واشنطن أمام خيارين: تفعيل المبادرة الفرنسية أو تفجيرها
الجمل ـ سعاد جروس: التلفزيون الاسرائيلي وصف اللقاء بأنه «قمة خطيرة» وقال «لو كنا نعرف ان حسن نصر الله سيتوجه الى دمشق لكنا ضربناه وهو في الطريق». والسؤال: لماذا انعقدت القمة الايرانية السورية في هذه اللحظة بالذات, ولماذا يعود الوصل الى العلاقات السورية الفرنسية, واستطرادا السورية الاوروبية في حين يصر جورج بوش على استبعاد سوريا عن المؤتمر الدولي للسلام الذي تعدّ له واشنطن في الخريف المقبل؟
«لا يوجد شيء جديد» قال الرئيس السوري بشار الأسد في خطاب القسم الذي ألقاه الثلاثاء الماضي لدى تطرقه للحديث عن الشأن السياسي الخارجي, وفهم من كلامه في هذا الخصوص أن المبعوثين الدوليين يأتون إلى دمشق بهدف نقل رسائل وليس للحوار, وأن سوريا غير مستعدة لتقديم جوائز ترضية لأي طرف, و«كما للآخرين مصالح فنحن لنا مصالحنا, ولن نوافق على ما يناقضها», لذا فلا جديد غير ما سيستجد على الأرض. لكن ما استجد في الأسبوع الماضي حدثان بارزان, الأول زيارة موفد وزير الخارجية الفرنسي جان كلود كوسران إلى دمشق بعد عامين من القطيعة, على خلفية زيارته طهران, وبعد انتهاء اعمال لقاء حوار سان كلو للأطراف اللبنانية قبل بدء جولته إلى مصر والسعودية وبيروت. والحدث الثاني جاء بالتزامن على نحو مثير للاستفهام وهو دعوة الرئيس الأميركي جورج بوش إلى عقد مؤتمر للسلام بين إسرائيل وجماعة السلطة الفلسطينية, بمشاركة أطراف عربية استثنيت منها سوريا. وكان لافتاً الترحيب السعودي بالدعوة والتردد الإسرائيلي حيال قبولها. وتوقف المراقبون عند هدف بوش من هذا المؤتمر وما يعنيه من تدعيم جبهة عربية في مواجهة إيران, وعما إذا كانت نتائج زيارة أحمدي نجاد إلى دمشق رداً واضحاً وصريحاً على تماسك جبهة إيران سوريا وما يتصل بهما من محور الممانعة.
على خلفية هذا كله سؤال: أين يقع التحرك الفرنسي لحل الأزمة في لبنان, خصوصا أن المساعي الفرنسية عبرت هذه المرة من بوابة طهران وسوريا, الدولتان التي تصر إدارة بوش على سياسة عزلهما؟
زيارة كوسران إلى دمشق كانت في اليوم التالي لإلقاء الرئيس الأسد لخطاب القسم, والذي لم يرد فيه ذكر للملف اللبناني, وكل ما يتصل به من ملفات شائكة على الرغم من سخونتها واحتدام الجدال حولها في مجلس الأمن حول, ما فسره محللون سوريون بأن سوريا لا تريد إعلان مواقف حيال مسائل لا تزال رهن النقاش, خصوصا أن الطروحات الأوروبية للحلول في المنطقة بدأت تتبلور في اتجاه فك المسارين الأوروبي الأميركي, وتحديداً في لبنان, حيث ترابط قوات «اليونيفيل», وعدم رغبة الدول المشاركة في تلك القوات بتعريض جنودها للخطر, خدمة للمصالح الأميركية التي تسخر الورقة اللبنانية للضغط على سوريا, بهدف الحصول على تعاونها في الملف العراقي. كان هذا واضحاً في زيارة المسؤولين الأوروبيين لدمشق خلال الفترة الأخيرة, حيث أبدت ايطاليا قلقاً بالغاً على قواتها في لبنان, وجاءت الحوادث التي تعرضت لها القوات الإسبانية ومن ثم التشيلية, لتزيد مخاوف الأوروبيين من تفجر الوضع الأمني في لبنان, والتي سيكون لقوات «اليونيفيل» نصيب في دفع ثمنه.
