حوار مع صادق جلال العظم

17-10-2007

حوار مع صادق جلال العظم

يتناول هذا الحوار مع المفكّر السوري الكبير صادق جلال العظم بعض قضايا الراهن، من خلال الوقوف عند رأيه في حرب تموز 2006 ونتائجها، وكذلك في الخطاب الإسلامي (الإخواني تحديداً). كما يتطرّق إلى مآل العلاقات بين سوريا ولبنان في ظل الوضع الحالي بين الحكومتين، إضافة إلى وقوفنا ملياً عند احتمال حدوث تغيّرات جذرية في المنطقة

أتعامل بمنتهى الحذر مع النزعات الانتصارويّة العربية
التحوّلات في الخطاب الإسلامـي تكتيكيّـة وتملّقيّـة
لنبدأ من رأيك الذي أثار جدلاً والتباساً في آن، في حرب تموز 2006 التي شنتها إسرائيل على لبنان. كيف تنظر إلى تلك الحرب بعد مرور أكثر من عام على وقوعها؟
− لا شك أن حرب إسرائيل في تموز 2006 كانت على لبنان كله. لكن المعركة الحامية كانت بين حزب الله من جهة، والجيش الإسرائيلي من جهة أخرى. وما زلت أتمسك برأيي القائل في نتيجة هذه الحرب بأن حزب الله حقق انتصاراً، لكن بلا فوز وبلا ظفر. يجب ألّا ننسى هنا أن من طبيعة هذا النوع من الحروب أنه إذا لم تربح إسرائيل تكون قد انهزمت، وإذا لم يخسر حزب الله يكون قد انتصر. وعلى العموم، لا يؤثر هذا الصنف من الانتصارات في العادة على موازين القوى العامة بين الطرفين بالمعنى الاستراتيجي الأعمق للعبارة، وعلى المدى الأبعد من الزمن.
هذا ما حدث، مثلاً، في الانتصار الذي حققته المقاومة الفلسطينية عموماً، وفتح تحديداً، في معركة الكرامة في الأردن في شهر آذار سنة 1968، وما حققته بيروت اللبنانية ـ الفلسطينية المقاتلة في صيف 1982ـ أثناء حصار بيروت الشهير ـ حيث لم تتمكن القوات الإسرائيلية على مدى 90 يوماً من القتال الضاري من دخول بيروت حرباً. كان هذا قد حدث كذلك في انتصار الرئيس جمال عبد الناصر على العدوان الثلاثي على مصر سنة 1956، أي في الحرب الناجمة عن تأميم قناة السويس في ذلك العام. شيء شبيه حدث أيضاً بالنسبة إلى حرب الولايات المتحدة في فيتنام في سبعينيات القرن الماضي، فعلى الرغم من أن الولايات المتحدة انهزمت في الحرب الفيتنامية لأنها لم تربحها، وعلى الرغم من أن الفيتكونغ انتصروا في تلك الحرب لأنهم لم يخسروها، إلا أن ذلك كله لم يؤثر في موازين القوة العامة بين الطرفين وبين المعسكرين، بدليل أن الولايات المتحدة الأميركية تقدمت لتربح الحرب الباردة بأكملها بعد أقل من ربع قرن من هزيمتها المدوّية في فيتنام.
ألحق حزب الله ضربة موجعة بهيبة إسرائيل الهجومية والردعية، ومسألة الهيبة هذه مهمة جداً بالنسبة إلى دولة مثل إسرائيل، من هنا إحساسها بأن الهزيمة قد لحقت بها. في المقابل أدت الحرب إلى سد الأفق في وجه حزب الله بالنسبة إلى متابعة كفاحه ضد إسرائيل في مناطق وجوده الأهلي والعسكري في جنوب لبنان.
لست من أنصار حزب الله إيديولوجياً، ولا يمكنني أن أكون كذلك بحكم تركيبته الطائفية الصافية، وخاصة في زمن عربي أصبح فيه الدين للّه والطائفية للجميع، أما الوطن فحدّث ولا حرج. لم يكن الانتماء ـ بصورة أو أخرى ـ إلى الحركة الوطنية اللبنانية، مثلاً، ومناصرتها بتنوّعها الإيديولوجي والفكري والسياسي والديني ليشكل مشكلة بالنسبة إلي، أما اليوم فلا يمكنني أن أقول الشيء ذاته بالنسبة إلى تنظيم مثل حزب الله. ولا أعتقد أن رفع الانتصار غير المظفّر الذي حقّقه حزب الله في صيف 2006 إلى السماء السابعة ونسبته إلى آلهة السماء والأرض معاً يخدم، على المدى الأبعد، قضية الوطن الجامع وقضية المواطنة الشاملة للكلّ وقضية الدولة.
كما تجعلني عقلانيّتي أتعامل بمنتهى الحذر مع النزعات الانتصارويّة العربية، ولا سيما الرسمية وشبه الرسمية منها، لأنّ أصابعنا وأعصابنا ومعنوياتنا احترقت كلها المرّة تلو الأخرى بسببها.
وأكتفي هنا بالإشارة إلى صرخة المقاومة الفلسطينيّة عموماً و«فتح» تحديداً: «إنها لثورة حتى النصر». لذا لا أسمح لعاطفتي أبداً بأن تنساق مع هذه النزعات وديماغوجيّتها، وخاصّة أنّ التلهّف العربي كبير جداً لتلقّي أي إنجاز مهما كان نوعه أو حجمه ورفعه إلى السماء السابعة والمبالغة في تعظيمه، إرواءً لعطش مزمن أدمنّاه لانتصار حقيقي ما. ولأن الانتصاروية العربية استراتيجية وتاريخية وإلهية دوماً، وتتنبّأ بزوال إسرائيل القريب بعد كل انتصار من انتصاراتها، أقوم بحماية نفسي منها بالشك والحذر والنقد والعقلانية الزائدة، وبالعودة دائماً إلى ما أعرفه عن واقع الحال الإنتاجي والاقتصادي والسياسي والاجتماعي في بلداننا.

