عبد الله الغذامي والشرخ السعودي
لا يُحكى عن الحداثة في المجتمع السعودي، إلا ويكون اسم عبد الله الغذامي حاضراً. هذا الأكاديمي والناقد تعرّض في بلاده لحملات شرسة، وخصوصاً في الثمانينيات، على خلفية الجدال بين الحداثيين والتقليديين في السعودية. اندلعت بسببه معارك ثقافية إقصائية بلغت حدّ تكفيره وشبح “التكفير” في السعودية ـــ كما هو معروف ـــ له عواقب أسرية واجتماعية قد تصل الى حد العزل والتهميش من قبل المؤسسة الثقافية. وبعد مرور سنوات على كتابه “حكاية الحداثة في المملكة العربية السعودية” (2002) الذي خاض فيه معركة حقيقية دفاعاً عن خياراته الطليعية في مجتمع محافظ وتيوقراطي الكلمة الأخيرة فيه للفقهاء ورجال الدين والمطاوعة. واليوم، لا يزال الغذامي عند مواقفه، وقد خفّت حدة المواجهة لكنّها موجودة، وراهنة أكثر من أي وقت مضى... ويلفت هذا الناقد السعودي إلى أن المعارك لم تتوقّف، بل تحولت وأعادت إنتاج نفسها بطرق أخرى حديثة ومعاصرة.
وصاحب “المرأة واللغة” بات قضية اجتماعية وأدبية، إلى حدّ جعل اسمه يرد أخيراً ــ كصلة محتملة بين الخيال وعالم الواقع ــ في روايات سعودية عدّة، حملت توقيع غازي القصيبي ورجاء عالم ورجاء الصانع... وكان آخرها رواية “الأوبة” لكاتبة ــ “فضائحية” في نظر بعض النقاد السعوديين ــ تحمل اسم وردة عبد الملك. (راجع تصريحات الكاتبة المذكورة في مكان آخر من الصفحة).
لكن لماذا هذه الفورة المفاجئة في الروايات السعودية؟ ولماذا تتهافت عليها دور النشر، كما لو أنها الدجاجة التي تبيض ذهباً؟ يجيب عبد الله الغذامي أنّنا دخلنا عصراً نعجز فيه عن ستر أي شيء. يقول: “يجب ألا ننسَى أن المجتمع السعودي محافظ. يرى أن أفضل علاج للعيوب هو سترها. لكن في الزمن الحالي، لم يعد الستر بيد أحد. انهارت القلعة الاجتماعية والحصانة. نحن أمام شيء سيظل يمثُل أمامنا بالكتابات السردية وغير السردية (السياسية والاقتصادية والإخبارية). لم يعد بالإمكان السيطرة على هذه النتاجات، والرواية جزء من أشكالها. كما أنه لم يعد هناك سر سياسي ولا سر ثقافي، ولا ديني ولا اجتماعي ولا شخصي. ولّى زمن الأسرار”. هكذا، يرى الغذامي أنّ دور النشر تسعى لتسويق هذه الأسرار التي يعتبر بعضهم أن سترها واجب. “الناشر يستقطب الجمهور الذي يجذبه كشف الأسرار”.
المنع ليس الحلّ
لا يرى صاحب “الخطيئة والتكفير” أنّ الحل يكمن في منع تلك الروايات الجريئة أو حتى الفضائحية، فـ“هي قادمة سواء أحببناها أم لا. شخصياً هناك بعض الأعمال التي صدرت في هذا السياق والتي أحمل لها كل ازدراء، لكن هذا لا يعني أن المنع هو الحل. بل يجب التعامل مع هذا الواقع الذي تحمله تلك الأعمال، كما نتعامل، مجازاً، مع أمراض كالإيدز والسرطان. نعترف بها. نكتشفها ونناقشها. نجعل منها قضية “حية”. ماذا ينفع أن نتكتم عنها. التكتم سيعبث بالمجتمع ويفضي إلى نهاية مؤلمة. هذا مأزق حضاري معرفي يحتاج إلى عقل وحكمة ومسيرة تربوية وأخلاقية للتعامل معه”.
الا أنّ روايات عدة مثل “بنات الرياض” و“الآخرون” و“الأوبة” أزعجت كثيرين... هل يمكن تطبيق ذلك عليها أيضاً؟ يردّ الغذامي أنّه “سيأتي ما هو أكثر إزعاجاً. وإذا كان هناك من هو منزعج من الروايات الحالية، فينبغي أن نستعد لما هو أكثر إزعاجاً. الآتي أعظم! على سبيل المثال، هناك شعور عام بأن كل الذين كتبوا تلك الأعمال، باستثناء “بنات الرياض”، اختاروا أسماءً مستعارة. هذا واحد من الأقنعة. لكن الخطر ليس من الاسم، بل من النص الماثل أمامك، حتى لو كان كاتب هذا النص هو “لا أحد”. النص يتكلم على أمور موجودة. يعتقد كثيرون أنّ نسبة تلك العيوب قليلة، لكن من الخطأ أن نسأل إذا كانت هذه الدراما أو الرواية تمثل مجتمعاً معيناً أم لا؟ ومن الخطأ القول إن المشاكل والظواهر التي يسلط الضوء عليها ذاك الأدب، نسبتها قليلة. الدراما أو الرواية تكثف المشاهد، وتجعل الأمر المركز عليه يبدو كأنه كل شيء. هذا ينطبق مثلاً على “هاملت” و “روميو وجولييت”. لا يمكنك أن تقول إن هذه الأخيرة تمثل المجتمع الإنكليزي، أو تخوض في الأمر برمته. هذا الكلام قد يفهمه من يعي السرد. لكن المشكلة أن المجتمع لا يعمل بنظرية السرد، ولا يؤمن بها ويرى أن الأدب يجب أن يقاس كما يرى”.