من هنا كان لا بد من حل تتصدى له فرنسا صاحبة الدور الأوروبي الأكبر في لبنان, خصوصا أنها في بداية عهد جديد مع تسلم نيكولا ساركوزي للرئاسة, ستحتاج فيه إلى تحقيق إنجازات سياسية بعد سنوات من ربط سياستها مع سياسة الإدارة الأميركية وتحملها نتائج إخفاقاتها في العراق, وتأزيم الوضع في لبنان وفلسطين, ومقاطعتها لسوريا وإيران.
البداية اللافتة كانت التوجه نحو طهران, إلا أن هذا التحول الفرنسي وحتى الأوروبي ما كان ليحصل لولا التغير الذي طرأ على السياسة الأميركية التي فتحت خطاً لإجراء مباحثات مع إيران خلال مؤتمر بغداد الذي مهد لإمكان إجراء مباحثات لاحقة لم يحدد موعد انطلاقتها, وكذلك فتح خط آخر مع سوريا من خلال لقاء وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس ونظيرها السوري وليد المعلم في مؤتمر شرم الشيخ والذي بقي مفتوحا على احتمال تكرار لقاءات أخرى. وحيال الانعطاف الأميركي كان لا بد من انعطاف أوروبي خجول, تأخرت فرنسا في مواكبته إلى حين رحيل شيراك الذي شخصن الخلاف السياسي مع سوريا, وهو ما عقد الأزمة في لبنان, وزاد تعثر المساعي العربية, وكاد يقضي على الوقت المستقطع من دون التوصل إلى حل توافقي يرضي جميع الأطراف, ويجنب لبنان المواجهة والمنطقة تداعياتها.
ومع اقتراب نفاد الوقت تسعى فرنسا للبحث عن صيغة توافقية فرنسية عربية إيرانية كمخارج للأزمة, قبل أن تفلت أوراق الملف اللبناني من يدها, وتفقد مكانتها في المنطقة التي تحاول استعادتها عن طريق لبنان. وما ثبت أن لا حل توافقياً في لبنان بمعزل عن إشراك سوريا, حتى أن مؤتمر «سان كلو» ما كان له أن يؤتي بثمار أكثر من المتوقع له, لولا إشارات إيجابية صدرت من دمشق, وقد اعترف بذلك وزير الخارجية الفرنسي برنار كوشنير في ندوة صحفية يوم الأربعاء من الاسبوع الفائت اذ قال «عدة عراقيل قد أزيلت, لأن سوريا أرادت ذلك, فأردنا إرسال أول موفد إلى دمشق للتحدث مع الحكومة السورية, وطالما أن هنالك إشارات إيجابية سنواصل الاتصال مع سوريا, وهذا ليس سوى البداية». وشدد أيضا على خطورة الوضع في لبنان, مؤكداً انه «في حال لم يتوصل اللبنانيون إلى التفاهم فالحرب ستندلع مجددا في هذا البلد». ثم عادت وأكدت ذلك المتحدثة باسم الخارجية الفرنسية باسكال أندرياني لدى سؤالها عن المؤشرات الإيجابية الصادرة عن دمشق, وما إذا كانت غيرت موقفها إزاء الأزمة اللبنانية, فأجابت «مجرد انعقاد اجتماع سان كلو بمشاركة الأطراف كافة, هو في حد ذاته إشارة مشجعة». وأضافت «في وقت بدأت فيه ديناميكية ايجابية, يهم أن تقتنع سوريا أنها هي أيضا تكسب الكثير من رؤية الوضع يستقر بسرعة في لبنان وأن تزال التوترات منه».
