شهيد التصوف في الإسلام سعى الى المعرفة ومات مصلوباً
الجمل ـ سعيد زكريا : لا نبالغ في اعتبار كتاب "آلام الحلاج" واحداً من أهم الكتب في شأن التصوف الإسلامي، إن لم نقل أبرزها على الإطلاق من ناحية تعرضه المستفيض لشخصية صوفية كانت مثار جدل في زمانها والأزمنة اللاحقة. وكان أهم من كتب عن الحلاج في العصر الحديث الأستاذ لويس ماسينيون المستشرق الفرنسي المعروف، وإذا كانت الموضوعات العربية والإسلامية أخذت من حياته العلمية النصيب الأكبر، وكانت الدليل الأكبر على تبحره. فقد كان على رأس هذه الموضوعات اهتمامه بالحلاج متصوفاً وشهيداً، بحيث اعتبر عن حق المرجع الأكبر والرئيس للحلاج وعصره.
حصل ماسينيون عام 1904على دبلوم الدراسات العليا في التاريخ والجغرافيا على رسالته "لوحات جغرافية من المغرب". عام 1906 انتخب عضواً في المعهد الفرنسي لعلم الآثار الشرقية في القاهرة. 1907 ـ 1908 مهمة في العراق. باشر بحوثه ودراساته حول الحلاج في مكتبات القسطنطينية، ثم غادر إلى القاهرة للدراسة في الأزهر. عُين أستاذا في جامعة القاهرة شتاء 1912 ـ 1913وأعطى أربعين محاضرة حول تاريخ العقائد الفلسفية الإسلامية، وكان يعد لرسالة الدكتوراه حول الحلاج. عُين أستاذاً في الكوليج دو فرانس 1919 ـ 1924. خلالها في عام 1922 نوقشت رسالته حول الحلاج تحت عنوان "آلام الحلاج شهيد التصوف في الإسلام" ، وكان قد مضى ألف عام على صلبه، وهذا التاريخ من اختيار ماسينيون نفسه. وكانت الرسالة حدثاً ضخماً في تاريخ دراسة التصوف الإسلامي. بعدها وعلى مدار سنوات سيضيف على كتابه ليصبح كتاباً شاملاً عن التصوف والحلاج معاً، ويشكل دراسة محيطة بالتيارات الصوفية والكلامية والفلسفية والدينية التي أثرت ومهدت لظهور الحلاج وعاصرت حياته.
يُعد ماسينيون في مكانته العلمية على وزن نيلدكه ونلينو وجولد تسيهر، بل ويمتاز عنهم بنفوذ النظرة وعمق الاستبطان والقدرة على استنباط التيارات المستورة وراء المذاهب الظاهرة والأفكار السطحية، ومرد ذلك ـ حسب الفيلسوف والباحث المصري الدكتور عبد الرحمن بدوي ـ إلى مزاج شخصي خاص جعل من حياة ماسينيون الباطنية عامرة بأعمق المعاني الروحية، بل وكان إيغاله في الاستبطان قد أضفى روحانية عميقة على ما كان في ذهن أصحابه مجرد حرفة. وما كان ذلك إلا نتيجة اشتغاله المتواصل بفهم أسرار الصوفية، والسعي للكشف عن الباطن المجهول من الظاهر. وله الفضل في إثبات أن التصوف الإسلامي نشأ من أصول إسلامية خالصة مستمدة من القرآن الكريم وسنة رسول الله وحياته وحياة أصحابه ذوى النزعات الزاهدة، وبهذا رد على تلك الآراء المغالية الواهية التي ظهرت أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، والتي حملها نفر من مؤرخي التصوف والإسلام من المستشرقين أمثال تولك وجولد تسيهر ومكدونالد وهورتن، عندما ردوا نشأته إلى تأثيرات أجنبية كالأفلاطونية المحدثة والمذاهب الهندية.
