مقاربة ملف الأزمة السورية في مراكز الأبحاث الدولية
الجمل: تشير المعطيات الجارية إلى أن ملف أزمة الاحتجاجات السياسية السورية قد بدأ مؤخراً رحلة التحولات باتجاه الانتقال المتدرج من مرحة إشكاليات الحلول الواقعية إلى مرحلة إشكاليات الحلول المثالية، وفي هذا الخصوص يبدو العامل الافتراضي واضحاً على خلفية السؤال الحرج القائل: ملف الأزمة إلى أين؟
* المقاربة الحرجة: أين توجد بؤرة الأزمة
على أساس اعتبارات تطورات الوقائع والأحداث الجارية على مدى الثلاثة أشهر الماضية، برزت العديد من النتائج الهامة، والتي من أبرزها:
• عدم قدرة المعارضة على كسب دعم ومساندة الأغلبية الشعبية الأمر الذي أدى إلى جعل فعاليات احتجاجات المعارضة محدودة، اقتصر وجودها في الأطراف، مع الغياب الكامل في المركز الرئيسي (العاصمة دمشق) والمركز الثانوي (مدينة حلب).
• تزايد قدرة المعارضة على كسب المزيد من الروابط والعلاقات مع أطراف مثلث واشنطن ـ باريس ـ لندن، إضافة إلى النجاح في تعزيز الروابط مع محور أنقرا ـ الدوحة كداعم جديد لفعاليات المعارضة.
سعت المعارضة السورية باتجاه اعتماد كافة أنواع التصعيدات المختلفة الأنواع، وفي هذا الخصوص نشير إلى الآتي:
• نموذج التصعيد الأفقي: لم تنجح عملية نشر حركة الاحتجاجات بما يشمل كافة المناطق الجغرافية، ولا حتى مكونات الخارطة الاجتماعية ـ الدينية ـ الطائفية الداخلية، وفقط انحصرت فعاليات الاحتجاجات في أوساط شرائح معينة في ستة مناطق متفرقة (منطقة درعا الجنوبية) ـ (منطقة بانياس الساحلية) ـ (منطقة حمص الوسطى) ـ (منطقة جسر الشغور الشمالية) ـ (منطقة القامشلي الشمالية) ـ (منطقة دير الزور الشرقية). ونلاحظ أن المشاركين في الاحتجاجات لم يكونوا يشملون جميع سكان المنطقة بل شرائح محدودة التأثير.
• نموذج التصعيد الرأسي: بدأت الاحتجاجات بطرح المطالب المحلية الطابع، ثم تصاعدت باتجاه المطالب السياسية، ولاحقاً وصلت إلى مستوى استخدام السلاح الناري في عمليات الانتقام والقتل العشوائي، وتبع ذلك الارتقاء إلى مرحلة محاولة فرض السيطرة على الأرض بقوة السلاح كما حدث في منطقة جسر الشغور، والآن، لا توجد أي بوادر لاحتمالات الحصول على النجاح أو حتى تحقيق المزايا الإضافية.
• نموذج التصعيد الدائري: وهذا أسلوب يجمع بين التصعيد الأفقي والتصعيد الرأسي، مع السعي المتواتر، لجهة استدامة العملية، وبرغم ذلك، فإن انتقال الاحتجاجات من منطقة إلى أخرى، وتغيير الأساليب من نوع إلى آخر، بدأت جميعها وهي تقف أمام نقطة الانطلاق الصلبة.
وبكلمات أخرى، فإن سيناريو الاحتجاجات السياسية الذي حدث في تونس وفي مصر، والدائر حالياً في اليمن وفي البحرين، هو سيناريو لم يتحقق في سوريا، إضافة إلى أن ما حدث خلال الثلاثة أشهر الماضية يشير بوضوح إلى أنه من الصعب إن لم يكن من المستحيل تحقيقه، وذلك لسبب بسيط، مفاده: يوجد عزوف شعبي كبير عن المشاركة في دعم الاحتجاجات الجارية بشكلها الحالي، وهذا العزوف يعود بقدر كبير إلى العديد من العوامل والتي من أبرزها: ارتباط المعارضة بالأطراف الأجنبية التي لا يمكن وصفها بأنها خصم دمشق وحسب، بل هي خصم سوريا والسوريين، فالجميع في سوريا يعرف أن محور واشنطن ـ باريس ـ لندن هو المحور الداعم ليس لإسرائيل وحسب. بل وكل مصائب الشرق الأوسط.