هل تعتقد أنّ ما بقي من هذا العام سينطوي على متغيّرات جديّة من شأنها تغيير الوضع في المنطقة؟
− الإجابة عن سؤالك تحتاج إلى بعض الخبرة بالتنجيم وقراءة الطالع، لأن الوضع السياسي العربي والدولي، وفي المشرق العربي خاصة، على درجة عالية من التوتر والغليان والسيولة، ما يجعل مسار أحداثه مفتوحاً على احتمالات كثيرة ومتنوعة ومتضاربة تمنع أياً كان من توقع وجهة تطوره. مع ذلك، أقول إني لا أتوقّع أن تطرأ تغيّرات من النوع الكبير والحاسم على الوضع في المشرق العربي خلال الأشهر الباقية من سنة 2007. إنّ أهمّ تطوّر يمكن أن يؤدي إلى تغيّرات جدية في المنطقة يتمثل في قيام الولايات المتحدة بضرب إيران عسكرياً بعد المزيد من إضعافها بتشديد إجراءات الحصار والمقاطعة وما شابه ذلك، وهذا كله يتطلب الكثير من الوقت. كما أن الإقدام على مثل هذه الخطوة يحتاج إلى إعداد وتحضير سياسي ودبلوماسي وإعلامي وقانوني ودولي على درجة عالية من الكثافة، وهذا لم يتوافر للولايات المتحدة بعد.
أما بالنسبة إلى التوتر الحالي بين سوريا وإسرائيل، فلا أتوقع أن يتجاوز مستوى تصعيده، في الأشهر الباقية من السنة الحالية، الذروة التي بلغها بعد اختراق الطائرات الإسرائيلية لحرمة الأجواء السورية يوم الخميس 6 أيلول 2007، وإن ردّت سوريا، بصورة من الصور، على الاختراق المذكور. معروف أنه يتعذر على سوريا الدخول في حرب مفتوحة مع إسرائيل وحدها، حتى لو كانت في موقع الدفاع عن النفس.
كما أعتقد بأنّ القيادة السورية ما زالت ملتزمة ما أعلنته عن أن تحقيق السلام مع إسرائيل هو خيارها الاستراتيجي من أجل استعادة هضبة الجولان المحتلة بالكامل.
أضف إلى ذلك أنّ المبادرة السعودية ـ العربية للسلام مع إسرائيل ستكون محور الاتصالات والاهتمامات العربية والدولية في الأشهر القليلة المقبلة. من ناحية ثانية، لا أرى بوادر جدية أو إشارات هامة توحي أن إسرائيل تعدّ نفسها لشن حرب شاملة على سوريا في المستقبل القريب.

كيف تتصور خاتمة العلاقات السورية ـ اللبنانية في ظل الأجواء السائدة بين الحكومتين الآن؟
− إن حالة التخبّط والخلط والارتباك والقلق والخوف التي تعصف بلبنان في الوقت الحاضر تستدعي أيضاً بعض المهارات في التنجيم وقراءة الطالع. على المدى الأبعد، أتصوّر عودة المياه إلى مجاريها بين الحكمين، وبغض النظر عن الرموز البشرية الممثلة لكل منهما في تلك اللحظة، نتيجة صفقة ما شبيهة بتلك التي تمت بين جمال عبد الناصر وفؤاد شهاب في أعقاب الميني ـ حرب أهلية التي ضربت لبنان في أواخر خمسينيات القرن الماضي. وكانت سوريا قد انحازت وقتها إلى الجانب الوطني ضد الجانب الآخر في الحرب الأهلية تلك، قبل تحوّلها إلى إقليم في الجمهورية العربية المتحدة.
بحكم التاريخ والجغرافيا سيبقى لسوريا دوماً مقدار كبير من النفوذ والتأثير في لبنان مهما حدث في البلدين ومهما تبدلت الأحوال حولهما. ويعرف اللبنانيون والسوريون ذلك بالسليقة تقريباً.
كما أن القوى الفاعلة في منطقتنا، أكانت عربية أم غير عربية أم دولية، تدرك هذه الحقيقة وتسلّم بها ضمناً، وإن لم تعترف بها صراحة لأسباب لها علاقة بالتكتيك والمصالح المرحلية. ولا بد لأية صفقة من هذا النوع من أن تنطوي على ضمانات للمحافظة على الكيان اللبناني من جهة، ولصيانة الأمن الاستراتيجي لسوريا، من جهة ثانية. كان مثل هذا الترتيب في صلب التفاهم بين عبد الناصر وفؤاد شهاب في ظل ظروف تلك الحقبة وشروطها.
أعترف بأني لا أستطيع أن أحتمل فكرة قيام علاقات دبلوماسية وتبادل سفارات بين بيروت ودمشق بأي شكل من الأشكال وأرفضها من كل قلبي. كما أتمنى بكل جوارحي أن تعود تلك الأيام الجميلة، ولكن البعيدة، التي كان فيها السفر من دمشق إلى بيروت أكثر قرباً وسهولة من السفر من دمشق إلى حمص.

قرأنا لك رأياً إيجابياً في الخطاب الإسلامي، بشكله العام. هل تعتقد بإمكان استمرار الإيجابيات في هذا الخطاب في ظل غياب تجديد المنظومة المعرفية المنتجة له؟
− هذه فرصة لتصحيح ما أعتقد أنه سوء فهم لبعض الآراء التي عبرت عنها في مقابلات صحفية أخيراً حول الموضوع المذكور.
قبل التعبير عن رأي إيجابي أو سلبي في بعض الخطابات الإسلامية الراهنة عملت على رصد ظاهرة التحول التي أخذت تطرأ على هذه الخطابات، ولا سيّما خطاب جماعة الإخوان المسلمين (وما شابهها من جماعات وتجمعات) باعتبارها وزن الثقل في الإسلام السياسي في مجتمعاتنا وتياره العريض. فعلى سبيل المثال، رصدت في هذا الخطاب المستجد تراجع دعوات إعادة الخلافة الإسلامية والتطبيق الفوري للشريعة الإسلامية (أي قانون العقوبات الإسلامي المعروف، وكأن عقوبات الأحكام العرفية وأحوال الطوارئ لا تكفينا!) وإعلانات من نوع القرآن هو دستورنا ـــــ على الطريقة الملكية السعودية الرسمية ـــــ تم السكوت عن هذا كله وأهمل في الخطاب المذكور لمصلحة الإكثار من الكلام في مقولات المواطنة والحكم المدني وحقوق الإنسان والحريات العامة واستقلال القضاء وفصل السلطات والمساواة بين الرجل والمرأة (لكن مع الكثير من التحفظات وحفظ الفوارق) والديموقراطية وتداول السلطة سلمياً أو انتخابياً إلى آخره. لربما فهم البعض من رصدي لهذا التحول وإقراري بواقعة حصوله على أنه رأي إيجابي في الخطاب الإسلامي إياه بسبب الإيجابية التي تحملها وتتمتع بها المقولات المذكورة في حياتنا العامة اليوم، ولربما أيضاً بسبب ملاحظتي أن قوى سياسية أخرى علمانية وليبيرالية ويسارية وقومية وغيرها من خارج إطار تيارات الإسلام السياسي ترحب بوجهة هذا التحول في الخطاب الإسلامي وتتابعه بدقة وتراقبه بإمعان كما ترغب في امتحان مدى جديته في الممارسة العملية وعلى المدى الأبعد.
في ما يتعلّق بي شخصياً، لا أعتقد أن التحول المذكور جدي حقاً أو عميق كثيراً أو حاسم كلياً بالنسبة إلى بنية التيارات الإسلامية في مجتمعاتنا أو بالنسبة إلى عقليتها التقليدية المسيطرة أو بالنسبة إلى حقيقة برامجها السياسية أو بالنسبة إلى طبيعتها النكوصية وإيديولوجيتها القروسطية. كما أعتقد أن هذا التحول في الخطاب المذكور يظل سطحياً ـــــ سريعاً، تكتيكياً ـــــ مؤقتاً، سياسوياً ـــــ مرحلياً، خطابياً ـــــ تطمينياً وتملقياً إلى أن يثبت العكس بشكل أو بآخر.
مع ذلك هذا لا يعفيني، كمراقب ومتابع ومفكّر، من البحث عن جواب للسؤال: لماذا اضطر الإسلاميون عموماً والإخوان تحديداً إلى إدخال هذا التغيير والتعديل على خطابهم الراهن؟

