26-11-2008
«محاورة الدفاع»، لكن الهذائي، عن سقراط الرحباني
الجمل - علاء خزام: من الصعوبة بمكان معالجة موضوع اسمه «زياد الرحباني» بشكل كامل، ليس بسبب تعقّد الموضوع وفرط علميّته ودقّته، وإنما -بالعكس- خوفاً من ألسنةٍ ما فتئت تتنطّح للدفاع عنه[1]؛ لذا آثرت تسمية الظاهرة بـ"الزيادوية" Ziadism رغبةً في تظهير حقيقتها من حيث أنها لم تعد فوبيا Phobia كما كان معهوداً، وإنما باتت ظاهرةً "متكاملةً" بالمعنى الأيديولوجي، فمَن غير زياد الرحباني قادر على تخطي الحواجز الهائلة الفاصلة بين الفلسفة والسياسة والاقتصاد والموسيقى والتحليل الاجتماعي وعلوم الأديان...؟ بل، بالأحرى، من منّا ذاك الذي سيتجرأ على إيقافه وإفهامه أنه يتجاوز كل "الحدود" الممكنة وأنه ببساطة شديدة.. مخطئ؟ إن ذاك سيعتبر، حتماً، ضرباً من ضروب الكفر والهرطقة.
إذاً، فالاتهام جاهز، مُعَدّ، والخطيئة مرتكبة مسبقاً، وضلوعي في "مؤامرة ما" ناجز سلفاً، والتخوين هو مصيري الوحيد بعد هذا الذي سأكتب؛ لذا فأنا، رغم ذلك، سأقْدِمُ على ما أراه مناسباً، وهو "خيانة المقدس"، كما أنني أصبو قلب المعادلة إلى تخوينه هو بالذات، لكن ليس بأسلوبه وأسلوب "سدنة" كعبته المقدسة وحماة إكليروسه الأعظم، وإنما بأسلوبي أنا، مراعياً الموضوعية قدر الإمكان رغم صعوبة ذلك[2]. عليَّ إذاً أن أنتقد زياد الرحباني والمدافعين عنه وذاتيَ معهم، ولكني سعيد بـ"الكَشْف" الذي قد أصبت، وها أنا الآن "أخون ربي" وأعلن نفسي "مهرطقاً"، فليست "خيانة زياد بالنسبة لي أمراً لا يغتفر"!
أنا لن أبدأ عرضاً تاريخياً عن حياة زياد الرحباني معدداً (مردداً) "إنجازاته" الشعرية والموسيقية، وملمّحاً إلى "عبقريته" الهائلة و"فرادته" منقطعة النظير[3]... البداية ستكون (كما في السوريالية) من النهاية، والبدء سيكون من الختام الذي لم يكن (للأسف) مِسْكَاً على الإطلاق، بل لقد كان نشازاً على نشاز، زيادةً في القطيعة مع عالم الحرية (المفتقد أصلاً)، وأقصد المقابلة الصحفية التي أجراها زياد الرحباني في جريدة «تشرين» السورية[4]، وما جرى فيها من اتهامات هوسيّة، ثم ما تلا ذلك من ردود بينها رد أنور براهم، وأخيراً لعبة "المواجهات" التي حدثت على أرض جريدة «الأخبار» وبين جمهورها بين أسعد أبو خليل وحازم صاغيّة والتي لمحّت إلى دور زيادي ما -وإن كان غير مباشر-، الأمر الذي استدعى رداً حاسماً وتدخلاً طارئاً من المقيِّم الكبير (بحق) للتجارب الموسيقية والناقد اللامع (بحق) للموسيقيين العرب (ما عدا زياد الرحباني) والأجانب، وأقصد بشير صفير.
في جريدة تشرين يتهم زياد الرحباني "زملائه" الثلاثة:
أنور براهم يهودي (لا أعرف أن اليهودية تهمة أصلاً؟) وهو مرد إنتاجه الموسيقي الكبير والكثيف وشهرته في أوروبا ووجود شركة تنتح له أعماله. ربيع أبو خليل يشارك براهم تُهَمَهُ، ولكنه يتبدى أكثر خطراً[5]. ظافر يوسف الذي لم تتجاوز تهمته كلمتين مختصرتين (على عادة زياد الرحباني) وهي أنه "محتال دولي" (!!!!). المهم أن الجميع يساندهم "الصهاينة" ويرعاهم اللوبي الإسرائيلي (المرض العضال) ويدعمهم من حيث لا يعرفون[6]. هذه قواعد العمل ونطاق الممارسة في المذهبية الزيادوية، وتالياً فإن "محكمتها المقدسة" لن ترضى أقلّ من الصلب حكماً عادلاً بكل المقاييس.
المهم، بعد بضعة أيام، خرج صوتان يغردان خارج السرب، يحلقان فوق طغيان القداسة وسطوتها ليقولا: "كفى"![7] عباس بيضون يركّز على مفعول القداسة ذاته من خلال نقده لذاك المقعد الذي يقعُده زياد الرحباني[8]، وراشد العيسى يتعاطى مع المنطق ذاته في طرح الآراء العبثية الخارجة عن قواعد وضوابط النقد مختتماً بتمنٍ أقرب إلى الرجاء في أن يعود زياد الرحباني إلى "مقعده" بعد أن "شاغب" كفايةً، وإلا فإنه سيستأهل علامة الصفر[9].
المفارقة كانت حين ردّ أنور براهم[10]، فيما يشبه حضوره الهادئ وصوته الخافت وتواضعه الملفت، رداً هادئاً خافتاً متواضعاً، لكن مترفّعاً عن الهجاء والهجاء المضاد، ليضع حداً لـ"البارانويا" الرحبانية بالتركيز على أن عمل زياد الرحباني هو الموسيقى، إذاً فلينتقد الموسيقى، أما اللوبي الإسرائيلي فإن عليه أن يتركه إلى النخب السياسية العربية لتحل معضلتها معه[11].
كنت قد اعتقدت أن القصّة انتهت هنا، لكن قصة جديدة أو "فصلاً آخر"[12] قد بدأ حين ردّ حازم صاغية في مقال له في «الأخبار» على ما سمّاه "شتيمة سبتيّة" كان تعوّد أن يوجهها إليه أسعد أبو خليل صباح كل سبت من على المنبر ذاته[13]. وكان أن أعرب صاغية في مقاله ذاك لا عن طموح في نقد أسعد أبو خليل شخصياً أو حتى تحقيره، بل عن أن المهم هو نقد "المجرّة الدلالية" التي تحكم نظام اشتغال هذا العقل (التآمري)، ومن هنا كان جَمْعُ صاغية لكل أولئك المنتمين إلى المشروع ذاته[14] في سلة واحدة؛ وهنا نصل إلى زياد الرحباني الذي "تقلّصت موهبته لتنحصر في إعادة توزيع ألحان أمّه وأبيه". إن ما يلفت بعد مساجلة «صاغية / أبو خليل» أن صوتاً مرموقاً في النقد الفني، اجتهد وفكّر واعتصر دفاعه اعتصاراً ليخرج علينا بنصف صفحة في الجريدة ذاتها مبيّناً لنا أهمية التوزيع وإعادة التوزيع و"مفنداً" بشكل يدعو إلى الضحك أهمية ألبوم «إلى عاصي» لزياد الرحباني وكأن القضية هي هذا الألبوم أو ذاك، أو أن صاغية يقصد (بالفعل) تجريم «إلى عاصي» وطرده خارج دائرة الإنتاج الموسيقي العربي الحداثي!![15]
وحيث أن كل ما يكتب عادةً في "الدفاع" التبريري لا يكون متسقاً ولا منضبطاً[16]، فإننا لن نستغرب تناقض بشير صفير حين يفتتح مقاله بتنبيهنا إلى أن ما سيُكتب فيه "ليس دفاعاً عن زياد" بحال من الأحوال، ليعود بعد قليل إلى رفع "ما سيُكتب" إلى درجة "المسؤولية" في الدفاع عن زياد الرحباني، في مناجاةٍ ربّانيةٍ تطلب الصفح لصاغيّة وتذكّر الإله أن هنالك من عبيده مَنْ هم ما زالوا مخلصين في الدفاع عنه[17]. في كل محاضرة دفاعية من هذا النوع لابد من تذكّر أفلاطون وسقراط، التلميذ والمعلم، وفي دفاع الأول عن الثاني، ولكن أفلاطون صفير حين يدافع عن "أستاذه" ينسى أن دفاعه بلا منطق، بلا حجّة، بعكس دفاع أفلاطون الحقيقي الذي ينافح بثقة مردها معرفته الدقيقة بعمق التجربة السقراطية وأهميتها الفلسفية، وتالياً فهمه للمجتمع الأثيني الديمقراطي. وكان أن توجهت "ملاحظة" حازم صاغية حول زياد الرحباني لتضمّه إلى الجيل الجديد من اليساريين أو اليساريين المحدثين[18]، "العاطلين عن العمل"، والمشغولين حتى النهاية في التنقيب وراء أخطاء أمريكا، مدافعين (في مثال رديء آخر على الدفاع الأفلاطوني) عن الاتحاد السوفيتي[19]. فما معنى أن يوجّه سقراطنا اتهامه إلى زملائه "الفلاسفة" بأنهم (مثلاً) أغبياء أو يتعاملون مع المدن اليونانية الأخرى المعادية خيانةً لأثينا لبنان؟ لنا أن نتخيّل أن سقراط ذاك كان سيوجه كتاباً نقدياً في الفلسفة والوجود والماهية، مقالاً نقدياً مركَّزاً على موضوعات خصومه لا على شخوصهم؛ ثم من الذي فوّض مُعلّمَ مُعلّمِ "المعلم الأول" بتحديد مفاهيمنا عن الوطنية وتوزيع شهاداتها عبثاً؟
بعد العبارات المرَضيّة (بالمعنى السريري) التي ساقها زياد الرحباني (راعي أبرشية التخوينيين في المَجْمَعْ المؤامراتي لعموم الشرق الأوسط الكبير) في مقابلته الصحفية المهينة تلك، نستنتج أن نظاماً فكرياً كهذا لن ينتج جديداً، بل سيبقى "حركة اعتماد في المكان" يقابلها منهج "التوزيع وإعادة التوزيع" موسيقياً، الدوران والالتفاف على ما تواضع عليه الناس من "قواعد"، أي أنه سيقول لهم ما يحبون سماعه وما يرجون تثبيته إلى ما لانهاية في مخيلتهم الاجتماعية العامة فيما يشبه "أوندكسا" أرسطو أو نظاماً للخطاب البلاغي[20].
إن السبب في ذلك يعود في نظري إلى الالتباس الدائم بين مهمة زياد الرحباني السياسية المفترضة (كشيوعي مُقَلَّص كذلك إلى معادٍ لأميركا) ومهمته الموسيقية - الفنية، فهو حين يستشعر انحساراً في الاهتمام بمشروعه الموسيقي يبدأ أحاديثاً[21] عن السياسة والشعب والوطن، خطورتها في تأثيرها -الأشبه بالسحر- ووقعها، وإمكانية قبولها على عيوبها الكثيرة الفاضحة، لأن من يقعد "هذا المقعد" لا يُسأل[22]. حتى أن "كاهن الموسيقى الجيدة" اضطرب مرةً وأعلن نيته الترشح لرئاسة الجمهورية في لبنان!! وأنه في نوبةٍ ثانيةٍ أعلن عزمه إصدار كُتَيّب في شرح و"تبسيط الماركسية"![23].
عجباً، إننا أمام نبيٍ إذاً بلا شك، مفكر وسياسي وموسيقي وفنان شامل.. يمكنه فعل ما يكون عند الآخرين "ممنوعاً التفكير به" حتى.
تجربة زياد الرحباني الثمانينات كانت أشبه بالخلق، بإعادة التكوين، بالنقلة النوعية الكاملة التي لابد ستغير شيئاً عظيماً في تاريخنا الموسيقي، لكنها "تقلّصت" فقط، هذا ما يقوله حازم صاغية، هي إذاً موجودة، لكنها تقلّصت، وكل عضوٍ لا يتم استعماله فترة من الزمن يضمر، أما الهذاء الطفلي الرغبوي في الدفاع عن زياد الرحباني كأنه أحد أبطالنا أو رموزنا الوطنيين، فهو ما يجب أن يجد له الكُتّاب علاجاً سريعاً.
ملاحظات:
1- بالنسبة لاستخدامي بعض المقولات التاريخية الدينية واستحضاري بعضاً من مفردات القاموس اللاهوتي، كـ"إكليروس" و"سدنة" و"أبرشية"... الخ، فإنني لا ألحظ ما هو أقرب إلى موضوعنا من ذاك التاريخ، وأقصد بالتحديد أسلوباً في الحكم والسيطرة المطلقة، خاصةً وأن زياد الرحباني -كما قلت أعلاه- بات مقدساً بالمعنى الحرفي لا المجازي، وأنه يبدو كـ"مسيح جديد"، كمخلِّص مكفِّر عن خطايا قلة فهمنا وبؤسنا وانحرافنا عن الصراط الأكثر استقامة، كما ولإحساسنا بالعجز والتلاشي أمام عظمته الثورية.. وكأننا في معبد حقيقي لا ينقصنا سوى "القربان" الذي تبرع الإله نفسه بعرضه، وقد كان كريماً بما لا يقاس حين قدم لنا بدل القربان ثلاثة!!
2- «Ziadism»: إن اختيار الكلمة لم يكن عبثياً على الإطلاق، ولا هو رغبةٌ في تضخيم المسألة لإكسابها مشروعية الطرح واجتذاب عدد أكبر من القراء، إلا أن المكان يضيق هنا للتذكير بكل ما يثبت إصراري على هذه الكلمة المنحوتة، وأنني أحيل من يقرأ إلى تاريخ زياد الرحباني كاملاً، أي مجمل المواقف والشعارات والممارسات والمقابلات (على الأخص) التي أجراها طيلة حياته ليكتشف معي (إن تابعها متخلّصاً من عقدة التأليه وتبرير المقولات) أنها تشكل خرقاً فاضحاً لما تم التعارف عليه من نزوع نحو "الاختصاص" الذي لا يعني بحال من الأحوال التقسيم والتجزيء والفصل القهري، وإنما الالتزام بالمواقع فقط، وأنها كذلك يمكن أن تتحول إلى "مذهب" (سطحي بالفعل) إن تم تدوينها والعمل عليها، ولا أكثر بياناً من أننا نستعمل صياغاته ومقاطع من مسرحياته وحلقاته الإذاعية "الكلامية" في حديثنا اليومي والتي يمكن من خلالها (إذا أوكلت إلى مهندس محترف في القص واللصق) اجتراح مذهبية كاملة تغني عن غيرها. بالمناسبة، إن كل معترض على استخدام الكلمة لم يكن (على الأغلب) حاضراً في الأيام الأربعة (أضيف إليها يوم خامس) التي خُصِّصَت لحفلات زياد الرحباني الموسيقية في دمشق والتي تمكّن من حضورها ما يزيد عن عشرين ألف متفرج ("متفرج".. تماماً، فالمهم في كل طقس ديني هو "الرؤية") فعلوا كل ما يُفعَل في طقوس الربوبية الواحدية، في مشهد غاية في الغرابة، فالمهم أنهم "شافو زياد"!
3- إن "قساوة" هذا المقال وطعنه الشديد (في مواقع حساسة) لهوَ أمرٌ أقر به، كما وأنني أعترف بشدة اللهجة المستخدمة وطابعها الهجومي – الانفعالي؛ لكن ما يعزيني أنني أبقى ضمن حدود "النقد المباح" وإن كان قاسياً، وأنني لا أُضطرُّ لاستخدام "الشتيمة" التي تعودنا عليها من الخاصة (الطاقم الصحفي المدافع عن زياد الرحباني) والعامة (التعليقات التي تتبرع «الأخبار» بنشرها تحت كل مقال). لذا، فإنّ على من سينتقد "حدّة" المقال أن ينتقد بدايةً "لطف" التعامل مع زياد الرحباني (الذي كان أقرب إلى "عتب الأصدقاء") حين ارتكب "الموبقة العظمى" وجَهَرَ بالتخوين العلني التجريحي التهجمي الشتّام والغير مبرّر.. بعد ذلك، سيكون كلُّ نقدٍ للقسوة المفرطة محطَّ ترحابٍ أكيدٍ من قبلي.
4- من الجدير بالذكر أنني كنت قد كتبت جزءاً من هذا المقال كـ"تعليق" على مقال بشير صفير في «الأخبار»، ولما كان أن تأخرت الجريدة بنشر التعليقات وجدت نفسي مرغماً على توسعته ونشره كمقال حقيقي هذه المرة وفي الصحافة كذلك.. لأن موضوعنا يستأهل ألا يكون الحديث فيه في "تعليق".
[1] تارةً بحججٍ تبتغي "العلمية" و"التحليل الدقيق" (الموسيقي وحتى السياسي) مع أن قصدها الحقيقي تبريري محض، وتارةً أخرى بسبب رغبة جامحة عندنا لتصيّد الأخطاء كما ولحساسيتنا العالية تجاه المساس بمقدساتنا التي لا أشك أن زياد الرحباني قد بات واحداً منها.
[2] فأنا قد كنت واحداً من "السدنة"، واشتراكي في الدفاع عنه كان (لمن يعرفني) ساطعاً، لكنه بالمقابل قد يساعدني على فهم الخلفية الدفاعية التي ينطلق منها "المدافعون" رغم بساطة ما يطرحون، وهو ما يزيد المهمة تعقيداً.
[3] سأترك ذلك إلى من علّمته المدرسة امتداح كل شيء وأي شيء، وإلى من عادت وعلّمته الإيديولوجيات الثورية تمجيد الأبطال إلى حد التأليه، وأخيراً إلى من باتت تعلّمه "الرأسمالية الجديدة" إعلاء شأن كل من تكرّسه وسائل الإعلام عبقراً.
[4] مع الصحافي حسن م يوسف بعنوان « زياد الرحباني في قلب دمشق»، 23/8/2008م.
[5] حيث سبق أن تم التلميح إلى الدور الذي يلعبه أبو خليل (تحديداً) في تسويق موسيقى «التُّرَازمْ» (على حد تعبير زياد الرحباني) في مقابلة لزياد مع تلفزيون MTV في العام 2000م
[6] وإذ أنني لا أحب الخوض في تفنيد مقولة "اللوبي الإسرائيلي"، هنا، فمرد ذلك إلى شيء قلته سابقاً، وهو الرغبة في الهروب من الهوس العام بالتقاط إشارات التآمر، مفضلاً التركيز على نقد الرغبة الدائمة في الدفاع عن زياد الرحباني من خلال الكشف عن أن مسبب ذلك يكمن في قداسة زياد الرحباني وعصمته، وأنه يتم التعامل مع مقولاته كما يتم التعامل مع نص مقدس صالح لمختلف الأزمنة والأمكنة، ومفتوح على التأويل عن طريق إقناع النفس (أو إجبارها على الاقتناع) أن من المستحيل على زياد الرحباني أن لا يقول "الصواب"!!
[7] «كل في مقعده»، عباس بيضون، جريدة «السفير»، (13/09/2008م).
«عن تصريحات زياد الرحباني في دمشق.. الوطنية ليست دائماً على حق»، راشد العيسى، جريدة «السفير»، (25/08/2008م).
[8] في استخدامٍ موفق لكلمة "مقعد" التي تحيل إلى كرسي الحاكم والسلطة والهيبة (لا بأس من تذكّر "الكرسي البابوي" هنا).
[9] لكنهما بقيا كصوتين في صحراء التعبّد المطلق، كصوت غاليليو في خضّم مقارعته العلمية مع الكنيسة في جوّ استبداد عام وظلمة حالكة حيث الناس دهماء غوغاء لا تسمع ولا تفقه.
[10] «الدين لله والموسيقى... للجميع»، أنور براهم، جريدة «الأخبار»، 25/10/2008م
[11] كلّ هذا بعد التنويه (كما العادة) إلى أهمية زياد الرحباني الموسيقية والغمز من صنارة "القداسة" ذاتها حين يذكّر أنور براهم بالتأثير الكبير لزياد الرحباني على الرأي العام العربي.
[12] كان من المفروض بهذا الفصل أن يكون مقدمة أو فاتحة للقصة، على الأقل لارتباطه الشديد مع "قضية" زياد الرحباني، حيث الصراع البادي للعيان بين مشروعين ومفهومين عن العالم: فهو إما عالم التآمر والنزوع الدائم إلى احتقار الآخر وتخوينه وشتمه، أو عالم الحرية حيث يستطيع الجميع الحياة والكتابة والتعبير عن الرأي.
[13] «...عن مزحة سمجة اسمها: أسعد أبو خليل»، حازم صاغيّة، جريدة «الأخبار»، 6/11/2008م.
الجدير بالذكر أن ردّ صاغية ذاك أثار جملة الردود و"الدفاعات":
- «حازم صاغيّة وسيف بن سلطان (الخشبي)»، أسعد أبو خليل، جريدة «الأخبار»، 15/11/2008م.
- «حازم صاغيّة أو غلطة الشاطر: هذا التشهير... فأين السجال؟»، بيار أبي صعب، جريدة «الأخبار»، 14/11/2008م.
[14] مشروع التخوين المتلازم مع القدرة الفائقة على التأثير في رأيٍّ عامٍّ تُفْقِده توازنه وتتنازعه عباءات المشايخ وقبعات الرفاق.
[15] «ليس دفاعاً عن زياد، ولكن...»، بشير صفير، جريدة «الأخبار»، 15/11/2008م.
[16] حيث يتعطل العقل الضابط للاتساق والمنطق في شرطه الأول «عدم التناقض»، ويعمل العقل المبرِّر القافز فوق التناقضات مماثلاً إياها في لفتة رغبوية.
[17] مذكرين كالعادة بـ"إنجازات" و"إضافات" زياد الرحباني التي يشبّهها "المدافع" بأعمال مايلز ديفز ويوهان باخ!! (نستطيع على سبيل التسلية مقارنة «آريات» باخ أو كونشرتاته للأورغن مثلاً مع "كل" أعمال زياد الرحباني).
[18] سلباً: أي الذين لم يتأثروا بكل النكبات والنكسات والهزائم التي مني بها النظام الاشتراكي ومن خلفه (بالضرورة) المنهج الماركسي وباتوا يدافعون بشكل مرضيّ عنهما وبالأساليب القديمة ذاتها؛ هذه الهزائم التي كانت دافعاً قوياً لماركسيين آخرين محدثين لكن إيجاباً (هذه المرة) لتطوير الماركسية طاردين كابوسها السياسي إلى الأبد ومعتدّين بحلمها الفكري على الدوام.
[19] من ذلك أن زياد الرحباني، في مقابلة تلفزيونية في تلفزيون لبنان مطلع التسعينات، يرمي عرض الحائط كل عذابات الـ 200 مليون روسي في ظل النظام السوفيتي متمنياً عودة النظام الشيوعي في احتقار مبطن لمشاعر ملايين من الروس قتلوا دون ذنب سوى امتلاكهم للرأي المخالف.
[20] وهو ما يتبدّى في صيغة المثل العربي: "لكل مقام مقال" الذي يدغدغ شعور الناس بالفهم والذكاء وطمأنينة الإيمان بالثوابت التي ألِفُوها، خاصةً إنْ فهمنا طبائع المرحلة التي نحنا في خضمها من رفض للغرب وعودة إلى الدين (منبع الإجابات التي لا تنضب) والتي تشكل منطقتنا مركزها وبؤرتها ويشكل مثقفونا حلقة التأثر الأضعف فيها فيما يشبه العصاب الجماعي (على حد تعبير جورج طرابيشي).
[21] ... ومقالات ومشاريع سياسية وحتى.... «عَتَابَا»!!
[22] ولا هو مضطر في النهاية لشرح مواقفه وتدعيمها بالحجج؛ ففي هذا الفقه "لا علل ولا أسباب ولا كيفيات، بل هي المشيئة السماوية المنبثة في الأشياء"!!
[23] لا نستغرب إعلانه ذاك فهو ابن المدرسة السوفيتية الشهيرة بالملخصات والكرّاسات والتبسيطات.
إذاً، فالاتهام جاهز، مُعَدّ، والخطيئة مرتكبة مسبقاً، وضلوعي في "مؤامرة ما" ناجز سلفاً، والتخوين هو مصيري الوحيد بعد هذا الذي سأكتب؛ لذا فأنا، رغم ذلك، سأقْدِمُ على ما أراه مناسباً، وهو "خيانة المقدس"، كما أنني أصبو قلب المعادلة إلى تخوينه هو بالذات، لكن ليس بأسلوبه وأسلوب "سدنة" كعبته المقدسة وحماة إكليروسه الأعظم، وإنما بأسلوبي أنا، مراعياً الموضوعية قدر الإمكان رغم صعوبة ذلك[2]. عليَّ إذاً أن أنتقد زياد الرحباني والمدافعين عنه وذاتيَ معهم، ولكني سعيد بـ"الكَشْف" الذي قد أصبت، وها أنا الآن "أخون ربي" وأعلن نفسي "مهرطقاً"، فليست "خيانة زياد بالنسبة لي أمراً لا يغتفر"!
أنا لن أبدأ عرضاً تاريخياً عن حياة زياد الرحباني معدداً (مردداً) "إنجازاته" الشعرية والموسيقية، وملمّحاً إلى "عبقريته" الهائلة و"فرادته" منقطعة النظير[3]... البداية ستكون (كما في السوريالية) من النهاية، والبدء سيكون من الختام الذي لم يكن (للأسف) مِسْكَاً على الإطلاق، بل لقد كان نشازاً على نشاز، زيادةً في القطيعة مع عالم الحرية (المفتقد أصلاً)، وأقصد المقابلة الصحفية التي أجراها زياد الرحباني في جريدة «تشرين» السورية[4]، وما جرى فيها من اتهامات هوسيّة، ثم ما تلا ذلك من ردود بينها رد أنور براهم، وأخيراً لعبة "المواجهات" التي حدثت على أرض جريدة «الأخبار» وبين جمهورها بين أسعد أبو خليل وحازم صاغيّة والتي لمحّت إلى دور زيادي ما -وإن كان غير مباشر-، الأمر الذي استدعى رداً حاسماً وتدخلاً طارئاً من المقيِّم الكبير (بحق) للتجارب الموسيقية والناقد اللامع (بحق) للموسيقيين العرب (ما عدا زياد الرحباني) والأجانب، وأقصد بشير صفير.
في جريدة تشرين يتهم زياد الرحباني "زملائه" الثلاثة:
أنور براهم يهودي (لا أعرف أن اليهودية تهمة أصلاً؟) وهو مرد إنتاجه الموسيقي الكبير والكثيف وشهرته في أوروبا ووجود شركة تنتح له أعماله. ربيع أبو خليل يشارك براهم تُهَمَهُ، ولكنه يتبدى أكثر خطراً[5]. ظافر يوسف الذي لم تتجاوز تهمته كلمتين مختصرتين (على عادة زياد الرحباني) وهي أنه "محتال دولي" (!!!!). المهم أن الجميع يساندهم "الصهاينة" ويرعاهم اللوبي الإسرائيلي (المرض العضال) ويدعمهم من حيث لا يعرفون[6]. هذه قواعد العمل ونطاق الممارسة في المذهبية الزيادوية، وتالياً فإن "محكمتها المقدسة" لن ترضى أقلّ من الصلب حكماً عادلاً بكل المقاييس.
المهم، بعد بضعة أيام، خرج صوتان يغردان خارج السرب، يحلقان فوق طغيان القداسة وسطوتها ليقولا: "كفى"![7] عباس بيضون يركّز على مفعول القداسة ذاته من خلال نقده لذاك المقعد الذي يقعُده زياد الرحباني[8]، وراشد العيسى يتعاطى مع المنطق ذاته في طرح الآراء العبثية الخارجة عن قواعد وضوابط النقد مختتماً بتمنٍ أقرب إلى الرجاء في أن يعود زياد الرحباني إلى "مقعده" بعد أن "شاغب" كفايةً، وإلا فإنه سيستأهل علامة الصفر[9].
المفارقة كانت حين ردّ أنور براهم[10]، فيما يشبه حضوره الهادئ وصوته الخافت وتواضعه الملفت، رداً هادئاً خافتاً متواضعاً، لكن مترفّعاً عن الهجاء والهجاء المضاد، ليضع حداً لـ"البارانويا" الرحبانية بالتركيز على أن عمل زياد الرحباني هو الموسيقى، إذاً فلينتقد الموسيقى، أما اللوبي الإسرائيلي فإن عليه أن يتركه إلى النخب السياسية العربية لتحل معضلتها معه[11].
كنت قد اعتقدت أن القصّة انتهت هنا، لكن قصة جديدة أو "فصلاً آخر"[12] قد بدأ حين ردّ حازم صاغية في مقال له في «الأخبار» على ما سمّاه "شتيمة سبتيّة" كان تعوّد أن يوجهها إليه أسعد أبو خليل صباح كل سبت من على المنبر ذاته[13]. وكان أن أعرب صاغية في مقاله ذاك لا عن طموح في نقد أسعد أبو خليل شخصياً أو حتى تحقيره، بل عن أن المهم هو نقد "المجرّة الدلالية" التي تحكم نظام اشتغال هذا العقل (التآمري)، ومن هنا كان جَمْعُ صاغية لكل أولئك المنتمين إلى المشروع ذاته[14] في سلة واحدة؛ وهنا نصل إلى زياد الرحباني الذي "تقلّصت موهبته لتنحصر في إعادة توزيع ألحان أمّه وأبيه". إن ما يلفت بعد مساجلة «صاغية / أبو خليل» أن صوتاً مرموقاً في النقد الفني، اجتهد وفكّر واعتصر دفاعه اعتصاراً ليخرج علينا بنصف صفحة في الجريدة ذاتها مبيّناً لنا أهمية التوزيع وإعادة التوزيع و"مفنداً" بشكل يدعو إلى الضحك أهمية ألبوم «إلى عاصي» لزياد الرحباني وكأن القضية هي هذا الألبوم أو ذاك، أو أن صاغية يقصد (بالفعل) تجريم «إلى عاصي» وطرده خارج دائرة الإنتاج الموسيقي العربي الحداثي!![15]
وحيث أن كل ما يكتب عادةً في "الدفاع" التبريري لا يكون متسقاً ولا منضبطاً[16]، فإننا لن نستغرب تناقض بشير صفير حين يفتتح مقاله بتنبيهنا إلى أن ما سيُكتب فيه "ليس دفاعاً عن زياد" بحال من الأحوال، ليعود بعد قليل إلى رفع "ما سيُكتب" إلى درجة "المسؤولية" في الدفاع عن زياد الرحباني، في مناجاةٍ ربّانيةٍ تطلب الصفح لصاغيّة وتذكّر الإله أن هنالك من عبيده مَنْ هم ما زالوا مخلصين في الدفاع عنه[17]. في كل محاضرة دفاعية من هذا النوع لابد من تذكّر أفلاطون وسقراط، التلميذ والمعلم، وفي دفاع الأول عن الثاني، ولكن أفلاطون صفير حين يدافع عن "أستاذه" ينسى أن دفاعه بلا منطق، بلا حجّة، بعكس دفاع أفلاطون الحقيقي الذي ينافح بثقة مردها معرفته الدقيقة بعمق التجربة السقراطية وأهميتها الفلسفية، وتالياً فهمه للمجتمع الأثيني الديمقراطي. وكان أن توجهت "ملاحظة" حازم صاغية حول زياد الرحباني لتضمّه إلى الجيل الجديد من اليساريين أو اليساريين المحدثين[18]، "العاطلين عن العمل"، والمشغولين حتى النهاية في التنقيب وراء أخطاء أمريكا، مدافعين (في مثال رديء آخر على الدفاع الأفلاطوني) عن الاتحاد السوفيتي[19]. فما معنى أن يوجّه سقراطنا اتهامه إلى زملائه "الفلاسفة" بأنهم (مثلاً) أغبياء أو يتعاملون مع المدن اليونانية الأخرى المعادية خيانةً لأثينا لبنان؟ لنا أن نتخيّل أن سقراط ذاك كان سيوجه كتاباً نقدياً في الفلسفة والوجود والماهية، مقالاً نقدياً مركَّزاً على موضوعات خصومه لا على شخوصهم؛ ثم من الذي فوّض مُعلّمَ مُعلّمِ "المعلم الأول" بتحديد مفاهيمنا عن الوطنية وتوزيع شهاداتها عبثاً؟
بعد العبارات المرَضيّة (بالمعنى السريري) التي ساقها زياد الرحباني (راعي أبرشية التخوينيين في المَجْمَعْ المؤامراتي لعموم الشرق الأوسط الكبير) في مقابلته الصحفية المهينة تلك، نستنتج أن نظاماً فكرياً كهذا لن ينتج جديداً، بل سيبقى "حركة اعتماد في المكان" يقابلها منهج "التوزيع وإعادة التوزيع" موسيقياً، الدوران والالتفاف على ما تواضع عليه الناس من "قواعد"، أي أنه سيقول لهم ما يحبون سماعه وما يرجون تثبيته إلى ما لانهاية في مخيلتهم الاجتماعية العامة فيما يشبه "أوندكسا" أرسطو أو نظاماً للخطاب البلاغي[20].
إن السبب في ذلك يعود في نظري إلى الالتباس الدائم بين مهمة زياد الرحباني السياسية المفترضة (كشيوعي مُقَلَّص كذلك إلى معادٍ لأميركا) ومهمته الموسيقية - الفنية، فهو حين يستشعر انحساراً في الاهتمام بمشروعه الموسيقي يبدأ أحاديثاً[21] عن السياسة والشعب والوطن، خطورتها في تأثيرها -الأشبه بالسحر- ووقعها، وإمكانية قبولها على عيوبها الكثيرة الفاضحة، لأن من يقعد "هذا المقعد" لا يُسأل[22]. حتى أن "كاهن الموسيقى الجيدة" اضطرب مرةً وأعلن نيته الترشح لرئاسة الجمهورية في لبنان!! وأنه في نوبةٍ ثانيةٍ أعلن عزمه إصدار كُتَيّب في شرح و"تبسيط الماركسية"![23].
عجباً، إننا أمام نبيٍ إذاً بلا شك، مفكر وسياسي وموسيقي وفنان شامل.. يمكنه فعل ما يكون عند الآخرين "ممنوعاً التفكير به" حتى.
تجربة زياد الرحباني الثمانينات كانت أشبه بالخلق، بإعادة التكوين، بالنقلة النوعية الكاملة التي لابد ستغير شيئاً عظيماً في تاريخنا الموسيقي، لكنها "تقلّصت" فقط، هذا ما يقوله حازم صاغية، هي إذاً موجودة، لكنها تقلّصت، وكل عضوٍ لا يتم استعماله فترة من الزمن يضمر، أما الهذاء الطفلي الرغبوي في الدفاع عن زياد الرحباني كأنه أحد أبطالنا أو رموزنا الوطنيين، فهو ما يجب أن يجد له الكُتّاب علاجاً سريعاً.
ملاحظات:
1- بالنسبة لاستخدامي بعض المقولات التاريخية الدينية واستحضاري بعضاً من مفردات القاموس اللاهوتي، كـ"إكليروس" و"سدنة" و"أبرشية"... الخ، فإنني لا ألحظ ما هو أقرب إلى موضوعنا من ذاك التاريخ، وأقصد بالتحديد أسلوباً في الحكم والسيطرة المطلقة، خاصةً وأن زياد الرحباني -كما قلت أعلاه- بات مقدساً بالمعنى الحرفي لا المجازي، وأنه يبدو كـ"مسيح جديد"، كمخلِّص مكفِّر عن خطايا قلة فهمنا وبؤسنا وانحرافنا عن الصراط الأكثر استقامة، كما ولإحساسنا بالعجز والتلاشي أمام عظمته الثورية.. وكأننا في معبد حقيقي لا ينقصنا سوى "القربان" الذي تبرع الإله نفسه بعرضه، وقد كان كريماً بما لا يقاس حين قدم لنا بدل القربان ثلاثة!!
2- «Ziadism»: إن اختيار الكلمة لم يكن عبثياً على الإطلاق، ولا هو رغبةٌ في تضخيم المسألة لإكسابها مشروعية الطرح واجتذاب عدد أكبر من القراء، إلا أن المكان يضيق هنا للتذكير بكل ما يثبت إصراري على هذه الكلمة المنحوتة، وأنني أحيل من يقرأ إلى تاريخ زياد الرحباني كاملاً، أي مجمل المواقف والشعارات والممارسات والمقابلات (على الأخص) التي أجراها طيلة حياته ليكتشف معي (إن تابعها متخلّصاً من عقدة التأليه وتبرير المقولات) أنها تشكل خرقاً فاضحاً لما تم التعارف عليه من نزوع نحو "الاختصاص" الذي لا يعني بحال من الأحوال التقسيم والتجزيء والفصل القهري، وإنما الالتزام بالمواقع فقط، وأنها كذلك يمكن أن تتحول إلى "مذهب" (سطحي بالفعل) إن تم تدوينها والعمل عليها، ولا أكثر بياناً من أننا نستعمل صياغاته ومقاطع من مسرحياته وحلقاته الإذاعية "الكلامية" في حديثنا اليومي والتي يمكن من خلالها (إذا أوكلت إلى مهندس محترف في القص واللصق) اجتراح مذهبية كاملة تغني عن غيرها. بالمناسبة، إن كل معترض على استخدام الكلمة لم يكن (على الأغلب) حاضراً في الأيام الأربعة (أضيف إليها يوم خامس) التي خُصِّصَت لحفلات زياد الرحباني الموسيقية في دمشق والتي تمكّن من حضورها ما يزيد عن عشرين ألف متفرج ("متفرج".. تماماً، فالمهم في كل طقس ديني هو "الرؤية") فعلوا كل ما يُفعَل في طقوس الربوبية الواحدية، في مشهد غاية في الغرابة، فالمهم أنهم "شافو زياد"!
3- إن "قساوة" هذا المقال وطعنه الشديد (في مواقع حساسة) لهوَ أمرٌ أقر به، كما وأنني أعترف بشدة اللهجة المستخدمة وطابعها الهجومي – الانفعالي؛ لكن ما يعزيني أنني أبقى ضمن حدود "النقد المباح" وإن كان قاسياً، وأنني لا أُضطرُّ لاستخدام "الشتيمة" التي تعودنا عليها من الخاصة (الطاقم الصحفي المدافع عن زياد الرحباني) والعامة (التعليقات التي تتبرع «الأخبار» بنشرها تحت كل مقال). لذا، فإنّ على من سينتقد "حدّة" المقال أن ينتقد بدايةً "لطف" التعامل مع زياد الرحباني (الذي كان أقرب إلى "عتب الأصدقاء") حين ارتكب "الموبقة العظمى" وجَهَرَ بالتخوين العلني التجريحي التهجمي الشتّام والغير مبرّر.. بعد ذلك، سيكون كلُّ نقدٍ للقسوة المفرطة محطَّ ترحابٍ أكيدٍ من قبلي.
4- من الجدير بالذكر أنني كنت قد كتبت جزءاً من هذا المقال كـ"تعليق" على مقال بشير صفير في «الأخبار»، ولما كان أن تأخرت الجريدة بنشر التعليقات وجدت نفسي مرغماً على توسعته ونشره كمقال حقيقي هذه المرة وفي الصحافة كذلك.. لأن موضوعنا يستأهل ألا يكون الحديث فيه في "تعليق".
[1] تارةً بحججٍ تبتغي "العلمية" و"التحليل الدقيق" (الموسيقي وحتى السياسي) مع أن قصدها الحقيقي تبريري محض، وتارةً أخرى بسبب رغبة جامحة عندنا لتصيّد الأخطاء كما ولحساسيتنا العالية تجاه المساس بمقدساتنا التي لا أشك أن زياد الرحباني قد بات واحداً منها.
[2] فأنا قد كنت واحداً من "السدنة"، واشتراكي في الدفاع عنه كان (لمن يعرفني) ساطعاً، لكنه بالمقابل قد يساعدني على فهم الخلفية الدفاعية التي ينطلق منها "المدافعون" رغم بساطة ما يطرحون، وهو ما يزيد المهمة تعقيداً.
[3] سأترك ذلك إلى من علّمته المدرسة امتداح كل شيء وأي شيء، وإلى من عادت وعلّمته الإيديولوجيات الثورية تمجيد الأبطال إلى حد التأليه، وأخيراً إلى من باتت تعلّمه "الرأسمالية الجديدة" إعلاء شأن كل من تكرّسه وسائل الإعلام عبقراً.
[4] مع الصحافي حسن م يوسف بعنوان « زياد الرحباني في قلب دمشق»، 23/8/2008م.
