية.
وتبدّت المفارقة الرئيسة في أنّ التوصيات دعت إلى «فصل المؤسسة الدينية عن المؤسسات المختلفة»، وإلى عدم تدخل رجال الدين والفقهاء بشؤون الحكم، ما يوحي بالقبول، ضمناً، بنمط من أنماط العلمانية، وهو ما لا يتوافق مع السائد في خطاب الحركات الإسلامية المشرقية، بخلاف خطاب حزب العدالة والتنمية التركي الذي يرى المتخصصون أنّه أقرّ حال من التزاوج بين الإسلام وبين مفهوم معين للعلمانية، وهو «العلمانية المؤمنة».
وأبرز ما يمكن استنطاقه من التوصيات هو اعتبارها «الخلافة خياراً تاريخياً» أي ليس شرعياً، وليس ملزماً، واعتبار أنّ الالتزام بالإقليم الجغرافي هو أساس المواطنة، ما يعني ضمناً الاعتراف بالدولة القطرية والتخلي عن مطلب الخلافة التي كانت الحركات الإسلامية تنادي بها دوماً، واستبدالها في نص التوصيات بأشكال التعاون والوحدة المبنية على الطوعية والمصالح المتبادلة.
وعلى رغم أنّ هذا المؤتمر حضرته شخصيات رفيعة تمثل الحركات الإسلامية في العديد من الدول العربية والإسلامية، لكن السؤال: إلى أي مدى يمكن اعتبار ما خرج به المؤتمر من نتائج معبراً عن خطوة أخرى ودرجة أكبر في تطور خطاب الحركات والفعاليات الإسلامية المختلفة؟ يجيب على هذا السؤال رحيل غرايبة، أحد المشاركين في المؤتمر ونائب الأمين العام لجبهة العمل الإسلامي في الأردن. في البداية لم يوافق غرايبة الذي لم يشارك في جلسة التوصيات، على بعض النقاط الموجودة فيها ورأى فيها تعسفاً في الفهم وإسقاط التجربة الغربية على التجربة الإسلامية.
يقول غرايبة: «من حيث العصرنة والحداثة والتطور فقد حققت الحركات الإسلامية المعتدلة تقدماً كبيراً، ونتفق مع معظم ما جاء في توصيات المؤتمر من تأسيس ودسترة قيم المواطنة وحقوق الإنسان والحريات العامة والدولة المدنية»، لكن غرايبة يتحفظ على النقاط الجدلية الرئيسة وفي مقدمها الحديث عن فصل السلطة الدينية عن السلطات العامة، ويرى أنّ هذه الصياغة تتناقض مع مفهوم الدولة في الإسلام، فالإسلام - في الأصل - لا يعترف بما يسمى «سلطة دينية»، فكيف نتحدث عن «فصلها عن السلطات الأخرى»! والمشكلة، كما يقول غرايبة، أنّ هذه الفقرة «يمكن تأويلها والتلاعب بها في سياق غير الذي تتبناه الحركات الإسلامية من تأكيد مدنية السلطة وتعاقديتها، ورفض المفاهيم الكهنوتية والثيوقراطية».
المشكلة الأخرى، والتعليق لغرايبة، هي في إسقاط الخلافة، فالدولة القطرية هي الطارئة وليس العكس، وإذا كان الإسلاميون يتعاملون مع «الدولة القطرية» باعتبارها أمراً واقعاً، فهذا لا يعني القبول النهائي بالتجزئة والقطرية، إذ لا يزال مطلب الوحدة أساسياً للحركات الإسلامية. ويستغرب غرايبة «إقحام عبارة أنّ الخلافة كانت خياراً تاريخياً» على التوصيات، متخوفاً من أن هذا قد يُفهم «تنازلاً عن الجمع بين الدين والدولة» في نظام الحكم الإسلامي.
أمّا ولاية المرأة، حتى رئاسة الدولة، فلا يرى غرايبة فيها مشكلة حقيقية، «فهي قضية خلافية فقهية، يمكن تجاوزها»، وكذلك في حقوق «المواطنين غير المسلمين» فهم «مواطنون يملكون حقوق المواطنة وواجباتها كافة». وينادي غرايبة بعدم اعتبارهم «أقليات» بل التعامل معهم «مواطنين بصفة عامة».
وفي مناقشته لتحفظات غرايبة، يرى الرنتاوي، أنّ «التوصيات عكست آراء غالبية المشاركين، ولا تُشترط بالضرورة موافقة الجميع، لكن التوصيات تُليت على المشاركين في الجلسة الختامية وأقرت، بل وعكست المزاج العام، وجميعهم من القيادات الفكرية والسياسية الإسلامية المعروفة».
ويرى الرنتاوي «أنّ تحفظ إسلاميين على النتائج التي خرج بها المؤتمر متوقع وطبيعي، فالمؤتمر قدّم موقفاً فكرياً وسياسياً ريادياً متجاوزاً الخط الأخير الذي وقفت عنده الحركات الإسلامية، ما يثير مخاوف وقلق بعضهم فيما يحاول آخرون الإمساك بخط الرجعة، على القبول بقطع هذه المسافة الجديدة».
محمد أبو رمان
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد