زوال إسرائيل: فكرة يتداولها أصدقاؤها بعد أعدائها
صورة إسرائيل السيئة الآن يكتشفها أبناؤها وأصدقاؤها وليس فقط أعداؤها. إلا أن هذه الصورة السيئة، أقل أهمية في نظر هؤلاء من صورة إسرائيل الخطرة أو صورة إسرائيل التي فقدت مبرر وجودها. وفي الحالات الثلاث يقوم الكثير من أصدقاء إسرائيل بوضع الدولة العبرية على الطاولة، ومناقشة جدوى وجودها.
ولم يعد نقاش فكرة زوال إسرائيل حكراً على الأعداء، بل صار مادة يتداولها الأصدقاء أيضاً. لقد أراد منشئو الدولة اليهودية أن تكون ملاذاً طبيعياً لليهود من جهة وأن تكون «نوراً للأغراب» من جهة أخرى، ولكن مقصدها بات عرضة للتغيير والتقييد.
وتوسع، مؤخراً، السجال في إسرائيل حول ضرورات حصر الهجرة اليهودية، وجعلها انتقائية من بلدان وثقافة غربية، وعدم الذهاب بعيداً إلى «الفلاشمورا» في أثيوبيا أو إلى القبائل الهندية. وفهم كثيرون من هذا السجال، الذي يقوده مفكرون كبار غربيو الطابع، أن المطلوب الآن تعديل «قانون العودة»، الذي يمنح اليهودي حقوق المواطنة في الدولة العبرية حال وصوله إلى أرض فلسطين.
وتحت عنوان «من العار أن تكون إسرائيلياً»، كتب المعلق الاقتصادي لصحيفة «يديعوت أحرونوت» سيفر بلوتسكر، من دافوس، مخاطباً الإسرائيليين الراغبين في الوصول إلى هناك: «رجائي لا تأتوا، إذا لم تكونوا صعدتم بعد إلى الطائرة. رجائي لا تأتوا، ليس شرفاً كبيراً للمرء أن يكون هذا العام إسرائيلياً في دافوس. عملياً، هذا عار كبير جداً».
وأضاف بلوتسكر أنه «لم تعد لإسرائيل صورة القوة العظمى التكنولوجية المزدهرة، ولا حتى قوة عظمى لاحتلال وحشي. إنها تتخذ صورة شيء آخر تماماً: دولة غارقة لا تؤدي وظائفها، رئيسها يقدَم إلى المحاكمة بتهمة الاغتصاب. رئيس وزرائِها يُحقق معه للاشتباه بخدمة مصالح مقربيه، وزير ماليتها سيطير من وزارته بسبب قضية أموال وجمعيات، رئيس أركانها استقال بسبب حرب فاشلة، وزير دفاعها سيضطر قريباً إلى السير في أعقابه. هكذا هي إسرائيل كما تظهر في شتاء 2007 أمام العيون المتفاجئة لأبناء النخبة الاقتصادية، السياسية والأكاديمية في العالم، التي تصل إلى دافوس لأربعة أيام من المداولات على مصير البشرية».
وإذا كان هناك من شرع مؤخراً بمناقشة وجود الدولة اليهودية، في نطاق الحديث عن خطري «الجهاد العالمي» و«المشروع النووي» الإيراني، فإن هناك من يرون المسألة من زوايا أخرى. وقد نشرت «هآرتس» تقريراً يشير إلى أنه إذا كانت الدعوة إلى زوال إسرائيل في الماضي حكراً على «الجهات المتطرفة» فإنها غدت اليوم جزءاً من السجال الأكاديمي الواسع في أوروبا وأميركا.
واستذكرت الصحيفة، في هذا السياق، مقالة وزير الخارجية الإسرائيلية الأشهر أبا أيبان في صحيفة «نيويورك تايمز»، في تشرين الثاني ,1981 رداً على مبادرة الأمير السعودي فهد في حينه. وجاء في تلك المقالة أن «أحداً لا يصنع جميلاً لإسرائيل باعترافه بحقها في الوجود، فحق إسرائيل في الوجود، هو كحق الولايات المتحدة، والسعودية، و152 دولة هو حق خارج النقاش. وشرعية إسرائيل لا تسبح في الفراغ، بانتظار اعتراف من العائلة المالكة السعودية. كما أن منظمة التحرير لا تتمتع بوضعية قانونية لتمنح أو تحرم الاعتراف بأي دولة».
ولكن كما يتضح من سياق الأحداث، فإن ربع القرن الأخير شهد، وفق «هآرتس»، تحول السجال حول الاعتراف من العالم العربي إلى أوروبا وأميركا. ومنذ الانتفاضة الثانية، التي أعقبت فشل العملية السلمية، أصبح السؤال في بعض المحافل «هل كان من الخطأ أصلاً إقامة الدولة اليهودية؟»، أو «هل ينبغي العمل من أجل إلغاء وجود إسرائيل؟».
وقالت «هآرتس» انه ليست هناك أية دولة أوروبية، وبالتأكيد ليست الإدارة الأميركية، تؤيد هذا الموقف. بل إن الدول الخمس وعشرين الأعضاء في الإتحاد الأوروبي أعلنت عام 2005 أن محاولة منع الشعب اليهودي من حقه في تقرير المصير، مثلا عن طريق الادعاء بأن دولة إسرائيل هي مبادرة عنصرية، هي مثل اللاسامية. إلا أن هذا الموقف لم يمنع تغلغل النقاش حول زوال إسرائيل في دوائر كل الدول الغربية تقريباً.
وهذا ما دعا مؤتمر «هرتسليا» السنوي لتكريس أحد محاوره لمناقشة جوانب رفض الاعتراف بحق إسرائيل في الوجود. وشاركت في هذا المحور شخصيات سياسية من إسرائيل والولايات المتحدة وكندا. وفي المؤتمر قالت البروفسورة بانيا زلتسبرغر من كلية الحقوق في جامعة حيفا، أمس، ان صورة إسرائيل في العالم تتدهور في منزلق خطير، و«سأبدأ تحديداً بالحديث عن سفوح المنزلق، لأن في القمة توجد الانتقادات لإسرائيل، والتي في قسم منها مشروعة ومثيرة للاهتمام، وتعبر بقدر ما عن السجال الداخلي في إسرائيل. غير أنه في أسفل المنزلق يوجد عنصران، أعرف من حواراتي مع زملائي في أوروبا أنهما في حالة تعاظم، وهما معاداة إسرائيل ومعاداة السامية. وأحيانا تقوم معاداة إسرائيل بانفصال عن معاداة السامية، وأحيانا بالتداخل معها».
ومعاداة إسرائيل في نظر زلتسبرغر هي إنكار حق إسرائيل في الوجود، سواء كان إنكار بأثر رجعي، مثل إبداء الأسف على مجرد قيام الدولة، أو إنكار حقها في الوجود حاضراً ومستقبلاً بسبب أفعالها. وقالت انه يشارك في هذا الإنكار أحيانا بعض اليهود. وأضافت أن في أعلى المنزلق توجد انتقادات من يحاولون أن يفرضوا على إسرائيل معايير مزدوجة، حيث أن كل نقد لإسرائيل لا ينحصر في نقد الحكومة، وإنما يتجه مباشرة للشعب والمجتمع الإسرائيلي.
واعتبر تقرير «هآرتس» أن أحد الأمثلة البارزة لإنكار حق إسرائيل في الوجود مقالة المؤرخ اليهودي الأميركي الهام طوني جادت في مجلة «نيويورك ريفيو أوف بوكس»، في تشرين الأول ,2003 بعنوان «إسرائيل: البديل». وقد اقترح جادت إلغاء الدولة القومية اليهودية وإقامة دولة ثنائية القومية مكانها. وكانت الحجة المركزية لجادت هي أن الدولة اليهودية هي منتوج متأخر عن الزمان. وحسب رأيه فإن الحركات القومية الأوروبية، التي استمدت الصهيونية منها مصادرها، أفلحت في إقامة الدول القومية عند تفكك الإمبراطورية النمساوية ـ الهنغارية في نهاية الحرب العالمية الأولى، «فيما اضطر حلم البيت القومي اليهودي للانتظار ثلاثة عقود أخرى انسحاب الإمبراطورية البريطانية».
واعتبر جادت أن إسرائيل ببساطة «جاءت إلى العالم متأخرة جداً... ففكرة الدولة اليهودية ذاتها، فكرة دولة يكون فيها لليهود وللدين اليهودي حقوق مميزة لن تمنح أبدا لغير اليهود، هي فكرة مصدرها مكان آخر وزمان آخر».
ولم يبخل جادت في مقالته في استخدام عبارات وقرائن تشير إلى أن إسرائيل دولة فاشية وعدوانية. وقد أشار إلى أن «التيار المركزي في السياسة الإسرائيلية، بات اليوم في الليكود. والمقوم المركزي في هذا الحزب هو «حيروت» مناحيم بيغن، الذي ورث حركته عن فلاديمير جابوتينسكي. وكانت هذه الحركة بين الحربين العالميتين توصف من قبل خصومها اليساريين بـ«الفاشية»، بسبب لا مبالاتها تجاه القانون». وهذه طريقة جادت في القول إن القيادة الإسرائيلية عام 2003 هي قيادة فاشية.
وواصلت «هآرتس» تقريرها فكتبت أنه بعد ثلاث سنين من ذلك، في أثناء حرب لبنان، نشر المفكر النرويجي يوستين غاردر مقالة في أهم صحيفة نرويجية، «أفتنفوستن»، قال فيها «لم نعد نعترف بدولة إسرائيل. لقد حان الوقت كي نتعود على أن دولة إسرائيل بصيغتها الحالية باتت من التاريخ». وبما يشبه النبوءة المسيحية كتب غاردر أن «دولة إسرائيل، بفنون الحرب عديمة الضمير التي تمارسها وبالأسلحة المقرفة التي تملكها، ذبحت شرعيتها. لقد استخفت بشكل منهجي بالقانون الدولي، بالمعاهدات الدولية، وبعدد لا نهائي من قرارات الأمم المتحدة. لقد قضت على اعتراف العالم، ولن تنال الهدوء، قبل أن تلقي سلاحها».
وأنهى غاردر مقالته بنبوءة غضب تتوقع خراب إسرائيل وخروج الشعب اليهودي إلى الشتات ثانية. وكتب «إذا غرقت الأمة الإسرائيلية كلها في خطاياها فسيضطر جزء منها للهرب للمنافي، ونحن نقول لجيرانها: كونوا هادئين وأظهروا الرحمة. إن هذه جريمة لا تغتفر أن تهاجم لاجئين وأناس لا دولة لهم».
ويرى الدكتور ريتشارد لاندس، المشارك في مؤتمر هرتسليا في مناقشة محور الوجود إن نقطة التحول بالنسبة للغربيين والأميركيين كانت مؤتمر كامب ديفيد قبيل الانتفاضة الثانية. وقال «حتى ذلك الحين كان كثيرون يتحدثون في وسائل الإعلام الأميركية بتفاؤل كبير، عن إحساس أن بالوسع حل كل المشاكل، وأن الإنسانية تسير نحو عالم أفضل. وحينها فشلت المحادثات ونشبت الانتفاضة، وتم اتهام إسرائيل بكل المشاكل».
وأضاف لاندس أنه «كانت تسمع في الماضي أصوات كثيرة في العالم العربي تنكر حق إسرائيل في الوجود، ولكن في السنوات الأخيرة صرنا نسمع ذلك في العالم الغربي. وأحد أسباب ذلك هو ببساطة «السياسة الواقعية». فلا أحد يشكك بحق الصين أو روسيا في الوجود، برغم وضوح أنهما تنتهكان حقوق الإنسان أكثر من إسرائيل، في الشيشان والتيبت، ولكن إسرائيل دولة صغيرة، يمكن تخيل وضع افتراضي تكف فيه عن الوجود». ولكن لاندس يرى أيضا في ذلك دليلا على الشماتة حيث باتهام الأوروبيين لإسرائيل بارتكاب الآثام يتحررون من وخز الضمير بشأن دورهم في الكارثة النازية.
ويلاحظ لاندس أن إنكار حق إسرائيل في الوجود في الغرب يأتي أساساً من دوائر المثقفين اليساريين، الذين شارك بعضهم في ارتكاب مظالم بحق الشعوب الأخرى. وفي نظر لاندس، فإنه «إذا كانت إسرائيل قد ولدت في الخطيئة، فإن كل دول العالم ولدت أيضا في الخطيئة».
حلمي موسى
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد