لا تقل دمشق

16-03-2009

لا تقل دمشق

الجمل- أيهم ديب:  من روسيا مع الحب, كازابلانكا,روما مدينة مفتوحة, تاجر البندقية, نيورك نيورك, الهولندي الطائر,...
كثيرة الأعمال الفنية التي ألصقت بعنوانيها هوية أمكنة و شعوب. و مسرحية دمشق التي قدمها للجمهور السوري كاتبها الاسكوتلندي ديفيد غريغ ليست استثناء.
بمطار مغلق و مشاعر مشوشة لا تستطيع الدول أن تفتح ابوابها للزوار. و لكن هذا ما فعله ديفيد من خلال مسرحيته دمشق: فقد كتب بطاقة دعوة مفتوحة لكل من شاهد مسرحيته ليحضر الى دمشق.
ماذا كنا نعرف عن السند غير ما سمعناه من قصص السندباد البحري ؟ و كيف لنا أن نعرف سيسيليا من دون ان نفكر بمارلون براندو ؟ و لكن هل وجوه السيسيليين كلها مارلون براندو؟ و هل كلهم يتحدث بصوت مبحوح؟
إن مسرحية واحدة ليست كافية لخلق صورة نمطية عن مدينة. تتشكل الصورة النمطية عن مكان او مدينة او شعب من خلال تراكم مجموعة انتاجات تصب في خانات مكررة تعمل مع الوقت على تكريس صورة كليشيه عن هذه الفضاءات.
فمثلاً من خلال مئات الأفلام المصرية  يتكون لدينا تصور عن شخصية النشال ,  أو شخصية الرقاصة , أو ينتابنا شعور ان الكاباريه موجود على كل مفرق و ناصية .
بعض جمهور دمشق و نقادها يريدون ان يحاسبوا الكاتب على صورة لدمشق تعيش في ذاكرتهم او في كتب التاريخ. فليس غريغ وحده الذي لم يشاهد شيئاً مما يكتبه الدمشقي في دمشق بل حتى أصدقاء من المغرب و من الأردن عبروا عن دهشتهم – البريئة حتماً- من نهر بردى,  حيث علق بعضهم:  إن القصائد تشوه الواقع فبردى لا يحق له مخاطبة النيل. لأن هذه الصورة الوطنية تخلق وهماً جغرافياً محبطاً لزائر دمشق الذي توقع  أن يصيد السمك من بردى –على الأقل- إن لم يكن سيركب معدية. إن حب الوطن مسألة طبيعية و التعصب له ضرورة وجود. و لكن عدم معرفة الفرق بين الواقع و الحلم , بين الشعر و الجغرافيا و إن كان ضرورة وجودية إلا أنه حتما سيكون مشكلة في التواصل.
المشكلة أننا نريد كل شيء و دفعة واحدة. نريد ان نقراً نصاً نهائياً , ساداً مانعاً مثل الكتب السماوية و ليس أقل. و هذا ليس ممكن في الحياة بأي شكل. ليتفضل اياً باقتراح حول ما يمكن ان يتضمنه نص يتحدث عن دمشق ؟ لنفرد خارطة المدينة من حرستا الى خان الشيح و من قاسيون الى الاطفائية .
هل يجب ان نتحدث عن شام يهودية – قبل المسيخ ؟ ام عن شام مسيحية ؟ أم عن شام بني امية و هم- للتاريخ -أسرة سعودية أقامت لنفسها أمبراطورية اسلامية  عاصمتها دمشق و بالتالي فإن للليبي الحق مثل السوري بالانتساب الى أمية و الادعاء بأنه من سلالة الأمويين.  ثمة خلط غير مضر بين التاريخ و الجغرافية يخلق مناخاً سورياً خاصاً. و لكن لا يحق لنا ان نفرض على الآخرين الأخذ به  إن لم نكن نحن قادرين على كتابته بحيث يقرأه الآخر. لا يمكن ان تطلب من أحد أن يقرأ أفكارك. مازلنا نخلط الى اليوم بين المسلم و العربي و هذا يحرج أبناء البلد من المسيحيين و المتواجدين على هذه البسيطة قبل المسيح نفسه عليه السلام.نحن نتحدث عن مهندس من فارس و كأنه ولد و ترعرع في حي القنوات و عن طبيب من سمرقند و كأنه شرب العلم من نبع الفيجة.  