في غضون ذلك ذكرت مصادر صحفية إنه كان لإيران دور مهم في إقناع فرنسا بالتحاور مع دمشق في سبيل الوصول إلى حل في لبنان. وأكدت صحة هذه المعلومات مصادر دبلوماسية إيرانية قالت لـ«الكفاح العربي»: إن إيران شجعت كوسران على ضرورة زيارة دمشق وفتح حوار معها, لأن لسوريا دوراً أساسياً في المنطقة وهي معنية بما يجري في لبنان, ولا يمكن لأي حل أن ينجح من دون مشاركتها. وإذا أرادت فرنسا أن تسعى من أجل استقرار وسلام في المنطقة, فلا بد لها من التواصل مع دمشق. وباريس التي اقتنعت بهذا الرأي, تعتقد أن على دمشق إعطاء مزيد من المؤشرات الإيجابية. وقد صرح المتحدث باسم الرئاسة دافيد مارتينو بأن «مفتاح استئناف الحوار» بين فرنسا وسوريا موجود في دمشق. لذا أظهرت باريس اهتماماً بالتركيز على أن مهمة السفير كوسران في دمشق ذات طبيعة «دبلوماسية» وليست «سياسية», منوهاً إلى أن موفدها شخصية دبلوماسية, يتمتع بخبرة واسعة, لكنه ليس رجلاً سياسياً منتخباً, وبالتالي هو يجري «مشاورات دبلوماسية وليس حواراً سياسياً», وأن العلاقات الدبلوماسية لم تنقطع بين دمشق وباريس.
وبحسب المؤشرات, يبدو أن كوسران نجح في مهمته, فقد أعلن بعد لقاء المسؤولين السوريين أن سوريا «وافقت على محاور المبادرة الفرنسية لأنها اسهمت بالحوار ما بين اللبنانيين». كما قال نائب الرئيس السوري فاروق الشرع للموفد الفرنسي, إن بلاده «تدعم كل جهد يؤدي للتوصل إلى إنهاء الوضع المتأزم في لبنان عبر صيغة تتوافق عليها جميع الأطراف اللبنانية». وأكد ذلك ايضاً وزير الخارجية السوري بأن «سوريا على استعداد لبذل كل الجهود الممكنة للمساعدة على التوصل إلى اتفاق بين الأطراف اللبنانية لحل خلافاتهم على أساس احترام الدستور اللبناني وصيغة العيش المشترك بما يضمن تحقيق الأمن والاستقرار في لبنان». وهو الموقف السوري ذاته الذي لم يتغير ولم يتبدل منذ بدء الأزمة في لبنان, وما تغير هو طريقة التعاطي الفرنسي مع الأزمة, ومحاولة سلوك طريق مستقل عن طريق الإدارة الأميركية التي لم تظهر رضاها عن هذه المبادرة, بل أنها شككت في جدوى توصلها إلى نتائج ايجابية, إلا أن الناطق باسم الخارجية الاميركية شون ماكورماك عاد وقال: «حصلت مبادرات من جانب عدد من الدول وعدد من الموفدين لإقناع سوريا بتغيير تصرفها». وأضاف: «لا نزال ننتظر».
حالة الانتظار الأميركية تترك باب الاحتمالات مفتوحاً, حسب مراقبين, فإذا نجحت المبادرة الفرنسية في الحصول على توافق لبناني مع دعم عربي من الجامعة العربية والمملكة العربية السعودية, فمن المحتمل أن يكون هناك مباركة اميركية, وهو ما يعززه قول ماكورماك بان الولايات المتحدة مقتنعة بأن فرنسا تبقى «شريكاً ممتازاً» حول الملف اللبناني, وتأكيده بأنهما يتقاسمان الأهداف ذاتها اي «تشجيع استقلال لبنان والإصلاحات الاقتصادية والسياسية فيه, إضافة إلى إحالة المسؤولين عن اغتيال الرئيس رفيق الحريري إلى العدالة». إلا أن الهدف الأخير قد يستخدم أيضاً في إطار تفعيل الاحتمال الآخر المناقض له وهو تفجير المبادرة الفرنسية, والمضي في سياسة استبعاد سوريا وإيران من دائرة الحل, وهو ما تخطط له واشنطن من خلال إعداد سيناريو لمؤتمر سلام في الخريف المقبل, وتدعيم جبهة إقليمية لمواجهة إيران.
حيال هذا السيناريو يمكن قراءة نتائج زيارة الرئيس الإيراني أحمدي نجاد إلى دمشق الخميس الماضي, على الرغم من تأكيد الطابع البروتوكولي للزيارة بأنها كانت بهدف تقديم التهنئة للرئيس السوري على ولايته الدستورية الثانية, إلا أنها حملت العديد من الرسائل, أهمها فشل المحاولات الدولية والأميركية الحثيثة في فك التحالف بين البلدين, فاعتبر الرئيس الأسد أن «الرؤية المشتركة أثبتت صحتها» وان القمة السورية الإيرانية تناولت «المؤامرات التي تحصل ضد المنطقة». كما أكد البيان المشترك «الحرص على استمرار التعاون البناء بين البلدين في المجالات السياسية والاقتصادية والتجارية والعلمية والثقافية» وارتياحهما للمستوى الرفيع الذي تسير فيه علاقاتهما الثنائية.
والرسالة الأخرى المهمة, أن هذا التحالف جاهز للسلام كما هو جاهز للمواجهة, فجاهزيته للسلام ظهرت من خلال التجاوب مع المبادرة الفرنسية, والدعوة الى تحقيق وفاق وطني بما يضمن امن واستقرار لبنان وسلامة أراضيه, مع ما سبقها من دعوات للحوار سواء مع الأوروبيين أو مع الأميركيين, حول العراق وتأكيد البلدين ضرورة الحل السياسي ودعمها للحكومة العراقية ولوحدة العراق لتحقيق الأمن والاستقرار والمصالحة الوطنية. كذلك من خلال مناشدة الفصائل الفلسطينية العودة لنهج الحوار والتوافق للحفاظ على وحدة الشعب الفلسطيني. كما لا يمكن استثناء الملف النووي حيث سجلت ليونة إيرانية, برزت في البيان المشترك لدى التعبير عن قناعة راسخة بأن «ملف الأنشطة النووية السلمية الإيرانية يجب تداوله في الوكالة الدولية للطاقة الذرية», وارتياح البلدين لـ«سير المفاوضات الجارية بين إيران والوكالة الدولية للطاقة الذرية, وهما على قناعة بضرورة معالجة هذا الموضوع عبر الطرق الدبلوماسية ومن خلال الحوار ومن دون شروط مسبقة». أما الجاهزية للمواجهة, فظهرت من خلال سلسلة اجتماعات عقدها نجاد في دمشق مع وفد لبناني رفيع ترأسه الأمين العام لـ«حزب الله» حسن نصر الله, وتأكيد مواجهة الاعتداءات والمؤامرات على لبنان, ولقاء الفصائل الفلسطينية في دمشق, لبحث تطورات الوضع في فلسطين ومواجهة المؤامرات الإسرائيلية الهادفة إلى تشتيت الأطراف الفلسطينية.
وكان في عقد اللقاء بدمشق رسالة تفيد بأن محور الممانعة ما زال قائماً وفاعلاً, بحسب ما قالته مصادر متابعة: «إن هذا المحور كما هو مستعد ليكون جزءاً من الحل هو أيضاً مستعد لمواجهة التحديات». إذا كان هذا العام عام الحسم, كما قال الرئيس الأسد في خطابه, فإن الرهان الآن هو على الدور الأوروبي, ونجاح المبادرة الفرنسية في حصد دعم عربي, والقدرة على جعلها مدخلاً لحل باقي الملفات في المنطقة, أو على الأقل تخفيف الضغط من خلال نزع فتيل الأزمة في لبنان وسحبها من التداول الأميركي المدمر. وإلا فإن الحسم سيكون اندلاع حرب جديدة.
بالاتفاق مع الكفاح العربي
إضافة تعليق جديد