كلمة الأب الياس زحلاوي، في البرلمان الأوروبي
إن الأزمة السورية قد أثارت، وتثير، وستثير أسئلة، في حدّها الأدنى، مزعجة.
هي، أولاً، أسئلة حول شرعية هذه الحرب الكونية على سورية.
وهي، ثانياً، أسئلة حول الرهانات، السياسية والاقتصادية، الظاهرة والخفية، من هذه الحرب.
وهي، ثالثاً، أسئلة حول النهايات المحتملة والقادمة، على الصعيدين الإقليمي والدولي، لهذه الحرب.
وقد رأيت من جهتي، أنا الكاهن العربي الكاثوليكي، سليل الجماعة المسيحية الأولى في سورية، أن أقترح عليكم، بوصفي مواطناً سورياً، ومواطناً عالمياً في آن واحد، مقاربتي الشخصية لأحد الأسـباب العميقة، الكامنة وراء المقاومة غير المتوقّعة، التي واجهت بها سورية هذه الحرب، لا سيّما وأن هـذه المقاومة بعينها هي التي جلبت لسورية، كما تعرفون، مساندة غير مشروطة من حلفاء مثـل روسـيا وإيران، كانوا يعرفون أن المصير ذاته يتهدّدهم، لو كانت سورية قد سقطت.
وطوال ما يقرب من سبع سنوات، كانت وسائل إعلامكم المهيمنة، تنهال علـيكم، لـيلاً ونهـاراً، "بيقينيّات" لا تقبل النقاش، منها أن الحرب في سورية، حرب أهلية، ومنها أيضاً أن النظام الحاكم فيها، دكتاتورية تذبح شعبها دونما عقاب.
أيها السيدات والسادة،
ألا يذكّركم كل ذلك بالسيناريوهات التي استُخدِمت من أجل تدمير العراق، وفيما بعد ليبيا؟ وكان أن اجتاحت الغرب كلّه، هبّة من النخوة، قادتها الولايات المتحدة داخل هيئة الأمم المتحـدة، وانتهت إلى إعلان الحرب على سورية، من قبل /140 / دولة ليس إلاّ، وإلى فرض حصار غير مسبوق عليها، على الصعيد العسكري والاقتصادي والمالي.
ولكن إزاء الفشل في تطبيق مبدأ التدخل الدولي "الإنساني"، الذي يعود الفضل في ابتكاره إلى السيد "برنار كوشنر"، تدفّق مئات الألوف من "الجهاديين" الإسلاميين على سورية، وقد كان تمّ اختيارهم، كما تعرفون، من قرابة مائة دولة، بعضها من أوروبا، وبعضها من أميركا، كما كان تمّ تسليحهم، وتدريبهم، وتمويلهم، وأخيراً توجيههم، بل وقيادتهم من قبل نخبة من رجال أقوى الشـبكات الاسـتخباراتية فـي العالم. وتدفّقوا إلى سورية في موجات متلاحقة، طوال سنوات وسنوات، بقصد تحقيق الديمقراطية فيها، كما قيل، والدفاع عن حقوق الإنسان!
ولقد كان رصيد هذه المغامرة البائسة، وفق تقديرات الأمم المتحدة، على الصعيد البشري الصرف:
1 - من أصل 24 مليون إنسان يقطنون في سورية، بات نصفهم بالضبط هائماً على الطرقات، داخل سورية، وعلى امتداد الأرض، وفي البحار...
2 -000.400 قتيل، بغض النظر عن أي انتماء ديني أو اجتماعي، أو عن أي عمر...
3 - مئات الألوف من المعاقين...
4 - عشرات الألوف من المفقودين...
ومع ذلك، فإن الدولة السورية قد صمدت، ورئيسها قد صمد، وجيشها قد صمد، وشعبها قد صـمد، ومؤسّساتها الحكومية، بجميع أقسامها، قد صمدت، وهيئاتها الدبلوماسـية قـد صـمدت، وصـروحها الجامعية والمدرسية، من حكومية وخاصة على حد سواء، قد صمدت، فيما جميع موظّفيهـا، العـاملين منهم والمتقاعدين، حتى من كان منهم في المناطق التي حاصرها "الجهاديون" من القاعـدة والنصـرة وداعش وأخواتها، ما يزالون حتى اليوم يتلقّون مرتّباتهم...
إزاء هذا الواقع الميداني، الذي لا يمكن إنكاره، تجرّأ أحد أفضل العارفين بالأزمة السورية، وهـو السيد "ميشل رامبو"، تجرّأ، وقال "إن كل ذلك يلامس المعجزة"...
إن كان ثمة معجزة أم لا، فلنعترف بأن مقاومة سورية هذه، غير المتوقعة، قد أثارت الكثيـر مـن التساؤلات، وخلخلت الكثير من "اليقينيّات" التي كانت تُعدّ "صحيحة سياسياً"...
باختصار، إن هذه المقاومة تقتضي دونما أي تأخير، جهوداً نزيهة في سبيل أبحاث دؤوبة وشجاعة، بعيداً عن أي حساب تافه، أو عصبية. ذلك بأنكم كلكم مدعوّون لفهم سرّ هذه التربة البشرية الصـرف، تربة سورية العميقة، التي تفسّر وحدها ما يبدو لكم مستحيل التفسير في هذه المقاومة بالذات.
أيها السيدات والسادة،
ثقوا بأن ذلك الأمر يعنيكم إلى أقصى حدّ، إذ عليه يتوقف، كما يبدو لي، مستقبل لا الغرب وحسب، بل البشرية كلّها أيضاً.
دعوني أعترف لكم، أنني لولا هذه الضرورة، لما كنتُ سمحت لنفسي بالمجيء إلى هنـا، نظـراً لارتيابي الشديد من الغرب كله، مجتمعاً وكنيسة على حدّ سواء.
وفي الحقيقة يتوجب علينا جميعاً، نحن سكان هذا الكوكب الرائع، أن نستخلص العبرة، على نحـو ملح وقاطع، قبل فوات الأوان.
وأياً كان استياؤكم أو دهشتكم من هذا التأكيد الحاسم، فإنه يتوجب عليّ، بوصفي كاهناً يعيش فـي مجتمع عربي، ذي غالبيّة مسلمة، ويعتقد أنه يعرف المسلمين وتاريخهم، معرفة جيدة، أن أقـول لكـم،
إنكم أنتم الغربيين، قد خلقتم - في وعي منكم، أو في غير وعي - خلقتم بأيديكم، على نحو تام، وفـي الغرب كله، عالَمَين مسلمَين، ليس لهما في الواقع أي علاقة بالإسلام.
إن أول هذين العالَمَين، يشتمل على التجمّعات المسلمة، التي لا تُحصى، والمنتشرة في الغرب كله، تلك التجمّعات التي استخدمتموها طوال عشرات السنين، في إنجاز الأعمال التي كان مواطنوكم يأنفون من إنجازها. والحال أن غالبيّتهم العظمى ظلّت تعيش حتى اليـوم علـى هـامش المجتمـع، داخـل مجتمعاتكم، فيما يثقلها شعور بالنقص، يُخشى أن يتحوّل فجأة إلى حقد متفجّر جارف. ولقد خبرتم حتى الآن، نماذج مقلقة من هذا الحقد.
أما ثاني هذين العالَمَين، فإنه يشمل مجموعات "الجهاديين"، التي لا حصر لها، والتي خُيّل إليكم أنه يسعكم خلقها واستخدامها في ما يدمّر "الآخرين"، فيما ظننتم أنفسكم بمنأى من أي مفاجأة مقلقـة، وقـد راهنتم فقط على ما كنتم تظنّونها شبكات دفاعية لديكم، لا تستطيع أية قوة أن تخترقها. ولكن سرعان ما خاب ظنّكم!
وقد تسألونني: فما هو إذن الإسلام؟
سيداتي، سادتي،
هنا، اسمحوا لي بدعوتكم لقراءة موضوعية لتاريخ الفتوحات الإسلامية الأولى:
دمشق عام 635
القدس عام 638
مصر عام 641
الأندلس عام 711
في جميع هذه الفتوحات دون استثناء، تفتّقت عبقرية المسلمين عن ابتكار نمط مـن العـيش مـع مسيحيّي البلدان المفتوحة، لم يعرف مثله قط أي فاتح، لا قبل ظهور الإسلام، ولا بعده. ولقد أنتج هـذا النمط الجديد من التعامل، عيشاً مشتركاً قام على تعاون حقيقي مع السكان، فـي احتـرام لكنائسـهم، وأديرتهم، ومساكنهم، وممتلكاتهم، وأعمالهم، وكل ذلك مقابل ضريبة تبيّن أنها كانـت دون مـا كـان المسيحيّون البيزنطيّون يفرضونه عليهم. ناهيكم عن أشكال الظلم والعنـف، التـي كـان البيزنطيـون "الأرثوذكس"، يمارسونها دون هوادة، بحق سكان هذه البلدان، "غير الأرثوذكس"، والذين انتهـى بهـم الأمر إلى اعتبار الفاتح العربي وغير المسيحي، بمثابة محرّر!
ولسوف ألوم نفسي، إن لم أُشِر إلى أن هذا العيش المشترك والمدهش، قد أتاح بصـورة خاصـة، لجميع سكان هذه البلدان المفتوحة من مسلمين، ومسيحيّين، ويهود على السواء، أن يعيشوا معاً، ويعملوا معاً، بل أن يتعاونوا في نطاق قمة الإدارة في الخلافة.
وخلال القرون التالية، تعمّق هذا العيش المشترك، واغتنى... بحيث كان عدد من المفكـرين العـرب المسيحيّين في القرن التاسع عشر، هم الذين أبدعوا فكرة القومية العربية، كما أن عدداً آخر قد أصبحوا في القرن العشرين، مؤسّسين وقادةً لبعض الأحزاب السياسية المؤثِّرة، في مصر وسورية ولبنان وفلسطين.
وإن هذا العيش المشترك بالذات، هو الذي يشكّل عمق النسيج القوي في المجتمع السـوري، وهـو الذي يفسر أحد الأسباب العميقة لصموده طوال قرون، على الرغم من جميع الاضطرابات التي عصفت بهذا المجتمع حتى اليوم. فليس لإعصار، بالغاً ما بلغت قوّته ومدّته، أن يقتلع غابة من العيش المشترك، قضت /1400 /سنة، تضرب جذورها في عمق أرض طيبة.
تلك هي سورية اليوم.
إن كان يخامركم، إزاء مثل هذه التأكيدات، أدنى شك، فاسمحوا لي بأن أُحـيلكم إلـى المـؤرخين اليهود، وحتى الإسرائيليّين، دون سواهم. ولن أذكر لكم منهم سوى ثلاثة، وكلّهم مؤرّخون معاصرون.
أوّلهم، وهو إسرائيلي، يدعى "آبا ايبان"، في كتاب له بعنوان "شعبي".
ثانيهم، هو الحاخام الفرنسي "جوزي آيزربرغ"، في كتاب له بعنوان "تاريخ لليهود".
وثالثهم، أميركي، يدعى "ابراهام ليون زاخار"، في كتابه الموسوعي، "تاريخ اليهود".
أجل، أيها الأصدقاء، أمام الغرب اليوم، الكثير ممّا يتوجّب عليه أن يتعلّمه حتى من الإسلام الفاتح، كي ينقذ نفسه من الإسلام الذي خلقه أولاً داخل مجتمعاته، ومن ثم على نطاق العالم.
إن التاريخ يعلّمنا أن القيمة الحقيقية لكل إنسان، ومجتمع، وشعب، ودين، تتجلّى يوم يكون في ذروة قوّته... أفيكون من المهين جداً، الاعتراف بأنّ الإسلام، يوم كان في ذروة قوته، قد نجح من خلال مؤمنيه، حيث فشلت المسيحيّة فشلاً ذريعاً من خلال مؤمنيها؟
فالغرب اليوم، كل الغرب دون استثناء، بالغاً ما بلغت قوّته، في أمسّ الحاجة إلـى إعـادة نظـره بسرعة، في سياساته كلها، داخل حدوده، وخارجها على امتداد العالم...
أجل، أقول اليوم، وليس غداً، لأن الغد يخبّئ، كما يخشى الكثيرون، كارثة كونية، تُعَدّ في غطرسة عمياء، وهي كارثة سوف تبدو إزاءها الحرب العالمية الثانية، لعبة أطفال!
دعوني في ختام كلمتي، أروِ لكم واقعة حديثة، ذات دلالة كبيرة، وقد جرت يوم 27 أيلول (سبتمبر)
من عام 2001 .
في هذا اليوم، أقيمت، لأول مرة في دمشق، أمسية مشتركة من الترانيم الدينية، أحيتها جوقة كنسية، كنت قد أسّستُها عام 1977 ، وجوقة منشدي مسجد بني أمية الشهير.
أقيمت هذه الأمسية في باحة كاتدرائية الروم الكاثوليك بدمشق. وكان الجمهور كثيفاً، وعلى رأسـه أساقفة وكهنة، وشيوخ مسلمون.
وكان بين أبرز الحضور، رجالات "الترويكا الأوروبية"، التي كان يرئسها السيد "خافيير سـولانا"، وكان أحد أعضائها وزير خارجية بلجيكا آنذاك، السيد "لوي ميشيل".
وكان برفقة الوفد الأوروبي، بعثة تلفزيونية بلجيكية، كان اسم مراسلها السيد "جوزيف مارتان".
وكانت "الترويكا" الأوروبية في عجلة من أمرها، بسبب التزاماتها الأخرى، فلم تمكث سوى عشرين دقيقة فقط. ولما همّت بمغادرة باحة الكاتدرائية، بادر السيد "جوزيف مارتان" للإدلاء بتقريـره الصحفي أمام المصور البلجيكي. وقد سمعتُه جيداً، إذ كنت واقفاً بقربه، فانغرست في ذاكرتي كلمة له، أرجو أن تستمعوا إليها جيداً. قال:
“كان على "برلوسكوني". بدل أن يشتم العالم العربي، ويحتقر الحضارة الإسلامية، أن يأتي إلى هنا، ليردم هـوّة جهله.”
سيداتي، سادتي،
شكراً.
دمشق- في 1- 12- 2017
إضافة تعليق جديد