هل يجب ان نتحدث عن دمشق تجربة سياسية يتفاوت الناس في رضاهم عنها؟ أم نتحدث عن دمشق عاصمة للثقافة ؟ هل نتحدث عن دمشق شكري القوتلي؟ أم دمشق حافظ الأسد ؟ هل نتحدث عن جراحي دمشق أم عن مهندسيها المعماريين أم عن مزارعي كفرسوسة ام عن غوطتها الغناء؟ هل نفضل الحديث عن المهاجرين ام عن مشروع دمر؟  لا أحاول التقليل أو الرفع من شأن المدينة و لكن أقول أن المدينة ليست وحدة نهائية و متجانسة  مثل قطعة جبن لها المذاق نفسه و الوصف الكيميائي نفسه في كل جزء منها و يمكن وضعها في علبة  أو علب.و المدينة بحر  من التحولات و العناصر, المتفقة و المتناقضة , بل و حتى ما قد لا يلتقي ببعضه البعض. فيحدث احياناً أننا لا نعرف من المدينة إلا جزء منها و بعض من سكانها و بعض من تاريخها. و نعتقد اننا نتحدث باسم المدينة.
العمل المسرحي الذي حضر الى دمشق في حدوده الدنيا لم يكن مفتعلاً و لا تبسيطياً و لامدعياً. و لا أحب كالعادة ان أشرح قصة المسرحية او أن تلخيصها  لأني أفترض انها قدمت للعامة و بالتالي أفضل فقط التعليق عليها. كما أن تقديم أشكال فنية مركبة من خلال القصة شيئ أكرهه. فأفضل تقديمها مثلاً على انها : بيئة ديكور داخلي يغلب عليه اللون الأصفر يحيث يقسم الفضاء ببساطة الى مساحات..... لاأفهم لماذا السينما و المسرح و حتى المعارض التشكيلية يعاد نسجها كقصص!!!
الممثلون على الخشبة كانوا فتنة حقيقية لقدرتهم على قراءة الشخص السوري – هل ثمة شخص سوري؟ هل ابن دير الزور شخص سوري و ابن أبو رمانة شخص سوري و ابن الميدان شخص سوري و ابن القصاع شخص سوري ؟؟؟؟؟- و الفلسطيني السوري هل هو سوري ؟
لنقل تجاوزاً أن الشخصيات كانت تشبه الى حد التماهي شخصيات خبرناها في بيئتنا المحلية.  يمكن الاشارة هنا الى شخصية منى .
هل هي مسرحية مع العرب او ضد  العرب ؟
 ليس دائماً هكذا يقسم الأدب . و إن كان العالم يقسم- مع  و ضد - فعندها يتم إحالة المسألة الى وزارة الدفاع , الى وزارة الخارجية, الى المكاتب الأمنية, الى قسم ادراسات و الأبحاث الى وزارة التجارة و قد تحال الى وزارة الثقافة. 
شاب في قسم الاستقبال لفندق. هل هذا تتفيه للوطن؟ هذا يعني ان القصص البوليسية تابو في بلادنا لأن القصة البوليسية تتطلب مجرمين ! و لو ان الشاب الذي يعمل في الاستقبال كان طبيباً جراحاً لكانت هذه صورة أكثر تشريفاً ؟
أو لو كان الانكليزي قدم الى سوريا ليجري لنفسه جراحة يصعب اجراؤها في لندن لكانت القصة أكثر تبيضاً لوجه الدمشقي؟  لا أعرف حتى اللحظة إن كنت يجب أن أستخدم كلمة دمشقي أم كلمة سوري !!!!!! و هذا خطر جداً...
أم أننا سنعتبرها عندئذ سخرية مبطنة أو حتى فاجرة؟
إن كنا سندخل في مباراة حول إهانة المقدسات الوطنية  في نص ديفيد غريغ فلا ندري من سيفوز:  اسكوتلاندا أم دمشق!
فزكريا الشاب يضعنا امام لحظتين ساحرتين بحق :
لحظة يقول للنزيل الغريب : من قال لك ان تحرف في ترجمة ما أريده ؟ أريد أن أمارس الجنس مع السيدتين و ليس أن أن أتعلم الانجليزية.