[5] حيث سبق أن تم التلميح إلى الدور الذي يلعبه أبو خليل (تحديداً) في تسويق موسيقى «التُّرَازمْ» (على حد تعبير زياد الرحباني) في مقابلة لزياد مع تلفزيون MTV في العام 2000م
[6] وإذ أنني لا أحب الخوض في تفنيد مقولة "اللوبي الإسرائيلي"، هنا، فمرد ذلك إلى شيء قلته سابقاً، وهو الرغبة في الهروب من الهوس العام بالتقاط إشارات التآمر، مفضلاً التركيز على نقد الرغبة الدائمة في الدفاع عن زياد الرحباني من خلال الكشف عن أن مسبب ذلك يكمن في قداسة زياد الرحباني وعصمته، وأنه يتم التعامل مع مقولاته كما يتم التعامل مع نص مقدس صالح لمختلف الأزمنة والأمكنة، ومفتوح على التأويل عن طريق إقناع النفس (أو إجبارها على الاقتناع) أن من المستحيل على زياد الرحباني أن لا يقول "الصواب"!!
[7] «كل في مقعده»، عباس بيضون، جريدة «السفير»، (13/09/2008م).
«عن تصريحات زياد الرحباني في دمشق.. الوطنية ليست دائماً على حق»، راشد العيسى، جريدة «السفير»، (25/08/2008م).
[8] في استخدامٍ موفق لكلمة "مقعد" التي تحيل إلى كرسي الحاكم والسلطة والهيبة (لا بأس من تذكّر "الكرسي البابوي" هنا).
[9] لكنهما بقيا كصوتين في صحراء التعبّد المطلق، كصوت غاليليو في خضّم مقارعته العلمية مع الكنيسة في جوّ استبداد عام وظلمة حالكة حيث الناس دهماء غوغاء لا تسمع ولا تفقه.
[10] «الدين لله والموسيقى... للجميع»، أنور براهم، جريدة «الأخبار»، 25/10/2008م
[11] كلّ هذا بعد التنويه (كما العادة) إلى أهمية زياد الرحباني الموسيقية والغمز من صنارة "القداسة" ذاتها حين يذكّر أنور براهم بالتأثير الكبير لزياد الرحباني على الرأي العام العربي.
[12] كان من المفروض بهذا الفصل أن يكون مقدمة أو فاتحة للقصة، على الأقل لارتباطه الشديد مع "قضية" زياد الرحباني، حيث الصراع البادي للعيان بين مشروعين ومفهومين عن العالم: فهو إما عالم التآمر والنزوع الدائم إلى احتقار الآخر وتخوينه وشتمه، أو عالم الحرية حيث يستطيع الجميع الحياة والكتابة والتعبير عن الرأي.
[13] «...عن مزحة سمجة اسمها: أسعد أبو خليل»، حازم صاغيّة، جريدة «الأخبار»، 6/11/2008م.
الجدير بالذكر أن ردّ صاغية ذاك أثار جملة الردود و"الدفاعات":
- «حازم صاغيّة وسيف بن سلطان (الخشبي)»، أسعد أبو خليل، جريدة «الأخبار»، 15/11/2008م.
- «حازم صاغيّة أو غلطة الشاطر: هذا التشهير... فأين السجال؟»، بيار أبي صعب، جريدة «الأخبار»، 14/11/2008م.
[14] مشروع التخوين المتلازم مع القدرة الفائقة على التأثير في رأيٍّ عامٍّ تُفْقِده توازنه وتتنازعه عباءات المشايخ وقبعات الرفاق.
[15] «ليس دفاعاً عن زياد، ولكن...»، بشير صفير، جريدة «الأخبار»، 15/11/2008م.
[16] حيث يتعطل العقل الضابط للاتساق والمنطق في شرطه الأول «عدم التناقض»، ويعمل العقل المبرِّر القافز فوق التناقضات مماثلاً إياها في لفتة رغبوية.
[17] مذكرين كالعادة بـ"إنجازات" و"إضافات" زياد الرحباني التي يشبّهها "المدافع" بأعمال مايلز ديفز ويوهان باخ!! (نستطيع على سبيل التسلية مقارنة «آريات» باخ أو كونشرتاته للأورغن مثلاً مع "كل" أعمال زياد الرحباني).
[18] سلباً: أي الذين لم يتأثروا بكل النكبات والنكسات والهزائم التي مني بها النظام الاشتراكي ومن خلفه (بالضرورة) المنهج الماركسي وباتوا يدافعون بشكل مرضيّ عنهما وبالأساليب القديمة ذاتها؛ هذه الهزائم التي كانت دافعاً قوياً لماركسيين آخرين محدثين لكن إيجاباً (هذه المرة) لتطوير الماركسية طاردين كابوسها السياسي إلى الأبد ومعتدّين بحلمها الفكري على الدوام.
[19] من ذلك أن زياد الرحباني، في مقابلة تلفزيونية في تلفزيون لبنان مطلع التسعينات، يرمي عرض الحائط كل عذابات الـ 200 مليون روسي في ظل النظام السوفيتي متمنياً عودة النظام الشيوعي في احتقار مبطن لمشاعر ملايين من الروس قتلوا دون ذنب سوى امتلاكهم للرأي المخالف.
[20] وهو ما يتبدّى في صيغة المثل العربي: "لكل مقام مقال" الذي يدغدغ شعور الناس بالفهم والذكاء وطمأنينة الإيمان بالثوابت التي ألِفُوها، خاصةً إنْ فهمنا طبائع المرحلة التي نحنا في خضمها من رفض للغرب وعودة إلى الدين (منبع الإجابات التي لا تنضب) والتي تشكل منطقتنا مركزها وبؤرتها ويشكل مثقفونا حلقة التأثر الأضعف فيها فيما يشبه العصاب الجماعي (على حد تعبير جورج طرابيشي).
[21] ... ومقالات ومشاريع سياسية وحتى.... «عَتَابَا»!!
[22] ولا هو مضطر في النهاية لشرح مواقفه وتدعيمها بالحجج؛ ففي هذا الفقه "لا علل ولا أسباب ولا كيفيات، بل هي المشيئة السماوية المنبثة في الأشياء"!!
[23] لا نستغرب إعلانه ذاك فهو ابن المدرسة السوفيتية الشهيرة بالملخصات والكرّاسات والتبسيطات.
الجمل
التعليقات
حسائر حفلة زياد
تسطيح المسألة
تعقيب
إضافة تعليق جديد