شكل ماسينيون نقيضاً للعالم الذي يصف العادات والمعتقدات ببرودة عالم الطبيعيات، كان يتفهم ويعي العقيدة الدينية لأنه يعيشها، ولهذا وصفه الدكتور إبراهيم مدكور أستاذ الفلسفة الإسلامية في جامعة القاهرة بقوله " كان أفضل مسلم بين المسيحيين، وافضل مسيحي بين المسلمين". امتاز ماسينيون بعمق الإيمان الديني بالمعنى الأدق الأسمى الواسع الذي يضم في داخله المعاني السامية في كل الأديان ـ كتابية أو غير كتابية، سماوية أو غير سماوية، موحدة أو غير موحدة ـ مما جعله أقدر على فهم دقائق الإيمان في الأديان مجتمعة، وإن كان اختياره الرسمي قد وقع على الكاثوليكية منذ أن عاد إليه إيمانه في سن الخامسة والعشرين. كان رجل إيمان بحق، لا رجل إيمان لا علاقة له بفكره وأبحاثه. لم يكتف بدراسة الظواهر الدينية في الإسلام. بل وعمد إلى الاتصال بصورة شخصية بالمسلمين وأقام علاقات حيوية معهم، علاقات تسودها المساواة. لم يتصور ماسينيون إمكانية الدراسة بلا حب، ولولا هذه الإمكانية لما تكشفت له الثروة الروحية الكامنة في الإسلام .
يحتوي الكتاب الأول من "آلام الحلاج" على حياة الصوفي العارف بالله أبو المُغيث الحسين بن منصور المولود سنة 244هـ/858م في قرية الطور الواقعة إلى الشمال الشرقي من مدينة البيضاء في مقاطعة فارس وإلى الشمال من مدينة شيراز. انتقل الحلاج مع أسرته وهو ما زال حدثاً إلى واسط، ومن هناك انتقل إلى تستر الواقعة على ضفاف نهر كارون. قضى الحلاج الأعوام من 260هـ إلى 284هـ في خلوة مع شيوخ الصوفية (التستري، عمرو المكي، الجنيد) ثم انفصل عنهم وخرج إلى الدنيا يدعو إلى الزهد والتصوف. يرتحل الحلاج إلى مكة ويقوم بالعمرة وحجه الأول، يمارس رياضة روحية وجسدية، لا يبرح الحرم ليلاً ونهاراً، إلا للطهارة والطواف، ويبقى على رياضته هذه سنة كاملة، ثم يقصد الأهواز ويزهد في خرقة الصوفية ويرميها جانباً مبالغة منه في الارتماء بكليته بين يدي الله، ويغادر الأهواز إلى خراسان وما وراء النهرين ويستمر في مجاهداته الروحية ودعوته مدة خمس سنوات عاد بعدها إلى الأهواز لينتقل منها بأهله إلى بغداد، ويواصل فيها دعواته ومواعظه، فجمع من حوله المريدين وعظم أمره بين الناس، وأصبح له خصوم، استغلوا ما بلغه من شأو ومنزلة روحية، فتقولوا عليه الأقاويل ونسبوا إليه السحر، قصد الإساءة إليه ونفي الكرامة عنه وتشويه سمعته وإضعاف تأثيره، نفى الحلاج عن نفسه السحر ولم يدع أياً من الكرامات. ثم حج مرة ثانية وكان برفقته أربع مائة من أتباعه، ثم غادر إلى الهند وتركستان، وقصد كشمير ووصل إلى الأطراف الغربية للصين، وكان لهذه الرحلة المشرقية أثر عميق في الحلاج. ثم عاد إلى بغداد، وما لبث أن غادرها إلى مكة حاجاً للمرة الثالثة والأخيرة.
يدرس ماسينيون ما كانت عليه بغداد عاصمة العالم الإسلامي آنذاك، فيسبر إحصاءات السكان ومستوى الحياة والغذاء والأسعار، الأوزان والمقاييس والعملات، كذلك بنية بغداد الاجتماعية، التقسيمات الدينية، الزراعة والصناعة، النقليات والتجارة والمهن الحرة. السلطة الشرعية (البلاط والخدمات العامة والوظائف الوزارية) حياة الناس (أزمة الخبز، مخزونات الماليين المضاربين، القبائل الثائرة). دعوات الحلاج وخطبه العلنية في الأسواق والمجالس والجوامع. ويدرس كذلك علاقته بالدنيويين والقرامطة والزنج والإماميين والوسط الصابئي، ودخوله إلى الأوساط الشيعية، ويعرض للنهضة الثقافية في زمانه (الغنوصية الفلسفية).
في عام 296 هـ بعد عودته من مكة إلى المدينة، اتهمه المعتزلة بالشعوذة، وأخرج من الطريقة بمقتضى توقيع من الإمامية وفتوى من الظاهرية، وقبض عليه رجال الشرطة العباسيين مرتين، وأحضر أمام الوزير ابن عيسى وعذب في عام 301هـ وأمضى ثماني سنوات في سجن بغداد. وكانت رعاية أم المقتدر والحاجب نصر له سبباً في أن عاداه الوزير حامد فأمر بقتله بعد محاكمة دامت سبعة أشهر بمقتضى فتوى أقرها القاضي المالكي أبو عمر. وفي يوم الثلاثاء الرابع والعشرين من ذي القعدة عام 309 هـ جلد الحلاج، وقطعت أوصاله وشوه وصلب، ثم حز رأسه وأحرق في ساحة السجن الجديد ببغداد على الضفة اليمنى لنهر دجلة أمام باب الطاق.
فهم الحلاج التصوف على أنه سعي إلى المعرفة وجهاد ضد النفس وحرب على الظلم والاستبداد ودعوة إلى العدل وإحقاق الحق؛ وأدين لأنه كشف عن أسرار قلبه المتقد أمام العامة، ورفض الرهبنة، وحطم نظام الخفاء ليعلن الحقيقة، فأثار الأحقاد ضده، واتهمه الصوفية أصدقاؤه القدامى بالسحر، ولم يتسامح القضاة مع ادعاءاته بالاتحاد الصوفي مع الله، بإعلان عبارته المشهورة "أنا الحق والحق أنا، روحان حللنا بدنا". قلَّ بين المسلمين من ثار حوله الجدل كما ثار حول الحلاج، فالعامة وضعته موضع التقديس والولاية على الرغم من إجماع القضاة على تكفيره، فيما اختلف رأي الفقهاء حوله ولايته وتكفيره وبعضهم توقفوا عن الحكم عليه.
كتاب ماسينيون، كتابٌ زاخر بالمعلومات القيمة والمفيدة والآراء السديدة والأصيلة في نواح عديدة من الحياة الروحية والدينية والعقلية في الإسلام، وشاهد ضخم يكفي وحده لتخليد ماسينيون في عالم البحث العلمي والتاريخي.
أخيراً، ينبغي الإشارة إلى الترجمة الممتازة والنادرة فعلاً، التي قام بها الأستاذ "الحسين الحلاج" والجهد الجبار الذي بذله في العودة إلى المصادر الأصلية، ولا بد من الاعتراف بأن القليل من الكتب المترجمة إلى العربية، صادفها مثل هذا الحظ, بترجمة ارتفعت مثل هذه إلى الأصل، ولا ندري كيف نفسر مصادفة أن يترجم آلام الحلاج المصلوب سميه السوري "الحسين الحلاج" الذي كسبت فيه العربية مترجماً أشبه بمتصوف نذر علمه للحلاج الشهيد.
الكتاب: آلام الحلاج: شهيد التصوف الإسلامي.
تأليف: لويس ماسينيون.
ترجمة: الحسين مصطفى الحلاج.
قدمس للنشر والتوزيع.
الجمل
إضافة تعليق جديد