اعتبارات كثيرة تطرح نفسها، في نظري، عند محاولة الإجابة عن السؤال. هناك أولاً، إخفاق حركات الإسلام السياسي العنيف في تحقيق أي من أهدافها الرئيسية في عدد لا بأس به من البلدان العربية المركزية، ولا سيّما هدف الاستيلاء على السلطة بالديناميت والتفجير والاغتيالات والقتل العشوائي، بما في ذلك الإخفاق الكامل لتجربة حسن الترابي الإسلامية الانقلابية في السودان. هناك ثانياً، الإدراك أن صرخة «الإسلام هو الحل» وأخواتها لم تجد نفعاً في مصر ولا في سوريا ولا في الجزائر ولا في الأردن ولا حتى في العراق حيث كان مفعولها عكسياً من حيث تأجيج الاقتتال الأهلي السني ـــــ الشيعي الدموي والاعتداء بالقتل والتدمير على الأديان والطوائف والمذاهب الأخرى هناك.
كما ثبت بالتجربة أن رفع لواء الإسلام على النحو المذكور لم يؤد بالتأكيد إلى أي التفاف شعبي كبير أو حقيقي حول رافعي اللواء وحول مطلقي الصرخة بما يحميهم من خصومهم وأعدائهم.
هناك ثالثاً، الحقيقة السياسية والاجتماعية الآخذة في فرض نفسها على الجميع، وخلاصتها أن المجتمعات المتنوعة الديانات والطوائف والمذاهب والأعراق والعصبيات والإثنيات، كما هي الحال في بلدان المشرق العربي بصورة عامة، لا يمكن أن تحكم إلّا مدنياً، ولا يمكن الدولة فيها إلّا أن تكون علمانية ولو بالحدود الدنيا، لأن أي بديل ديني أو مذهبي أو طائفي أو عصبوي أو إثني يعني المزيد من القهر والقمع والتمرد والاقتتال الداخلي والعنف المسلح والحرب الأهلية.
هناك رابعاً، محاولة الإسلام السياسي العربي التقرب من الغرب مجدداً وكسب ثقته على أمل إحياء ما للحلف الوثيق الذي كان قائماً بينه وبين الغرب خلال فترة الحرب الباردة من القرن الماضي بأكملها.
هناك خامساً، الأثر السلبي البالغ الذي تركه النموذج الطالباني لمعنى الإسلام ولمعنى حكمه في بلد ما، ولمعنى تطبيقه في حياة الناس العادية واليومية في العالم المعاصر.
هناك سادساً، النموذج التركي الإيجابي الذي آل إليه الإسلام السياسي في تركيا، مع العلم أن النجاح يقلّد دائماً، مع الملاحظة أنه لولا علمانية الدولة التركية وتجربتها الحديثة والتحديثية القوية لما كان النموذج الإسلامي التركي الدستوري والانتخابي والديموقراطي الحالي ممكناً. إنه الابن الشرعي للعلمانية التركية، وللكمالية المؤسِّسة ولنجاحهما ونضجهما معاً والنجاح يقلّد دوماً، كما ذكرت.
أما بالنسبة إلى استفسارك عن المنظومة المعرفية الكامنة وراء هذا النوع من الخطاب الإسلامي فلا أعتقد أنها مرشحة لأي تجديد جدي على يد التيار الإخواني، لأن التجديد هنا يتطلب إصلاحاً جذرياً حقيقياً، وأنا ما زلت أرى أن حركة الإخوان المسلمين منذ بدايتها هي إصلاح مضاد بامتياز مع التشديد على «المضاد» في هذا الوصف، أي مضاد للانتشار الواسع الذي حققه الإصلاح الديني الإسلامي التنويري في مرحلة عصر النهضة ومضاد لإلغاء الخلافة الإسلامية سنة 1923 ومضاد للتوجهات العلمانية التي أظهرتها ثورة 1919 الوطنية في مصر. إنهم مصلحون يمشون برؤوس مندارة كلياً إلى الوراء وعيون متعلقة بالماضي السحيق.

في ما يخصّ خطاب إخوان سوريا في الخارج، وعلى الرغم مما يبدونه من مرونة في أدبياتهم، إلا أنهم يحجمون عن الاعتذار للشعب السوري أو شريحة منه. باعتقادك ما السبب في ذلك؟
− سؤالك غير واقعي وفي غير محله، إذ ليس من شيم العمل السياسي العربي الاعتذار أمام الجمهور أو الاعتذار للشعب أو الاعتذار للقاعدة الشعبية أو ما شابه ذلك. في الواقع العكس هو الصحيح، بمعنى أن من شيم العمل السياسي العربي التستر والإنكار والتبرير والمكابرة وحتى المكابرة بالمحسوس. هل سمعت يوماً بقائد عربي أو بزعيم أو بأمين عام أو بسياسي مرموق أو برئيس أو بحاكم أو بشيخ اعتذر علناً أمام رعيته أو جماعته أو قاعدته الحزبية عن شيء ما ماضياً أو حاضراً في عالمنا العربي؟

بعد حصار بيروت صيف 1982 وخروج منظمة التحرير الفلسطينية منها ومن لبنان، أذكر أني التقيت مجدداً بالقيادي الفلسطيني اليساري ياسر عبد ربه في منزل ممدوح عدوان في دمشق، وأثناء الكلام على ما جرى وما يجري من أحداث، سألت ياسر سؤالاً سياسياً ـــــ قيادياً دقيقاً ومحرجاً، فأجابني على الفور بحدة ظاهرة: «نحن دائماً على حق»، واستحال النقاش بعد ذلك. إجابة ياسر لم تكن مسألة شخصية فقط، بل كانت تعبيراً وتجسيداً في تلك اللحظة لمبدأ عام وصارم يلتزمه الجميع في العمل السياسي والقيادي العربي.
بعد الهزيمة الكبرى في حزيران 1967 استقال جمال عبد الناصر من رئاسة الجمهورية والزعامة العربية لأيام معدودات وأقرّ بمسؤوليته عن الانهيار الذي حصل، لكنه لم يعتذر قط. قائد الجيوش المصرية يومها عبد الحكيم عامر فضّل بدوره الانتحار على الاعتذار. لماذا تتوقع، إذاً، من قادة إخوان سوريا أن يسلكوا سلوكاً مختلفاً عما هو مألوف ومعروف بخاصة أنهم حزب ديني إلهي يعتقد أعضاؤه أنهم إن وفقوا في عملهم السياسي فإن التوفيق من الله، وإن أخفقوا فيه فإن الإخفاق من الله أيضاً، أما هم فما عليهم إلاّ المحاولة. عن ماذا يعتذرون إذاً؟

في المقابل عندما طلبنا نحن العرب من رأس الكنيسة الكاثوليكية الاعتذار عن الحروب الصليبية استجاب البابا السابق ولبّى الطلب أثناء زيارته الشهيرة للجامع الأموي في دمشق، واللافت أنه لم يخطر للبابا أن يطلب من المسلمين الاعتذار عن الحروب الجهادية التي شنوها على أوروبا المسيحية وأدت إلى احتلال إسبانيا أولاً وبعدها اليونان ومعظم أوروبا الشرقية من جانب الإمبراطورية العثمانية.
إن السلوك الاعتذاري الراقي الذي تطلبه يحتاج إلى مستوى رفيع من الإحساس بالمسؤولية، كما يحتاج إلى شخصية سياسية قيادية من عيار نلسون مانديلاّ، وهذا غير متوافر عندنا في الوقت الحاضر، على أقل تقدير.

أبي حسن

المصدر: الاخبار

 

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...