هذه اللحظة من الدفاع عن الكينونة و احترام الذات الخالي من الشعور بالدونية تجاه نظرة الآخر.  نعم هذه حاجة حقيقية و لا يريد الشاب إلباسها ثوب الثقافة. هل هذا دفاع عن الشخصية  من قبل ديفيد ؟؟  يكفي ان نتذكر عدد الذين يدخلون المعاهد بحثاً عن صداقات و ينتسبون الى نوادي بحثاً عن علاقات. و يتحرشون بالأجنبي بحثاً عن فرصة سفر أو جنس أو حتى فرصة عمل.
الشاب يقول للإنكليزي انه يرغب بمضاجعة السائحتين و عندما يقول لهم الانجليزي أن الشاب يرغب بتعلم الانكليزية.... تثور ثائرة الشاب. هل هذا تهجم ؟هل هذه شخصية كليشيه للشاب؟...
في المقابل عندما يبداْ الانكليزي بالكذب على زوجته إثر تعلقه بالفتاة  منى..... هل هذا شعور بالتفوق الانكليزي على العربي؟
في الحقيقة إن تحول الانكليزي الى منافق او خائن لزوجته قبيل عشية عيد الحب ليس تثبيت للتفوق الانكليزي على العربي. و القصص التي تشكل تاريخ الشخصيات العربية – السورية ؟- الدمشقية ؟ ليست تعبير عن عنف غربي بقدر ما تثير الدهشة من آليات البحث التي يمكن ان يمتلكها الكاتب الغريب ليتمكن من معرفة كل هذه التفاصيل و الخيوط التي ليست تاريخية بل و حتى كشكل في لغة الخطاب الاجتماعي و خاصة مع غياب تلفزيون سوري مترجم . فنحن نحكي نكات عن طرق الحديث المكسيكية لأننا شاهدنا مسلسلات مكسيكية و نتوقع ان الكراهية و المال و الحياة الفارهة و الغجر هم مكونات الخطاب الاجتماعي المكسيكي... طبعاً لا أقول اننا هكذا نفهم المكسيك ... و لكن من المثير قدرة المخرج و الكاتب على التقاط ليس فقط حقيقة تاريخية بل و حواملها الاجتماعية و هذا بدا شديد الفنية في خطاب منى مع وسيم او عنه.
من المضحك اننا نتحدث عن مفاهيم شديدة النسبية بيقينية مفرطة. فلو كان اسم المسرحية بيروت هل كان وطأها أهون علينا ؟ كيف و ابن طرطوس أقرب بكل طباعه و حياته الى ابن لبنان منه الى ابن الحسكة او الرقة ؟
إن كلمة سوري او كلمة دمشقي لا يمكن أن تعبر عن مجموعة واضحة بما يسمح لأي كان أن يقول انه يتحدث عن دمشق. و العكس صحيح. فليس لأحد ان يقول أن هذه ليست دمشق. فابن دوما دمشقي بقدر ابن المالكي و بقدر ابن باب توما. و يحق لبنت القصاع ان تمزح مع أصدقائها الشباب دون ان يقول إبن الميدان ان هذه ليست عادات الشام !
و السؤال هو ما هو عمر العادات و متى يتوقف المرء عن كونه دمشقياً و متى يبداً كونه دمشقياً؟  بالولادة أم بحسب تاريخ ال DNA  أم من خلال الدين ؟ و كيف تكون مدينة عاصمة لكل الدولة ثم تعلن انفصالها عن كل الدولة؟ هل ما حدث في بيروت في الأمس.. و هذه المسرحية  اليوم يضعانا أمام سؤال  هوية؟
إن المدن لم و لن تكون نهائية . و مسرحية واحدة لا تؤرخ  لمدينة ميتة فكيف بها لمدينة حية.
و يأتي انتحار الشاب الدمشقي ليثبت فكرة الجريمة التي يرتكبها الغريب عندما لا يأخذ على محمل الجدية حياة الآخرين و حاجاتهم و أحلامهم.  إن انتحار الشاب الدمشقي ليس افلاس له بل إفلاس للغرب الذي تقف حواجز مثل اللغة و الجشع و عقدة التفوق كحاجز بينه و بين الأمم مما يتسبب بالكثير من المآسي.
في إحدى مسرحيات زياد الرحباني تغني سيدة في المقهى و ينشب بين زوجها و احد الزبائن عراك لأن الزبون قال آآآه  يا مدام.
 يحق لدمشق ان تغني و لا يحق لأحد ان يقول آه إلا زوجها !!!

الجمل

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...