* الإدراك الأمريكي ـ الإسرائيلي ـ الغربي الأوروبي: ماذا يظهر وماذا يخفي
شهدت مراكز الدراسات السياسية والاستراتيجية الأمريكية والإسرائيلية والغربية الأوروبية سيلاً مكثفاً من الأوراق البحثية والتحليلات السياسية التي حاولت فهم وإدراك طبيعة وخصوصية ملف الاحتجاجات السورية، وفي هذا الخصوص نشير إلى الآتي:
• جميع التحليلات والأوراق البحثية ركزت على تأثير التطورات الجارية في سوريا على ملف أمن واستقرار إسرائيل. وليس على أمن واستقرار سوريا والسوريين.
• جميع التحليلات والأوراق البحثية، غضت النظر عن ظاهرة عزوف الرأي العام السوري الداخلي عن دعم هذه الاحتجاجات، وركزت بدلاً عن ذلك على الدفع باتجاه قيام محور واشنطن ـ لندن ـ باريس بانتهاج المزيد من الإجراءات التدخلية بما يشمل من جهة تقديم الدعم للمعارضة السورية الخارجية، ومن الجهة الأخرى في نفس الوقت تشديد الضغوط والعقوبات ضد دمشق.
• جميع التحليلات والأوراق البحثية، ركزت على حث إسرائيل على ضرورة عدم الظهور في الواجهة، وذلك بما يتيح إخفاء الحقيقة القائلة بأن تل أبيب سوف تكون هي المستفيد الرئيسي من سيادة حالة الفوضى والاضطرابات في سوريا.
وتأسيساً على ذلك نشير إلى أبرز المقاربات التي سعت كبرى مراكز الدراسات والدوريات السياسية العالمية الرئيسية إلى نشرها والترويج لها:
• مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي: خصص صباح اليوم على موقعه الالكتروني صفحة كاملة ركزت على إعادة نشر العديد من المقالات والتحليلات السابقة التي أعدها بعض رموز جماعة المحافظين الجدد، مع نشر تحليل أعده اليهودي الأمريكي والمحلل السياسي ديبورا جيرومي، وطالب فيه بضرورة قيام المجتمع الدولي بـ"التدخل في سوريا".
• معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى: برغم أنه يتبع لجماعات اللوبي الإسرائيلي، فقد ظل لبعض الوقت أكثر تجاهلاً لتطورات الحدث السوري، ولكنه، أعاد بالأمس نشر التحليل الذي أعده اليهودي الأمريكي وخبير شؤون سوريا ولبنان بالمعهد ديفيد شينكر، والذي ركز على التأكيد القائل، بأن أنقرا ظلت طوال الأعوام الماضية تعرقل جهود محور واشنطن ـ باريس ـ لندن الرامية إلى الضغط على دمشق وعزلها دبلوماسياً. ولكن، على خلفية موقف أنقرا الأخير فإن هناك فرصة جديدة لجهة قيام محور واشنطن ـ باريس ـ لندن بالعمل لجهة استهداف دمشق، وفي نفس الوقت دعم أنقرا بما يتيح إبعادها بالكامل عن دمشق، بما يقطع أي احتمالات لعودة العلاقات السورية التركية لحالة التعاون المتبادل السابق.
• مؤسسة بروكينغز الأمريكية: تفادت مؤسسة بروكينغز نشر أي أوراق بحثية أو دراسات حول الحدث السوري، واكتفت قبل بضعة أسابيع بنشر بعض وجهات النظر المعادية لسوريا والتي ظل يكتبها أحد الباحثين اللبنانيين المرتبطين بقوى 14 آذار اللبنانية. وبرغم ذلك فما هو مثير للاهتمام تمثل في قيام كبار الباحثين بمؤسسة بروكينغز بنشر أوراقهم البحثية حول الحدث السوري في الوسائط الإعلامية الأخرى، ومؤخراً كتب الخبير الرفيع المستوى بمؤسسة بروكينغز بروس ريدل، تحليلات حول الحدث السوري، نشره موقع ديلي بيست الأمريكي الشهير، وبرغم معاداة بروس ريدل المعروفة لدمشق، فقد تحدث في تحليله بشكل صريح مشيراً إلى أن رهان المعارضة السورية لجهة كسب الرأي العام الداخلي قد انتهى، وتبقى لها الرهان على التصعيد بما يمكن أن يؤدي إلى حدوث انقسام داخل المؤسسة العسكرية ـ الأمنية السورية، وبرغم انتماء الخبير بروس ريدل إلى جماعة المحافظين الجدد الناشطين في أوساط الحزب الديموقراطي، فقد تحدث في تحليله بموضوعية أكثر قائلاً بأن أي انقسام داخل المؤسسة العسكرية ـ الأمنية السورية يكون على أساس خطوط الانقسام الطائفي الديني، سوف لن يؤدي إلى تحقيق الاستقرار أو إلى تحقيق أهداف المعارضة، وإنما إلى حرب أهلية دامية سوف تطحن الأخضر واليابس، ولن تكون سوى نتيجة واحدة هي خاسر ـ خاسر، وبالتالي دمار سوريا.
تأسيساً على الأوراق البحثية، والتحليلات السياسية الجارية المتداولة مساء الأمس وصباح اليوم بواسطة مراكز الدراسات الاستراتيجية وكبريات صحف العالم، يمكن الإشارة إل تزايد التباينات والمواقف التي سعت وجهات نظر خبراء الشؤون الدولية والشرق أوسطية إلى اعتمادها إزاء ملف الاحتجاجات السورية، فمن جهة برزت وجهات النظر الأكثر تطرفاً والتي سعت إلى اتهام مثلث واشنطن ـ باريس ـ لندن بالتقصير، إضافة إلى المطالبة بضرورة تكثيف الضغوط على روسيا لكي ترضخ للتوجهات الأمريكية والأوروبية الغربية لجهة استهداف دمشق عن طريق تدويل الملف السوري بواسطة مجلس الأمن الدولي، ومن الجهة الأخرى برزت وجهات نظر العدد الأكبر من الخبراء مشيرة إلى أن ملف الاحتجاجات السورية، سوف لن يحقق النتائج التي يمكن أن تكون على غرار ما حققته الاحتجاجات التونسية والمصرية، وذلك بسبب صغر حجم ومحدودية الاحتجاجات السورية. ولكن ما كان مثيراً للاهتمام هو موقف خبير الشؤون السورية والشرق أوسطية الشهير جوشوا لانديز، البروفسور بجامعة أوكلاهوما ومحرر موقع سوريا كومينت الالكتروني، لجهة التشكيك في مصداقية الحدث السوري، بطريقة تنطوي على الكثير من الخبث، فمن خلال مناقشته الاستهلالية التي حملت عنوان (ما الذي حدث في منطقة جسر الشغور) كتب البروفسور جوشوا لانديز قائلاً: لقد أشارت دمشق إلى أن المسلحين هم الذين قاموا باحتلال المنطقة وقتل السكان وحرق المزارع والمحصول وقتل رجال الأمن ودفنهم في القبور الجماعية. ولكن النازحين الذين لجأوا إلى تركيا تحدثوا بطريقة مختلفة قائلين بأن دمشق هي التي قامت بقتل جنودها ودفنهم في القبور الجماعية وحرق المحصول، وأعقب البروفسور جوشوا لانديز ذلك متسائلاً "من نصدق؟"، وعلى ما يبدو فإن مشكلة تحليا البروفسور جوشوا لانديز تتمثل في مدى قدرته الفعلية على ترتيب الأولويات. فهل من المعقول أن تسعى دمشق إلى استهداف منطقة جسر الشغور، قبل أن يأتي إليها المسلحون، إضافة إلى أنه ما الذي كان يتوقعه البروفسور جوشوا لانديز من مجموعات التركمان التي نزحت إلى تركيا أن يقولوه كمبرر لنزوحهم؟ بخلاف ذلك. وبكلمات أخرى، من المستحيل أن يقولوا للسلطات التركية بأنهم اضطروا للنزوح لأن المسلحين الذين قدموا من داخل الحدود التركية هم السبب الرئيسي الذي دفعهم للخروج والنزوح .
الجمل ـ قسم الدراسات والترجمة
التعليقات
الفساد
إضافة تعليق جديد