هويّة وطنية “مكبوسة” داخل قطرميز
حين أدرك أوائل السوريين الذين غادروا البلاد أنهم لن يعودوا قريباً، وأن الحرب لن تنتهي بأسابيع كما وعدهم المحللون على الفضائيات، بدأت طيور الشوق تمدّ برأسها على صفحات الفيسبوك ـ وهذا حصل في خريف 2012 ـ وفي موجة حنينهم الأولى لم يشتاقوا للفرات أو البزورية، كانوا مشتاقين لشيء واحد، شعب بكامله يفتقده ويبكيه، شعب وجد بديلاً لكل شيء إلاه، في تلك الأيام العصيبة كان للحنين معنى واحد: المكدوس.
أربع عناصر رئيسية (الباذنجان، الفلفل الأحمر، الجوز، زيت الزيتون) وعنصران ثانويان (الملح والثوم)، جمعت معاً بطريقة وتقنية تمثل تعبيراً شديد الكثافة عن الخصوصية السورية، تصنع على مهل، لكنها سميت على عجل، فمنتج بهذه الفرادة لا يحتاج لجهد اختيار اسم مميز، ويكفي استنتاج لقبه من طريقة توضيبه.
وصلت كاتبة سورية مقيمة في دبي إلى أقصى الشوق المنسجم مع اللغة السورية في ذاك الوقت: “مستعدة ان أقتل رجلاً لقاء مكدوستين، وطفلاً من أجل قطرميز”
كاتبة سورية أخرى مقيمة في القاهرة كانت أكثر ايجابية، فبدلاً من أن تلعن الظلام نزلت (برفقة أمها وأختها) لمواجهة الواقع وإشعال شمعة، وصلن لسوق الرحاب وبدأن بالاستفسار عن أنواع الباذنجان، وسألن عن وجود باذنجان صعيدي، لاعتقادهن أنه سيكون الأنسب، تبين أن لا باذنجان بهذا الاسم، وأن الربط بين الصعيدي والحمصي يصح في النكات فقط ولا يصح في الخضار، فاضطررن لاستخدام الحواس الأصلية من نظر وشم ولمس وتذوق، واشترين ما تيسّر، وفي مهمة استكمال المواد لجأن للسوبر ماركت المجاور لبيتهم لشراء الجوز (يسميه المصريون عين الجمل وهو مادة يعادل سعرها ضعف سعر الكاجو والصنوبر هناك)، تبين أن لدى هذا الجار أربعة أكياس من الجوز، وزن كل واحد منها 50 غراماً، طلبت منه أن يحضر لها صندوقاً، او ما يعادل كيلوغرامين، صعق الرجل وسأل بتهذيب: “عدم المؤاخذة، كل ده حتعملوا بيه ايه؟” أخبرته أنهم سيصنعون المكدوس، وأمام استفساراته ، شرحت له عن تلك الاكلة (التي اسمتها شعبية)، بهت الرجل المنتشي آنذاك بنجاح ثورة يوليو: “السوريين كلهم بيعملوا كده؟” قالت له طبعاً، ضرب كفاً بكف وصرخ بوجهها: “بتحطو عين الجمل بالبيتنجان؟ جايين تعملوا عندنا إيه؟”
ما من أحد يعرف على وجه الدقة (أو التقريب أو أي وجه آخر) متى ومن وكيف اهتدى أول سوري في التاريخ إلى خلق هذا المزيج الفريد، المصادر النادرة التي تحدثت عن الموضوع قالت أن أصله يرجع إلى حلب، وبالطبع لم تحدد أي حلب تقصد، وفي أي زمن حدث ذلك، فمن بين المستحاثاة التي جمعت من هذه البلاد لم تظهر مكدوسة واحدة، وفي كل الكهوف والمقابر لم يعثر أحد على “تقّالة” مكدوس، والأغلب أن نسبته لحلب تعود لسببين: اهتمام الحلبيين الاستثنائي بالطعام، ولكون حلب أقدم مدن سورية (والعالم)، فلا بد لشأن عظيم كهذا أن ينتسب لمدينة لا يقل عمرها عن عشرة آلاف عام، (هل سيكون من مدينة الطبقة أو المزة خزّان مثلاً؟)
الطبيعي أن لا تاريخ محدداً لاكتشاف المكدوس (أم هو اختراع؟) وأنه محصلة لسلسلة طويلة من التعديلات والتجارب والخصوصيات الفردية، وما يثبت هذا الافتراض هو التنويعات التي جرت وما زالت تجري على الوصفة القياسية، ففي قرى الساحل يحشى بالفستق (الفول السوداني) بدلاً من الجوز، بسبب انتشار زراعة هذا النبات وتوفره بسعر رخيص، وفي بعض بيوت الرقة (وقليلاً في الساحل) يحشى بالسمسم، وفي العقود الأخيرة صار اللوز بديلاً للجوز في مكدوس الجفتلك.
وهناك تنويعات على الباذنجان نفسه، حيث ظهرت ابداعات لم تلق الشعبية المطلوبة مثل مكدوس الفاصولياء، والفليفلة، الذي لم يستطع أن يحقق أكثر من دور “السنيّد”: قرنان أو ثلاثة في قطرميز الباذنجان.
التنويعة الأكثر حداثة هي استخدام الثلاجة لحفظ مكونات المكدوس كل واحد على حده، واستكمال عملية الحشو اولاً بأول، وما رافق هذه التكنولوجيا من اعتراف كثير من السوريين بما كان لقبل سنوات قليلة يعدّ نوعاً من أنواع الهرطقة: “بصراحة أحب المكدوس في أول موسمه فقط”.
تقول أمٌ سورية لأولادها: “عمتكم نهلة لم تصنع مكدوساً السنة” عندها سترتفع صيحات الـ: “لَه لَه لَه. لا حول ولا قوة إلا بالله. يا حرام”. فالأمر أشبه بنعوة مبكرة، فإما أن تكون تلك العمة قد دخلت مرضها الأخير الذي لن يعجزها سواه عن صنع مكدوسها، أو أنها وصلت لقاع الفقر الذي يجعلها تقصّر عن تأمين مستلزماته.
حين كان السوريون يعبرون عن تذمرهم وضيق معيشتهم ويسمّون أيلول شهر الميمات اللعين (مدارس ومازوت ومكدوس) كانوا يظهرون حنقهم من ضعف رواتبهم وغلاء المعيشة، لكنهم في الوقت نفسه كانوا يضعون المكدوس بمرتبة التعليم والدفء في أولويات حياتهم.
اللبنانيون بدورهم أحبّوا شيئاً سورياً واحداً منذ خمسينات القرن العشرين، وهو البسكويت السوري (البرازق)، والذي كان الهدية المفضلة للقادم من دمشق، ولطالما تغنى به الكتّاب والصحفيون اللبنانيون، حتى الأكثر كراهية لكل ما هو سوري، ثم بعد 2005، وربما بسبب الافتقاد المفاجئ للنَفَس السوري في لبنان، بدأت الذائقة اللبنانية تتشهى منتجاً آخر أكثر سوريةً، وصار من المألوف أن تسأل صديقك اللبناني عمّا يريد من دمشق ليجيبك فوراً “مطربان مكدوس”.
من المهين لامرأة سورية أن توصم بأنها لا تعرف كيف تصنع المكدوس، يمكن قبول أن تكون عاقراً، لا تعرف الطبخ، لا تهتم بنظافتها الشخصية، يمكن أن تبرر ذلك، ان تدافع عنه، أن تنكره، لكنها تتقن صنع المكدوس حتماً، وترفض أي شبهة نقاش في هذا الموضوع، لأن التشكيك بمهاراتها المكدوسية يعني سلبها هويتيها الرئيسيتين (نسويتها وسوريتها) وكل امرأة سورية لا تثق بمكدوس امرأة أخرى سوى أمها، لذلك كان المعفشون الأوائل يتجاهلون القطرميزات الحزينة المهجورة في بيوت تركها أصحابها على عجل، فهم لم يجدوا من يشتريه، حتى صار بالإمكان الدخول إلى بيوت في مناطق مدمرة فيها سقف وبعض الجدران وقطرميز مكدوس، لأن زبائن أسواق التعفيش كانوا يشترون الأسلاك الكهربائية المسحوبة من الجدران، ومسكات الأبواب والملابس الداخلية النسائية المستعملة، وقطرميزات الزيتون واللبنة ورب البندورة، وحتى الصور العائلية للغائبين، أمّا حين يصل الأمر إلى المكدوس فهم ينفرون ويزمّون شفاههم قرفاً وترفعاً، وكأن قطرميز المكدوس الغريب “في الدار كفيل بخرابها” وليس “الحجر الغصيب”.
يتنوع الباذنجان المستخدم في المكدوس بتنوع المناطق، وهو خيار متوارث أمّاً عن جدة، ففي الجنوب (دمشق وريفها ودرعا والسويداء) يصنع من الباذنجان الأسود البلدي (بنوعيه الشامي ذو القبعة الطويلة والحوراني ذو القبعة القصيرة) وفي ادلب وبعضاً من حلب يفضلون الحموي (ذو اللون الباذنجاني الصافي). وفي بقية المناطق يصنع من الباذنجان الحمصي، وفي العقود الأخيرة ومع تداخل البيئات السورية، وتجاور أبناء المناطق المختلفة في المدن الرئيسية، وتأثرهم ببعضهم في ما يخص الثقافة، وتآلف العين السورية مع الملابس المرقطة، بدأ الباذنجان الحمصي (المرقط) يصبح النوع المفضل للجميع، ويكاد يصبح الصنف الدامغ للعلامة.
تتباين النتيجة النهائية للمكدوس بين سيدة وأخرى، بين سنة وأخرى، بين منطقة وأخرى، فهناك من يترك في الباذنجان بعض الماء، ولا يضغطه كثيراً، لتزداد حموضته ويصبح نوعاً من أنواع المخللات، وهذا مألوف في المنطقة الجنوبية، بينما تميل المناطق الوسطى والساحلية لضغط أقرب للتنشيف ليصبح مادة الفطور الرئيسية، وعلى صعيد الفليفلة فهناك أنواع منها تتدرج من الحلو (الفرنسي السميك) وحتى الحار (قرن الغزال) ويرتبط هذا التدرج في حرارة الفليفلة بخطوط العرض، فكلما اتجهت شمالاً ازدادت حرارة الفليفلة في المكدوس، وهكذا حتى يصل إلى باب السلامة، حيث يصبح قطرميز المكدوس شعلة حرّاقة، يلقي نظرة إلى الجانب الآخر من الحدود حيث لا مكدوس هناك، يتوقف تماماً ويعود أدراجه.
تظهر عيوب تفصيلية أخرى هنا وهناك، مثل الرخاوة الزائدة، والتي تنتج عن المبالغة في السلق أو مرور زمن أطول من المعتاد (موسمين)، أو قساوة بعض الحبات، والتي تنتج عن عدم تجانس حجوم الباذنجان في القدر (الحبات الكبيرة تنضج قبل الصغيرة)، زيادة الملح أو نقصه، والمكدوس من الأطعمة التي يليق بها الملح، فزيادة الملح مقبولة أكثر من نقصه، تظهر عيوب أخرى أحيانا تلام بها السيدة الصانعة بينما تقع المسؤولية فيها على الباذنجانة نفسها، فالطعم المرّ في الباذنجان ليس مرتبطاً بالنوع أو بطريقة الصنع، بل بنقص الماء، فالباذنجانة المرّة هي عطشى كالحياة المرّة، وظهور بذور في المكدوسة يرتبط بسن اليأس لدى الباذنجانة (والذي يحصل عادة في اليوم الرابع أو الخامس من عمرها) تتصلب بذورها وتصبح واضحة إلى الدرجة التي تزعج آكلها وتفرح جيناتها.
ماتت العادات المرتبطة بالمونة وتوقفت البيوت السورية ـ خصوصاً في المدن ـ عن صنع مئات المواد التي أبدعتها الثقافة السورية عبر القرون في محاولاتها المتجددة لابتداع طرق مختلفة في تخزين الطعام، ومع الزمن ودخول الكهرباء وثقافة الدكّان (السمّان واللبّان والزيتوني والجبّان) تصاغرت غرفة المونة التي كانت جزءاً أساسياً من عمارة البيت السوري (المديني والريفي على السواء) شيئاً فشيئاً، حتى أصبحت ثلاثة رفوف في المطبخ والربع العلوي من الثلاجة، وتكاد تقتصر على المكدوس، بينما نشتري ما تبقى من الدكّان. وفنون المونة التي راكمها السوريون عبر آلاف السنين هي من أوسع وأغنى تقنيات تخزين الطعام لدى شعوب الأرض، وهي تعتمد أربعة عناصر: الشمس، الملح، سكر الفواكه، الزيت، وأضيفت إليها البرودة بدءاً من سبعينات القرن العشرين مع انتشار الثلاجات و”إنارة قرية كل يوم”.
بينما تعتمد ثقافات التخزين في باقي أنحاء العالم على واحد او اثنين من هذه العناصر، ففي دول الشمال الباردة، كانت الطبيعة بحد ذاتها ثلاجة كبيرة لتخزين الطعام، مع بعض الاستخدام للملح (في الأسماك واللحوم بشكل رئيسي)، وفي تلك البلاد الباردة يحاول مئات الآلاف من السوريين المهاجرين دون جدوى أن ينقلوا معهم ثقافة طعامهم ومزاجهم، وهو ما لم ينجح لأسباب تخبرنا بها الكيمياء:
النتيجة النهائية للمكدوس هي فعل بكتيري، ينتج عن تخمر الباذنجان المسلوق ببكتيريا خاصة
(L.plantarum) وهي بكتيريا مؤهلة لتعيش في ظروف محددة: درجتي حموضة وملوحة عاليتين، ودرجة حرارة (20 -37 وهي درجة حرارة الخريف في بلاد الشام) وهي بكتيريا هوائية “كيفياً” أي أنها تستطيع أن تعيش في أي ظرف هوائي، وهذا ما يناسب المراحل الثلاث من حياة الباذنجان في رحلة تحوله لمكدوس: التعرض للهواء أثناء النشر، التعرض لقليل من الهواء أثناء الضغط، والانقطاع عن الهواء بعد الغمر بالزيت.
جرّب سوريون صناعة المكدوس في أماكن مختلفة دون جدوى، لأن مجموع العوامل التي تعطي للمكدوسة طعمها النهائي غير متحققة في أي مكان في العالم، ويمكن أن نضيف عاملاً قد يبدو مبالغة بيولوجية، وهو أن بكتيريا (L. plantarum) التي تصنف ضمن جنس العصيات اللبنيَّة (Lactobacillus ) تعيش في الجهاز الهضمي للسوريين، وفي ألبانهم، وقد عثر عليها المخبريون (مع أنواع أخرى) في الكشك وقمر الدين والشنكليش.
إذاً فعملية “التمكدس” لن تنجح خارج الأراضي السوري وما من شبيه للمكدوس في كل ثقافات العالم، وأقرب شيء إليه هو الماغرو الاسباني، وهو نوع من أنواع المخللات، يصنع من الباذنجان الصغير((Campo de Calatrava الشبيه بالباذنجان الحمصي) دون تجفيفه) وتوضع شريحة من الفليفلة الحارة بداخله، ويغمر بزيت الزيتون.
عشرة آلاف عام من الاصطفاء الممنهج للنباتات ولطرائق تصنيع الطعام وابتداع الخلطات، وصلت ذروتها في ذلك المزيج النادر من المواد، الأشبه بكرنفال من الطعوم والنكهات، يبنى على تخمر الباذنجان ببكتيريا خاصة، وتفاعل زيت الزيتون مع درجة حموضة (3.2 PH)، ونكهة الثوم الخفيفة، وظهور الجوز بين الفينة والفينة كضابط الايقاع في فرقة موسيقية.
تختلط الطعوم الظاهرة (الحار والحامض والمالح) مع النكهات الخفية الصغيرة، محافظة على سرّ غامض، يجعلنا غير قادرين على تمييزها عن بعضها، فتتعامل الذائقة معها ككل متكامل، وتتلقاها كهبة من السماء.
كل ذلك يتناغم بانسجام نادر، ويلخص ثقافة وتاريخ هذه البلاد، ويلقننا درساً قاسياً، وينبهنا أن الحل كان دائماً أمام أعيننا، وبأن كل ما علينا فعله لنصوغ استراتيجاتنا: نفتح أول قطرميز في مطابخنا، نخرج منه “مكدوسة”، نفتحها، نتأمل مكوناتها، نتذوقها، نخبط أكفنا على جبيننا، نتعلم منها، ننهض، نمزج تنوعنا، ننتبه أن هويتنا كانت منذ البدء هناك: مستقرة بين طيات باذنجانة.
الأيام
إضافة تعليق جديد