مأزق النص
يشير الغذامي إلى أن الأسماء المستعارة التي وقّعت الروايات السعودية تدلّ على مأزق في النص نفسه. ويوضح: “على رغم كل الحرج الذي قد يترتب على نشر تلك النصوص بأسماء حقيقية، يشير هؤلاء الكتّاب بطريقة غير مباشرة إلى أنّ النص ناقص على مستوى النسق الثقافي. يشيرون إلى أنهم ليسوا مقتنعين بأنه كامل، وليس لديهم قناعة بمقدرتهم الإبداعية والسردية، أو ربما لا يعونها، لأن الإبداع يرتبط عادةً بالجرأة. وإذا نقصت هذه الجرأة نقص الإبداع”. هنا يعطي مثالاً “بنات الرياض” لرجاء الصانع التي عدّها أول رواية سعودية فعليّة تجرؤ على المحظور. يقول: “واجهت رجاء الصانع كل شيء، حتى مستقبلها الاجتماعي. الجرأة في مواجهة المجتمع جزء مصاحب للنص والعمل الإبداعي. بالنسبة إليّ، لا أشتغل نقدياً على الروايات الموقّعة بأسماء مستعارة، لأن عنصر “رد الفعل” الذي أدرسه كناقد يغيب في هذه الحال. “رد الفعل” يهمني كي أقرأ المجتمع. وأنا أستخدم النص كي أقرأ النسق الثقافي والاجتماعي. أهتم بالنص الذي يتسبب بـ“رد الفعل” ويخترق النسق الثقافي، لكن النص الذي لا يكشف عن حفيظة اجتماعية، ولا يقوم على “عثرة” أو يخاطر بـ“عثرة” لا يخدمني. ألهذا السبب كتب الغذامي حلقات عدة في عموده اليومي في صحيفة “الرياض” عن “بنات الرياض” دون غيرها؟ يجيب بسرعة: “إن “بنات الرياض” هي “الرواية السعودية” الأولى. خرجت بعد رجاء الصانع مجموعة روايات، تشعر بقراءتها أن رجاء هي التي فتحت لها الباب. والسبب أنها الرواية السعودية الأولى التي نفذت الى قلب المجتمع بلغته الواقعية وتفكيره. رجاء الصانع دخلت إلى شريحة اجتماعية ونقلتها إلى “مدونة”. وضعت أربع بنات على ورق. نقلت عقليتهن وتصرفاتهن مثلما فعل نجيب محفوظ مع الحارة المصرية. هي لم تصنع واقعاً بل التقطت هذا كله من الواقع”.
ويستطرد الغذامي: “أنا لا أنسى الكاتبة السعودية رجاء عالم صاحبة “خاتم” و“ستر” حديثاً، لكنني لا أسمي ما تكتبه “رواية سعودية”، هي رواية “أرستقراطية” على المستوى الفكري والذهني. اشتغلت على عالم الذهنية بذكاء، وتفنّنت في اللغة. أما رجاء الصانع فأتت بالعالم الواقعي البسيط والمعقّد في آن. وأذكر رواية “العصفورية” لغازي القصيبي التي نشرت مطلع التسعينيات، لكني لا أصف كل هذه الروايات بـ “روايات سعودية” بل بالعمل الروائي الأدبي الما بعد حداثي والراقي”.
يرفض الغذامي اعتبار “بنات الرياض” رواية محافظة. بل يرى أنّها كانت محافظة على مستوى الشكل فقط، لكنها هزّت “المحافظة وقلعتها، مثل من يضربك بكتلة حرير قاسية جداً”.
على رغم هذا التوغّل العميق في المجتمع السعودي وتركيبته، ما زال أستاذ النقد يرفض أن نسميه ناقداً سعودياً. “أنا أهتم بالنسق الاجتماعي العربي. لا يمكنك أن تقول عن إدوارد سعيد مثلاً إنه مثقف أميركي أو فلسطيني. ربما هو مقروء في الهند أكثر مما هو مقروء في أميركا والعالم العربي. لا أصف نفسي ضمن النسق الثقافي بصيغة السعودي. هذه مسألة محسومة”.
غانم عبد العزيز
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد